جميل حسين الأحمد
أرسى الدين الإسلامي الحنيف أسس الحياة الاجتماعية والنفسية والروحية للمسلمين, ومن ذلك إرساء الدعائم المُثلى لمعاملة الجيران، وذلك لبسط أجواء من الأمن والطمأنينة والاحترام المتبادل بينهم.. جيران الأسرة من عوامل هنائها أو شقائها, وعلى قدر ما يكون بينها وبينهم من إلف أو خلف تحلو الحياة أو تسوء, وهم أقرب إليها وأسرع إلى نجدتها- حين يفاجئ مكروه في ليل أو نهار- من بعض الأهل الذين نأت بهم المنازل, وشطت الديار, وقديمًا تعوّذوا من جار السوء فقالوا «أعوذ بالله من جار السوء.. عينه تراني، وقلبه يرعاني.. إن رأى حسنة سترها، وإن رأى سيئة أذاعها».
في الجاهلية:
وما كان حاتم الطائي مثلًا شرودًا في الجود فحسب ولكنه كان كما قال الرسول  "صلى الله عليه وسلم" : «يحب مكارم الأخلاق»، فكان صورة عربية أصيلة للحفاظ على حرمة الجار، فهو يقول:
إذا ما بت أختل عرس جاري   ليخفيني الظلام, فلا خفيتُ
أأفضح جارتي, وأخون جاري    فلا- والله- أفعل, ما حيَيت
ويقول:
ولا تشتكيني جارتي, غير أنها    إذا غاب عنها بعلها, لا أزورها
سيبلغها خيري ويرجع بعلها      إليها, ولم تُقْصَر عليها ستورها!

ويقول حاتم: «والله ما خاتلت جارة لريبة قط, ولا ائتمنت على أمانة إلا أديتها, ولا أُتِي أحد من قِبَلي بسوء».

ومن شعر الجاهلية الذي ينسب لعنترة:

وأغضّ طرفي إن بدت لي جارتي   حتى يواري جارتي مأواها!!

أدب الإسلام والجيران
هذه اللبنات الصالحة من آداب الجاهلية, هي التي اعتبرها الرسول الأعظم وهو يقول «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (1).
ولقد وضع الله الجيران في مكانهم, من آية الحقوق العشرة فقال {والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل...} (النساء: 36).
فأوجب سبحانه للجيران- من قرابتنا أو من غيرهم وإن تعددت بيننا وبينهم المذاهب واختلفت الأديان- حق البر بهم والإحسان إليهم, فلقد عاد الرسول وَلَدَ جارهِ اليهودي من مرضه (2)، وجعل- صلوات الله عليه- الجيران ثلاثة، فجار له ثلاثة حقوق وهو جارك ذو القرابة المسلم (له حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام)، وجار له حقان وهو جارك المسلم (له حق الجوار وحق الإسلام)، وجار له حق واحد وهو جارك غير المسلم (له حق الجوار).

واستنَّ أصحابه سنة البر بالجيران مسلمهم وغير مسلمهم، فهذا عبدالله بن عمر يأمر غلامه بذبح شاة وتفريقها على جيرانه ويقول: وابدأ بجارنا اليهودي فإني سمعت رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"  يقول: «مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورِّثه» (3).

إن أدنى حقوق الجيران في الإسلام أن نكف عنهم كل أذى, وألا نتحسس أخبارهم ونتتبع عوراتهم, وأجمع الأقوال في ذلك قول المعصوم صلوات الله عليه: «من أغلق بابه دون جاره مخافة على أهله وماله, فليس ذلك بمؤمن, وليس بمؤمن من لم يأمن جاره بوائقه (غشمه وظلمه) أتدري ما حق الجار؟ إذا استعانك أعنته, وإذا استقرضك أقرضته, وإذا افتقر عدت عليه, وإذا مرض عدته, وإذا أصابه خير هنأته, وإذا أصابته مصيبة عزيته, وإذا مات اتبعت جنازته, ولا تستطيل عليه بالبنيان فتحجب عنه الريح إلا بإذنه, ولا تؤذيه بقتار ريح قدرك إلا أن تغرف له منها، وإذا اشتريت فاكهة فأهد له، فإن لم تفعل فأدخلها سرًّا, ولا يخرج بها ولدك, فيغيظ بها ولده» (4).

وكأنما كان ينظر محمد صلوات الله عليه إلى الحياة من ستر رقيق, فالمجتمع تضطرب أسره في مجالٍ تتناكر فيه ولا تتعارف، وتستطيل في البنيان، وتقول كل أسرة: أنا, وبعدي الطوفان وتخلق أسباب التعادي إن لم تجيء عفوًا, إلا من عصم الله! وسل في أقل القليل أولئك الذين يسيئون استعمال أجهزة الراديو والتلفزيون, هل حسبوا حساب المريض تزعجه الضوضاء؟ والدارس الذي يمنع الضجيج دراسته؟ والعامل الذي أوى إلى فراشه يستجم من عناء يومٍ مضى ويستعد لجهاد يوم يقبل فينفي النوم عن عينيه صوت هذه الأجهزة الذي يغشى منازل الناس على الرغم منهم؟!

لقد كان بعض بني عبد مناف يلقي الأذى على عتبات دار الرسول  "صلى الله عليه وسلم" , وفي طريقه فيقول: «يا بني عبد مناف أيُّ جوارٍ هذا»، وهو بذلك يعلمنا الرفق في العتاب حين يجاوز الناس حدودهم ويعصون الله ورسوله بأذى جيرانهم!

قال كعب: «إن رجلًا أتى إلى النبي  "صلى الله عليه وسلم"  فقال يا رسول الله إني نزلت محلة بني فلان وإن أشدهم لي أذى أقربهم لي جوارًا, فبعث الرسول  "صلى الله عليه وسلم"  أبا بكر وعمر وعليًّا رضي الله عنهم يأتون المسجد فيقيمون على بابه, فيصيحون ألا أن أربعين دارًا جار، ولا يدخل الجنة من خاف جاره بوائقه» (5).

إنها لمهمة جليلة, ينتدب لها الرسول من صحابته هؤلاء النفر الكرام، وبقي حق الجوار مرعيًّا حتى قال قائلهم:

ثنتان لا أدعو لوصلهما   عُرْسُ الخليل، وجارة الجنْب
أما الخليل فلست غادره  والجار أوصاني به ربي

في الأدب العربي أمثلة لا نستوعبها لكثرتها في حسن الجوار والأخوة في الإنسانية، وهي علاقة أساسها الإيمان وحب الخير والتعاون على البر بين الناس ومن ذلك أقوالهم:

ونكرم جارنا مادام فيــنا   ونتبـــعه الكرامة حيث مالا
ومن لم يصن حق الجوار فإنه  يلاقي من الأهوال ما ليس ينتهي

ولقد مات أحدهم فبكته إحدى جاراته أحر بكاء, فلما سئلت في ذلك قالت: «جاورناه وما منا من أحد إلا وتحل له الصدقة, ومات عنا وما منا من أحد إلا وتجب عليه الزكاة».

وكانوا يضربون المثل بجار أبي داود وكان إذا مات لجاره بعير أو شاة أخلَفَه، وإذا مات له قريب وداه (دفع ديته)، وكان لأبي دلف جار ببغداد, أدركته حاجة, وركبه دين مبهظ, حتى احتاج إلى بيع داره, فساوموه فيها فسمَّى ألف دينار, فقالوا له: إن دارك تساوي خمسمائة دينار، فقال: «أبيع داري بخمسمائة، وجوار أبي دلف بخمسمائة» فبلغ أبا دلف الخبرُ فأمر بقضاء دينه، ووصله، وقال: لا تنتقل أبدًا من جوارنا.

فهل ندرك من خلال ذلك ما يمكن أن يؤديه بر الجيران من رفاهية الأسرة وسعادتها وما يمكن أن يعقبهُ التطاول عليهم, والظلم لهم من فتن ومحن لا تطيب معها الحياة.

خبير استشارات تربوية
72

جاورناه وما منا من أحد إلا وتحل له الصدقة ومات عنا وما منا من أحد إلا وتجب عليه الزكاة

المراجع

1- الموطأ في رواية مالك.

2- الطبراني في هامش الترغيب ج3 ص361.

3- الترغيب والترهيب ص 362، أخرجه البخاري: (6015) ومسلم: (2625).

4- المصدر نفسه ص 357.

5- المصدر نفسه ص 353.

JoomShaper