أ.د. حسن عبد الغني أبوغدة
إن مدلول كلمة "الأسرة" في الشريعة الإسلامية أوسع مدى وأبعد أثراً من مدلولها عند غير المسلمين؛ لأن الأسرة في الإسلام تشمل الزوجين والأولاد الذين هم ثمرة الزواج، كما تشمل أولاد الأولاد، بالإضافة إلى أنها تشمل الأصول من الآباء والأمهات، والأجداد والجدات وإن علوا، وفروع الآباء والأمهات والأجداد والجدات كالإخوة والأخوات والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، وأولاد هؤلاء جميعاً. وهكذا يتسع مدلول أسرة كل مسلم ليشمل جميع أقاربه.
وقد رتبت الشريعة حقوقاً محددة لكل قريب على قريبه، تتفاوت درجاتها بحسب درجة القرابة، ولاشك أن حقوق الأقارب الأقربين أعظم وأوفر من حقوق الأبعد منهم، وهكذا حال كل قريب.
لكن من الملاحظ أن حقوق الزوجين استحوذت على قسم كبير من أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية، مع أن غيرها –كحقوق الوالدين- أعظم منها من حيث البر والطاعة والأجر، وربما يعود السبب إلى كون العلاقة الزوجية هي المبدأ في تكوين الخلية الاجتماعية الأولى، لذلك كانت بحاجة إلى أن تحاط بالرعاية والاهتمام والمزيد من البيان التشريعي، من خلال تتابع الأحكام والتوجيهات والإرشادات المتعلقة بها.
هذا، وإن الزوجية في المنظور الإسلامي أساس العلاقة الفطرية بين الرجل وبين المرأة، وكل العلاقات الأخرى الخارجة عن إطار الزوجية تعتبر حراماً وإثماً. يقول الله تعالى في الآية 5-7 من سورة المؤمنون: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون}.

ويتصف الزواج في الإسلام بمرتبة سامية متميزة، وقد سماه الله تعالى ميثاقا غليظا فقال في الآية 21 من سورة النساء: {وأخذن منكم ميثاقا غليظا}.

قال مجاهد: الميثاق الغليظ: كلمة النكاح التي صارت بها المرأة حلالاً. وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالنساء خيراً فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله" رواه مسلم وهو جزء من خطبة حجة الوداع.

والزواج في الإسلام ليس عقداً دينياً، بل هو عقد مدني كبقية العقود الأخرى، غير أنه أحيط بهالة من التقدير والتفخيم والتعظيم والاهتمام لخطورته الاجتماعية، ذلك لأنه يفيد حل العلاقة الجنسية والعشرة الزوجية بين الرجل وبين المرأة، ويضع أساساً لتعاونهما الدائم في تكوين الأسرة ومتابعة رعايتها. وبمقتضى هذا العقد الشرعي تتحدد الحقوق والواجبات المتصلة بكل من الزوج والزوجة.

هذا، وقد حث الإسلام على الزواج ورغب فيه؛ لأنه استجابة لدواعي الفطرة الإنسانية السلمية، وسبب لبقاء النوع البشري، أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج- والباءة تكاليف الزواج ومستلزماته- ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء" أي يخفف من الشهوة.

وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن نفراً من أصحابه عزم على ترك الزواج، فنهاهم عن هذا، روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها- أي عدوها قليلة- فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".

إنه لا توجد شريعة ولا نظام ولا قانون حث على الزواج كما فعل الإسلام، بل هو في مذاهب بعض الفقهاء فرض وواجب على المستطيع، ذلك لأن الزواج عماد الأسرة، والأسرة الثابتة القوية عماد المجتمع، فضلاً عن أن الزواج علاقة تسمو بالزوجين عن بقية المخلوقات الأدنى. فإذا كانت الحيوانات تتعاشر أنى اتفق على ذلك النحو الجسدي البهيمي، فإن العلاقة بين الزوج وبين زوجه علاقة روحية معنوية، يتوفر فيها الإشباع الجسدي والطمأنينة النفسية، وتتحقق معها المودة والوفاء والتكافل والتراحم. وفي هذا يقول الله تعالى في الآية 21 من سورة الروم: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}.

أما أولئك الذين يهربون من الزواج بحجج شتى فإنهم واهمون؛ لأنهم يعاكسون ويخالفون فطرتهم الإنسانية، ويعرضون أنفسهم لحياة الاضطراب والقلق بدل الاستقرار والطمأنينة. فالإنسان ذو المزاج المعتدل السوي لا يجد راحته الحقيقية إلا في الزواج وتكوين الأسرة، وبخاصة أن الحياة مبناها على السعي والنصب والحركة والتعب في كل يوم، فإذا عاد الرجل إلى بيت الزوجية بعد هذا العناء والإرهاق شعر بعودته إلى ذاته، واجتماعه مع نفسه في واحة الطمأنينة والأمن بعد تشتت وعناء. وبالإضافة إلى هذا فقد أكدت الإحصاءات المعاصرة أن المتزوجين والمتزوجات أطول أعماراً؛ لأنهم أكثر استقراراً نفسياً من غيرهم، وأبعد عن الأمراض العصبية التي تخلف وراءها أمراضاً عضوية. فأين المعرضون عن الزواج من هذه المحصلات؟.

يضاف إلى ما سبق: أن حفظ السلالة البشرية على الطريقة المثلى والوجه الأكمل لا يكون إلا بالزواج في ظلال أسرة آمنة مطمئنة مستقرة؛ لأن العلاقة بين الرجل وبين المرأة بغير الزواج لا تترك نسلاً، وإذا تركت نسلاً فهو غير قوي وغير صالح للتآلف الاجتماعي المستقبلي الذي يجعل من الأسرة لبنة قوية شامخة في البناء الاجتماعي العام.

ولقد أثبتت التجارب العلمية المشاهدة الآثار أن الولد الذي يعيش بين أبويه هو الأقوى جسماً والأقوى عاطفة من الأولاد الذين يعهد بهم إلى الملاجئ ودور الرعاية نتيجة اتصالات غير مشروعة بين الرجال والنساء؛ لأن ما ينبعث من الوالدين من رحمة ومحبة فياضة وحرص على الولد ومستقبله وما يبادلهما الولد به من محبة بريئة كل هذا يجعله يتأثر بهما، ويحاول إدماج نفسه في نفسيهما، فتتهذب بذلك غرائزه من غير تعب عصبي ولا إرهاق نفسي بخلاف ما يعطى له من غير الأبوين، مما لا يخلو من دوافع السيطرة وإملاء الإرادة وأداء الوظيفة المجردة من المشاعر الأسرية والحنو الفطري.

هذا، وإذا كانت الراحة متحققة في الزواج وتكوين الأسرة، فإن معنى الراحة هنا ليس الاستكانة والاسترخاء في المتع والملذات أو الامتناع عن القيام بالتبعات وأداء الواجبات؛ لأنه مما لا شك فيه أن على الزوجين تبعات جليلة منها: حسن تربية الأولاد، والقيام بحقوقهم، والسعي في سبيل توفير العيش الكريم لهم، وإعدادهم ليكونوا عناصر صالحة في مجتمعهم. وكما هو واضح فإن هذه التبعات مندرجة في سلم الكمال الإنساني، البعيد عن أسلوب الحياة الأدنى للمخلوقات الأخرى.

ولقد أدرك المسلمون الأولون هذا المعنى الاجتماعي الإيجابي فعدوا من فوائد الزواج وتكوين الأسرة هذه التبعات التي تثمر ثمرات نفسية وخلقية حسنة، وتعين الإنسان على مجاهدة نفسه، وتعوده الصبر على أخلاق الآخرين، وتدفعه إلى القيام الحسن بحقوق الناس، وبذل الجهد الصادق في إعمار المجتمع توصلاً للكسب الحلال.

* أستاذ الفقه الإسلامي والسياسة الشرعية بجامعة الملك سعود

JoomShaper