سحر المصري

علّمنا الحبيب عليه الصلاة والسلام أن نستخير الله جلّ وعلا في أمورنا كلها فقد روى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّلَمِيُّ رضي الله عنه قَالَ: “إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ هَذَا الأَمْرَ - ثُمَّ تُسَمِّيهِ بِعَيْنِهِ - خَيْرًا لِي فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ قَالَ أَوْ فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ اللَّهُمَّ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِه.”


والاستخارة هي لجوء إلى الله جلّ وعلا وأدب معه سبحانه وإقرار بعجز العبد وقصوره عن معرفة الخير والإحاطة بكل جوانب الأمور وتوجّه إلى القادر العالِم بالغيب المحيط بكل شيء ليهديه إلى ما فيه خيره وييسّره له ثمّ يرضيه به حتى تسكن نفسه ولا يبقى فيها تعلّق بما رغب به من غير ما أراد الله جلّ وعلا..

وإن كانت الاستخارة سنّة لنا في أمورنا التي أهمّتنا فأيّ أمر أهمّ من اختيار الشريك وأيّ قرار أعظم من الزواج فهو إمّا سعادةٌ وسَكَن وإمّا مأتمٌ وحزَن..

ويظنّ البعض أنّ نتيجة الاستخارة تكون في منام أو انشراح في الصدر فقط.. وحقيقة الأمر على غير ذلك فالانشراح وإن كان علامة في خيريّة الزواج إلاّ أنه لا يُعتَمَد عليه وحده في القرار لأن الفتاة أو الشاب قد يكون مرتبط عاطفياً بالطرف الآخر وراغباً فيه فلا يكون متجرِّداً كلياً فيتأثّر بالعوامل الخارجية من تعلّق أو هوى.. ولربما استند أصحاب مذهب الانشراح على الحديث الضعيف الذي رواه ابن السنِّي حيث قال “إذا هممتَ بالأمر فاستخر ربك سبعاً ثم انظر إلى ما يسبق في قلبك فإنَّ الخير فيه”. قال الحافظ ابن حجر: وهذا لو ثبت لكان هو المعتمد، لكن سنده واهٍ جداً. وقد يتوتّر المرء حين خوضه تجربة الاختيار لأنه أمر مهم له ويخاف من أخذ القرار وتتبّعاته فيعتقد أنّ هذا الانقباض هو نتيجة الاستخارة مع أنه أمر طبيعي في هذه المرحلة.. وقد يكون إعراضه عن الخطوبة ورفضه لهذا الزواج مجرّد هروب من الحيرة والخوف ومواجهة الذات فيخدع نفسه ليُخلِّصها من تحمّل المسؤولية وأعبائها متعلِّلاً بعدم ارتياحه بعد الاستخارة!   

أما الرؤيا والأنهار فيها والبياض والبساتين الخضراء فهي أقاويل متناقلة لا أصل لها في شريعتنا.. وإن حصل وكانت هناك رؤيا بعد الاستخارة فقد تكون مؤشِّراً ايجابياً ولكن لا يُعتمَد عليه في القرار..

وحقيقة الأمر أنّه إن أراد شابٌ أن يخطب فتاة بادر بالسؤال عنها والتحرّي عن وضعها وهل هي مناسِبة له أم لا.. ثم يستشير مَن يثق بدينه وعلمه وحكمته وبعد أن يأخذ بكل الأسباب يستخير الله جلّ وعلا متجرِّداً من الهوى متوكّلاً عليه سبحانه ومن بعدها يُقدِم على الأمر.. فإن تيسَّر وسهّله الله جل وعلا فهو خير وإن تعرقل وانتهى فهو خيرٌ أيضاً وهذه تكون نتيجة الاستخارة..

والاستشارة مهمة جداً لأن رأي أهل العقول أقوى من رأي الشخص نفسه الذي قد يميل إلى كفّةٍ دون أُخرى استجابة لحظوظ هواه.. قال النوويّ: يُستحَبّ أن يستشير قبل الاستخارة مَن يعلم مِن حاله النصيحة والشفقة والخبرة ويثق بدينه ومعرفته..

وكذلك الفتاة إن تقدَّم لها شاب يريد خطبتها فتسأل عنه وتتأكّد من ركيزتَي الاختيار الأساسيَيْن من خُلُقٍ ودين ثم تتباحث الأمر مع أهلها ومَن تثق بدينه وعقله هل يناسبها هذا الشاب وهل هو كُفْءٌ لها وهل توجد في هذا الارتباط مقوّمات الزواج الناجح أم لا.. وتكون في هذا كلّه ميّالة عن الهوى.. فإن شعرت أنه اختيار صحيح تُقبِل على الأمر بعد صلاة الاستخارة مفوِّضةً أمرها إلى الله جلَّ وعَلا.. أمّا إن توصّلت لقناعة أنه لا يناسبها في دينه والتزامه وخُلُقه أو كفاءته فترفض مباشرة دون قلق ليقينها أنّها لن تسعد معه وتدعو الله جلّ وعلا أن ييسِّر لها خيراً منه..

إذاً فإنّ اتّخاذ قرار الزواج بحاجة إلى موضوعية ودراسة كافة الاحتمالات بواقعية وتروّ وعقلانية وبعد الإحاطة بكل حيثيّات الأمر وتناول سلبياته وايجابياته تأتي الاستخارة لتتوِّج القرار.. فإن ارتضى المرء الأمر ورآه مناسباً له وأخذ بأسبابه من مشورة وتقصّي صلّى الاستخارة وطلب من الله جلّ وعلا تقدير الخير له وتيسير الأمور لما فيه صلاحه..

وقد يتساءل المرء بعد أن يخوض تجربة زواج فاشلة لِم قدَّر الله جلّ وعلا هذا الزواج من الأساس طالما أنّ منتهاه هو الطلاق؟ فلهذا نقول أنّ أمر المؤمن كلّه له خير إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضرّاء شكر فكان خيراً له كما أخبر الحبيب عليه الصلاة والسلام وقد تكون في هذه التجربة كل الخير لك ولكنك بعلمك القاصر لا تدرك الحِكمة منها.. والابتلاء هو تمحيص لإيمان المسلم وتكفير لذنوب ورفع للدرجات إن رضي.. وقد كان السلف يفرحون بالمصيبة أكثر من سعادتهم بالنِعَمة فأشدّ الناس بلاءاً الأنبياء ثم الأولياء ثمّ الأمثل فالأمثل..

ثم قد يكون المرء حين دراسته لأهليّة هذا الزواج لم يقم بالأخذ بكافة الأسباب من دراسة وافية واستشارة والسؤال عن الشريك.. فبادر إلى حسم الموضوع وأخذ القرار بمجرد أنه صلّى الاستخارة وشعر بالانشراح الذي قد يكون أصلاً تبعاً لهواه.. فلينظر بعد الطلاق أو تعاسته في الزواج إلى بداية الأمر كيف كانت ليعرف الخلل قبل أن يرمي بالمسؤولية كاملة على الاستخارة وقدر الله تعالى..

وفي بعض المجتمعات التي لا تلتفت إلى رأي الفتاة قبل الزواج تقوم الفتاة بصلاة الاستخارة ولكن القرار يكون في يد أهلها لا يدها هي فهنا أيضاً لا يُعتَدّ بالاستخارة لأنها شكليّة ولم تتحقق شروط الزواج الناجح من الأصل..

ويتساءل البعض هل تجوز الاستخارة في الطلاق؟ خاصّة أنّهم قاموا قبل ذلك بالاستخارة للزواج وارتضوا بالخير الذي قدّره الله جل وعلا لهم فيه فكيف يختارون الطلاق حلاً لفشل زواجهم وقد ارتضوا أمر الله ابتداء؟

وفي هذه الحالة نقول أنه فرار من أمر الله جلّ وعلا إلى أمر الله.. فإن استحال العيش مع الشريك وخشي طرف من الطرفين على نفسه الفتنة ولم يعد قادراً على “الاصطبار” فلا حلّ إلا الطلاق الذي أحلّه الله جل وعلا للخروج من علاقةٍ باتت تدمِّر أكثر مما تبني.. وله أيضاً أن يستخير الله جل وعلا في الطلاق فهذا الأمر شرعاً جائز وهو تسليم كامل لله جل وعلا والتجاء إليه سبحانه..

وفي النهاية الاستخارة دعاء إلى الله جلّ وعلا فيجيب متى يشاء ومَن يشاء وقد يؤخِّر الاستجابة لأمرٍ يريده جلّ في علاه وتقديرٍ يراه هو الخير لعبده.. فهو لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسأَلون..

كلمةٌ أخيرة.. الزواج حياة كاملة وليست سويعات ليتسرّع المرء بأخذ قراره ويخضع لهواه ثم يمضي متخيّلاً أنّ السعادة كلها  ستكون بين يديه حتى إذا ما ذابت الثلوج بانت المساوئ.. إنّ قرار الزواج هو من أخطر القرارات التي يمكن أن يتخذها المرء.. وأي خطأ فيه تكون النتيجة مؤلمة.. فقد يدفع المرء حياته كاملة ثمناً لاختيار خاطئ.. ناهيك عن البؤس والألم والتعاسة للأسرة بأكملها وليس للشريكين فقط بل للأولاد أيضاً.. وحتى لو خرج الطرفان من أتون الزواج البائس وتمّ الطلاق.. إلا أن هذا الجرح يبقى نازفاً في حياة الأسرة ما نبض القلب..

ولتفادي الفشل والبؤس.. فلنقم بخطوات الأمر كاملةً كما تمليه عليه شريعتنا..

ولنستخِر من قبل.. ولنرضَ من بعد!

 

 

مدونة الظلال الوارفة

JoomShaper