تمثل الأسرة في التصور الإسلامي النواة التي يتكون منها المجتمع؛ فهي المحضن الذي يتولى إخراج الإنسان "الصالح" الذي يتولى عمارة الدنيا وصيانة الدين.
وظل المجتمع الإسلامي يستمد عافيته وحيويته من تعافي الأسرة المسلمة، وصحتها النفسية، وتماسكها الداخلي، حيث اعتبر الإسلام "الأسرة" هي المحور والمرتكز؛ على أساس أنها المكون الطبيعي للمجتمع، على عكس الثقافة الغربية التي اعتبرت المرأة المحور والأساس؛ فقد تضاءل هناك دور الأسرة، ولم تعد هي النواة التي ينبثق عنها المجتمع، بعد أن تفشت العلاقات المحرمة خارج إطار الزوجية الطبيعي؛ مما ترتب عليه مشاكل جمة، قد نتعرض لبعضها في ثنايا حديثنا.
ومما لا شك فيه أن الأسرة المسلمة تتعرض لهجمات شرسة من أجل توهين المجتمعات الإسلامية وتجريدها من أحد أهم أسباب قوتها وديمومتها، فالعالم الغربي - كما يقول د.عبد الوهاب المسيري ــ رحمه الله – أدرك أن: "نجاح مجتمعات العالم الثالث في مقاومته يعود إلى تماسكها، الذي يعود بدوره إلى بناء أسري قوي، لا يزال قادرا على توصيل المنظومات القيمية والخصوصيات القومية إلى أبناء المجتمع، ومن ثم يمكنهم الاحتفاظ بذاكرتهم التاريخية وبوعيهم وثقافتهم وهويتهم وقيمهم ". [الأنثوية ما بين حركة تحرير المرأة وحركة التمركز حول الأنثى].
ومن هنا كان العبء الملقى على منظمات العمل التطوعي من أجل المساهمة في الحفاظ على الكيان الأسري، من خلال الرؤية التالية:
أولاً: العمل التطوعي والمساهمة في بناء الأسرة:
وذلك عن طريق العمل على تشجيع الزواج الشرعي، وتيسير أسبابه، ومناهضة محاولات البعض تسييد المفاهيم الغربية الرامية إلى التضييق على الزواج الشرعي، وتشجيع العلاقة بين الرجل والمرأة خارج إطار الزوجية. وللأسف، فما زالت بعض العادات المجتمعية تلعب دورا في تعسير الزواج، من حيث ارتفاع كلفته، والمتطلبات المادية الضخمة التي يواجَه بها الشباب وهم في مقتبل أعمارهم؛ مما يجعلهم ينصرفون عنه، مما قد يعرضهم للوقوع في شرك الرذيلة. لذا كان العبء ملقى على منظمات العمل التطوعي في تكثيف حملاتها التوعوية من أجل تذكير المجتمع بنهج الإسلام القويم في التيسير في أمر الزواج، هذه الحملات التي من الممكن أن تنطلق في صور شتى ومتنوعة من دروس، وخطب، وملصقات، وإعلانات مرئية.
كما أن منظمات العمل التطوعي يمكنها أن تلعب دورا في مساعدة الشباب والفتيات في شأن الزواج، من خلال توفير القروض الحسنة الميسرة، والمساهمة من خلال التبرعات الموجهة لهذا الشأن.
ثانياً: مناهضة المنظمات التطوعية لتمرير التشريعات والقوانين:
التي من شأنها تقويض دعائم الأسرة المسلمة.. فالمجتمع العربي والإسلامي يتعرضان لحملة شرسة من أجل القضاء على ثوابته وقيمه ومرتكزاته، من خلال العمل على تقييد الدول العربية والإسلامية بمجموعة من المعاهدات الدولية التي تسمح بالتدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول، من أجل تشريع قوانين أو إلغاء قوانين تعمل على تمرير مثل هذه الأجندات الدولية.
ولعل أخطر هذه المعاهدات التي وجدت طريقها داخل البنية التشريعية للعديد من الدول العربية معاهدة اتفاقية إلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة، المعروفة إعلاميا باسم "السيداو" (CEDAW)، وهي المعاهدة التي وضعت مفهوما جديدا للأسرة غير الذي تقره شريعتنا الغراء، حيث تعترف المعاهدة بحق المثليين في إقامة الأسر، وكذلك إباحة إنشاء الأسر دون زواج شرعي معتمد. وقامت المعاهدة بإعادة تعريف الأدوار التي يقوم بها كل من المرأة والرجل داخل الأسرة، حيث ألغت مفهوم القوامة، وتحدثت عن "الجندر"؛ أي النوع، ودعت إلى تأمين العلاقات المحرمة عبر نشر ما يسمى بالصحة الإنجابية، التي تتيح لكل من الشاب والفتاة ممارسة جنسية آمنة (خارج أطر الزوجية بطبيعة الحال)، وشددت "السيداو" على رفع سن الزواج بالنسبة للفتاة إلى 18 سنة.. إلى آخر بنود المعاهدة، التي تعتبر من أخطر الوثائق الدولية التي قننها الغرب عبر المؤسسات الدولية "الأمم المتحدة"، من أجل تسييد منظومته الأخلاقية ورؤيته الاجتماعية، وذلك عبر حزمة ضخمة من الحوافز المالية.
وللأسف، فحتى وقت قريب كانت بعض الدول العربية قد بدأت في تعديل قوانينها للاتساق مع المعاهدة المذكورة؛ ففي مصر - على سبيل المثال - تم رفع سن زواج الفتاة إلى 18 سنة؛ مما سبب حرجا مجتمعيا، خاصة في صعيد مصر والريف، حيث اعتادت الأسر على تزويج بناتها في سن مبكرة؛ مما اضطروا معه إلى الاكتفاء بالعقد الشرعي، والانتظار لتوثيقه حين بلوغ السن القانونية. ومن هنا يبرز دور المنظمات الأهلية والتطوعية في مكافحة ومناهضة مثل هذه القوانين، والقيام بجهد تنويري في المجتمعات تبصيراً وتوعية بخطورة تمرير هذه المعاهدات على تماسك الأسرة، ومن ثم على ترابط المجتمع بأَسْرِه.
ثالثاً: قيام المنظمات التطوعية بدور رائد في مكافحة الطلاق:
وذلك بتحجيمه داخل المجتمعات العربية والإسلامية، إذ شهد العالم العربي في السنوات الأخيرة ارتفاعا كبيرا في نسبة الطلاق والخلع.
ويتم ذلك من خلال تدريب المتطوعين القادرين على حل المشكلات الأسرية، وتقديم الدعم اللازم للزوجين لعبور الأزمات التي قد تعصف بكيان الأسرة، وتوسُّع المنظمات التطوعية في تقديم المشورة المجانية للأسرة.
كما أن المنظمات الأهلية يمكنها تبني استراتيجية استباقية لمحاصرة المشاكل التي تؤدي إلى هدم كيان الأسرة، خاصة فيما يرتبط بالعنف الأسري الموجه ضد المرأة، وغياب التفاهم بين الزوجين، خاصة في سنوات الزواج الأولى.
رابعاً: دَور المنظمات الأهلية في معالجة الآثار السيئة الناجمة عن انفصال الزوجين:
خاصة فيما يتعلق بالأطفال ورعايتهم، والذين قد يتحولون إلى ضحايا لانفصال الزوجين؛ نتيجة التشتت الذي يعانون منه، وتمزقهم بين الطرفين؛ مما قد يسهم في تحويل هؤلاء الأطفال إلى مشاريع إجرامية وانحرافية، خاصة وأن هناك العديد من حالات الطلاق تنتهي بالأطفال إلى الشارع.
ومن هنا يأتي دور المنظمات التطوعية في توفير الرعاية البديلة، أو محاولة إعادة اللحمة إلى الطرفين من أجل استئناف الحياة الزوجية على أسس جديدة، تستفيد من الأخطاء، وتحاول استدراك ما فات.
والخلاصة: أن استهداف المجتمعات العربية والإسلامية يبدأ من استهداف وحدتها البنائية الاجتماعية، وهي الأسرة، مما يستوجب أن تُعظّم المنظمات التطوعية من جهودها من أجل العمل على إنشائها، والمحافظة عليها، وتدعيم وجودها، وتطوير رسالتها.. فقديما قال الشاعر:
الأم مدرسة إذا أعددتها *** أعددت شعبا طيب الأعراق
المصدر : انسان اون لاين
العمل التطوعى ودوره فى مجال بناء الأسرة المسلمة
- التفاصيل