خدمة الزوجة لبيتها.. واجب أم تطوّع؟!
نضال العبادي
كان عنوان لقائي السابق معكم هو: “إنما الطاعة بالمعروف”، وقد نشر في العدد الذهبي (100)، وعرفنا فيه بالأدلة الشرعية الثابتة؛ أن الزوجة ليست أَمَةً ولا جاريةً ولا مِلْكَ يمين، وأن الطاعة الزوجية ليست طاعةً مطلقةً ولا متعسفةً ولا طالبةً للمستحيلات ولا المعجزات، وإنما هي طاعةٌ مُقَنّنةٌ مُنَظّمَةٌ مُنْضَبِطَةٌ مُقَيّدَةٌ مُحَدّدَةٌ: بطاعة الله ورسوله، وفي غير معصية، وبالمعروف الذي تعارف عليه المسلمون مما لا يتعارض مع الشريعة الغرّاء، وبقوانين الأسرة الشرعية المرعية، وضمن إمكان قدرة الزوجة واستطاعتها، وأنها طاعة للزوج وحده دون غيره من أهله.
أما مقالي هذا فتسلسله الخامس والعشرون في سلسلة الأسرة والزواج، وهو سادس مقالات “الطاعة الزوجية… أمان وإيمان”، وسأتناول فيه وفي المقال الذي يليه بإذن الله تعالى موضوعاً حيويّاً هو “خدمة الزوجة لبيت الزوجية”، لنرى هل هذه الخدمة داخلة في الطاعة الزوجية أو غير داخلة، وسأجيب فيه على أسئلة متعددة، منها:
هل من الطاعة الزوجية أن تقوم الزوجة بخدمة نفسها وزوجها وبيتهما وأولادهما وضيوفهما على سبيل الوجوب والإلزام، أو أنها تقوم بذلك تطوّعاً وطلباً للأجر والثواب على سبيل الندب والاستحباب؟
وهل يجب على الزوج أن يقوم بأعمال المنزل بنفسه أو يساعد فيها؟ وهل ترضى الزوجة ذلك لزوجها أو ابنها المتزوج أو أخيها أو أبيها أو من يهمها أمره من الرجال؟
وهل يجب على الزوج أن يستأجر لزوجته خادمة تخدم البيت وتقوم بأعماله؟
وهل عقد الزواج هو عقد وطء واستمتاع واستبضاع وإنجاب وعلاقات اجتماعية ونحوها فقط؟ أو هو عقد يشبه عقد العمل والاستصناع بين الزوج وزوجته؟
وهل تستحق الزوجة أجرة مالية على قيامها بخدمة زوجها؟ وغير ذلك من استفسارات.
إن الذي دفعني للكتابة في هذا الموضوع اليومي الحياتي الحساس هو؛ قراءتي وسماعي ومشاهدتي لبعض الإخوة الأفاضل من الدعاة، وخاصة من الأخوات الداعيات، مع كل الاحترام والتقدير لأشخاصهم وجهودهم وعلمهم، والذين أصبح كلامهم متداولاً بين الكثيرات من الزوجات.
وخلاصة ما قالوه ونقلوه هي أن: [عقد الزواج عقد نكاح وجماع واستمتاع، هدفه غض البصر وحفظ الفرج وإنجاب البنين والبنات، وأن طاعة الزوج تكاد تكون مقتصرة على "طاعة الفراش: أي تلبية رغبته الجنسية، وعدم الخروج من بيته إلا بإذنه، وعدم السماح بدخول بيته إلا لمن يأذن هو له"، وأن الزوجة غير ملزمة بخدمة نفسها فضلاً عن زوجها وأولادها وبيتها، وأنه ينبغي على زوجها أن يُحضر لها خادمة، أو أن يتبادل هو معها الأدوار والأعمال المنزلية الداخلية إلزاماً، وإن لم يفعل كان مخالفاً لهدي النبي r ، وأنها لا تأثم إن قصّرت بأعمال البيت أو لم تقم بها أصلاً، لكنها تؤجر وتشكر إن قامت بذلك تبرّعاً وتنفّلاً وتكرّماً، لأنها عندئذ تكون متفضلةً متمننةً قائمةً بما لا يلزمها شرعاً ولا قانوناً].
انتهت خلاصة ادّعاء أولئك الإخوة والأخوات وزعمهم، القائم على بعض الآراء والاجتهادات الفقهية المذهبية المرجوحة، وغير المعتمد على الدليل الشرعي من الكتاب والسنة، والمبتعد عن الاقتداء بالسلف الصالح من هذه الأمة، والمخالف للواقع التاريخي للأسرة قبل الإسلام وبعده، والمتعارض مع الدور الذي هيأ الله له كلاًّ من الرجل والمرأة، والبعيد كل البعد عن الفطرة والصبغة التي خلق الله عليها كلاًّ منهما، والخاص ببعض الحالات في بعض الأزمنة أو في بعض الأمكنة أو على بعض الناس، والذي يخطئ من يعممه وينشره، دون الإحاطة بمسوغاته، فيصدر فتوى عامة طائشة قاتلة، دون تمحيص أو تثبّت أو تحقيق، تكون فتواه (فتوى ضِرار)، ضررها أكبر من نفعها، تشبه القصف العشوائي، وتنسب للشريعة الإسلامية ما ليس منها، ويحسب مُصدِرُها وناقلها وناشرُها أنه أحسن صنعاً، وفتح فتحاً مبيناً، وانتصر نصراً عظيماً مبيناً عزيزاً مؤزراً، فاق السابق واللاحق، وسبق الأول والآخر، وأتى بما لم يأت به سواه.
فترى أحدهم يعلنها على الملأ صرخة مدوّية عبر بعض وسائل الإعلام كالإذاعات والتلفزيونات والفضائيات، بأن الإسلام احترم المرأة وأعطاها حقوقها ومكّنها وساواها بالرجل، ومن ثم فهي غير ملزمة بالقيام على خدمة بيتها وإنما تخدمه تطوّعاً بإرادتها، وأنه يجب على زوجها أن يعمل بالبيت مثلها أو قريباً منها أو يُحضر لها خادمة، على الرغم من أنه ليس بين أيديهم أي دليل معتبر، سوى قولهم بأن النبي r كان يكون في مهنة أهله، بحيث يخال للسامع كأن النبي r الذي قضى حياته عابداً مجاهداً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ساعياً على الأرملة والمسكين، ماشياً في قضاء حوائج الناس وإصلاح ذات بينهم، لا يترك عملاً منزليّاً إلا ويقوم به يوميّاً وعلى مدار الساعة وفي المجالات كلها، وكأنه r كان لا يغادر المطبخ، ولا ينزع مريوله عن صدره وحضنه، ولا يترك المكنسة من يده، ونحو ذلك من أوهام، فنرى ونسمع من يخاطب النساء بهذا الخطاب الذي بات عند البعض وكأنه دِين الله وشرعه، وكأنه من البديهيات والمسلّمات، وبات يستهوي بعض النسوة، ويدغدغ عواطفهن ويطرب آذانهن، وخاصة من كُسالى الزوجات، والفتيات المقصّرات، ذوات النوم الطويل والخروج بالغدوّ والرجوع مع وقت الأصيل، فتظن إحداهن بأن تلك الفتوى التي وافقت هواها وحياً يوحى، إما من القرآن أو سُنّة من سيد الأكوان r .
فيكاد من يُفتي بذلك وينشره من حيث يدري أو لا يدري؛ أن يغير فكراً وسلوكاً، ويفسد علاقة زوجية، ويحرض ويخبب زوجة على زوجها، ويدمر بيتاً وأسرةً.
وحتى نتفق على المصطلحات، فإنني أقول: لا أقصد بالأعمال المنزلية أعمال البناء والصيانة والعمارة أو الكهرباء والماء أو الأعمال الشاقة كرفع الأثاث الثقيل، وإنما أقصد بها الأعمال المنزلية الخدماتية المتعارف عليها بين الناس والتي تقوم بها المرأة عادة بالقليل من التعب والجهد وتشعر رغم ذلك بالاستمتاع، والتي يعينها زوجها في بعضها أحياناً.
أعني بذلك تقديم خدمات منوعة ومتميزة “10 نجوم” شكلاً ومضموناً داخل بيت الزوجية، وهذا يشمل القيام بأعمال التدبير المنزلي، التي تُدرّس الآن في المدارس والمعاهد والجامعات، وتُعقد لها الدورات تحت اسم “التدبير المنزلي” والفندقة، والتي تضم أموراً كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر: خدمة الزوج، ورعاية الأبناء والاعتناء بهم وتربيتهم، وإكرام الضيوف، وتطييب الأجواء بالروائح الشذية والعطور الزكية، وطهي الطعام وجلي أوانيه، وإعداد المشروبات الساخنة والباردة، وصناعة الحلويات البيتية، وتنظيف البيت ومنافعه وتوظيب أثاثه الخفيف وفراشه الوثير؛ نفضاً وتشميساً وتهوية وكنساً ومسحاً وغسلاً وكيّاً، وغيرها من الأعمال التي من شأنها تهيئة الأجواء المخملية والعاطفية والرومانسية؛ المريحة للزوج، المسعدة للنفس، المفرحة للقلب، المؤنسة للفؤاد، المبهجة للوجه، السارّة بمنظرها وجمالها وزينتها للبصر والنظر، المعطّرة بشذاها للأنف، المطرية بهدوئها للأُذن، غير المزعجة للمس، اللذيذة للمعدة، والتي تحقق السكينة وتزيد المحبة والرحمة والمودة.
وقبل أن أدخل في التفاصيل الشرعية، أريد أن أؤكد على بعض الحقائق:
أرجو أن لا ينظر إلى ما أوردته في مقالاتي السابقة والحالية واللاحقة من زاوية أنني رجل وأنني زوج “ذكر” فقط، لأنني بالإضافة لتلكما الصفتين لست منقطعاً من شجرة، ولست من عائلة نسلها كله أزواج ورجال، فعندي أمٌّ فاضلة، ولي عمّات وخالات، وكان لي جدات رحمهن الله تعالى، وأنا أخ لأخت متزوجة، وأب لبنت متزوجة، وكلهن ذوات ذريات من البنين والبنات، فما أرضاه لهن أرضاه لبنات المسلمين أجمعين، وهذه الحقيقة أستحضرها عند كتابة كل مقال، وعند كل درس أو محاضرة أو ندوة لها علاقة بالنساء والزواج، ومعظم من ذكرت يقرأن مقالاتي، وربما عرضت أكثرها على بعضهن قبل نشرها.
إن الزوجة الطائعة القائمة بخدمة زوجها وأولادها وبيتها، هي زوجة محبوبة عند الله ورسوله، ثم عند زوجها وأولادها وأحمائها، وممدوحة عند كل من يسمع عنها أو يزور بيتها فيراه واحةً غناء وروضةً فيحاء.
وهي أيضاً مأجورة إذا قصدت بتلك الخدمات وجه الله تعالى وإرضاءه ثم الوصول إلى قلب زوجها وحبه.
وهي كذلك يزداد أجرها عند الله إذا أتقنت عملها، فالله يحب منّا إذا عملنا عملاً أن نتقنه.
إن معظم النساء وفي الأديان والشرائع والأمم كلها، قديمها وحديثها، مدنيها وقرويها، عالمها وجاهلها، من بداية التاريخ، وحتى من اللواتي وصلن للقمر أو الزهرة أو المريخ، وإلى أن يبعث الله الأرض ومن عليها، مهيئات ومفطورات على القيام بشؤون بيوتهن والعناية بها، كل بحسب عاداته وتقاليده وقوته وإمكاناته، مع اختلاف في الكيفيات والطرق والمقادير، ناتج عن الفروق في أحوال المكان أو الزمان أو الإنسان، فلكل عصر أعراف قد تختلف عن عصر آخر.
كما أن معظم أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا وزوجاتنا، حتى في عصر النبي r وفي خير القرون، اعتدن على خدمة بيوتهن وآبائهن وأبنائهن وإخوانهن وضيوفهن، وبسعادة غامرة، ولا يرغبن بتدخل الرجال في شؤون البيت الخاصة التي اعتادت النساء القيام بها، ويحرصن على تهيئة سبل الراحة لهم، حتى لو قدم الزوج راغباً بالخدمة طواعية وعن طيب خاطر فإنهن لا يرضين بذلك.
بعد هذا المدخل وهذه المقدمات التي أرى أنها ضرورية، سأذكر لكم حجة من قال بأن المرأة غير ملزمة بخدمة زوجها وبيتهما وأولادهما، وسأختم به مقالي ومن ثم أبتدئ منه في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
إن الحديث الوحيد الأوحد الذي اعتمد عليه من أفتى بأن الزوجة غير ملزمة بخدمة زوجها هو جواب السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها على سؤال الأسود بن يزيد الذي قال لها فيه: ما كان النبي r يصنع في البيت؟ فردّت عليه قائلةً: “كان يكون في مَِهْنَةِ [خدمة] أهله، فإذا سمع الأذان خرج”. (صحيح البخاري: 5363 و 676 و 6039).
ولن أعلق على هذا الحديث اليوم، لأن التوضيح يحتاج لمقال كامل، ولذلك أعتبر هذا كالدعاية أو الموجز الذي يليه بإذن الله النشرة الكاملة بالتفصيل، لنتعرف معاً على الحقيقة؟ ونصل إلى الصواب، هذا ما سنلقي عليه إطلالة في المقال القادم إن شاء الله.
المصدر:شبكة كافور
التدبير المنزلي مسؤولية من؟
- التفاصيل