عزة مختار
لم تتواني يوما ولم تكسل عن الخروج في سبيل دعوتها منذ كانت طالبة في بيت أبيها ، خرجت في مظاهرات الجامعة ، وارتادت المساجد ، وحفظت كتاب الله ، وقرأت السيرة النبوية وحفظتها عن ظهر قلب ثم سيرة أمهات المؤمنين لتصبح بها خبيرة ، حضرت المؤتمرات وسافرت خصيصا كي تحصل علي الدورات المتخصصة في التواصل مع الآخرين في سبيل أن ترقي بنفسها لخدمة دعوتها .
ثم حين طرق الزواج باب والدها طالبا إياها لحسن خلقها وتدينها ، أبت إلا أن ترتبط بإنسان علي نفس الطريق ، وله نفس الفهم ونفس الطريق ونفس العزيمة ، ولصدق نواياها وتوجهاتها رزقها الله عز وجل بالزوج الصالح الذي طالما تمناه والدها لها ، زوج يتقي الله فيها ، يعرف حدود دين ربه ، إن أحبها أكرمها وإن كرهها لم يظلمها .
واليوم أصبحت زوجة لهذا الداعية تحمل نفس الفكر ونفس الهم ونفس الروح ونفس الحمية .
أحبته كثيرا ووقفت خلفه تحثه علي العطاء المتواصل ، لم تحمله الكثير ولم تطلب منه ما لا يطيق ، تحملت غيابه لفترات طويلة في سبيل دعوته ، وتحملت عناء التضييق في لقمة العيش بسبب اضطهاده في عمله ، ليس هذا فقط ، وإنما خرجت هي الأخرى ، في سبيل نفس الفكرة ونفس الهدف ، جابت المساجد وكانت صاحبة لسان عذب وأسلوب رقيق جذاب ، جمعت حولها قلوب التائبات ومشكلات المتعثرات ، حتى امتلأ وقتها بهموم لا تنتهي ومهام تستغرق سنوات وعمر فوق عمرها ، خرجت في سبيل الله لكنها ،،، ابتعدت كثيرا ، كثيرا عن بيتها .....
يعود نهارا فلا يجدها ، يعود ليلا فتكون المنهكة المتعبة التي لا تستطيع أن تؤدي له واجبا ، يريد الحديث معها فيجدها مشغولة بالرد علي الهاتف في مشكلة أو عمل أو استشارة ، ابتعدت كثيرا عنه ، ورغما عنها لم تدرك أن الخيوط بدأت تنقطع من بين أيديها ، الأولاد كل واحد منهم يحمل هما ويغلق عليه بابا لا يعرف الباقين عنه شيئا ، يحمل همه ليبثه علي صفحات الفيس بوك ، والهاتف المحمول مع صديق أو قريب ، وجبات الطعام الدافئة التي كانت تجمعهم في فترات الإجازات المشتركة تقلصت شيئا فشيئا فالوقت لم يعد في الإمكان التحكم فيه من كثرة المهام والانشغالات ، ابتعد الجميع علي التوالي بعد اجتماع عمود البيت وأمانه ، تلك الأم الحانية التي طالما احتوت واستمعت وضمت وعالجت وسهرت وذاكرت ومدت أيادي المساعدة بلا سؤال عن مقابل أو انتظار له ، وتلك الزوجة الرائعة التي ساندت وأحبت وأعطت وكانت معينا لا يمكن الاستغناء عنه ودفئا يمد الجميع بما يحتاجونه من الدفء وما يطلبونه من الحب والحنان .
غابت فغاب كل شيء جميل في البيت الذي يجمع كل الأطراف ليصبحوا رواد غرف يرتادونها وقت الحاجة للنوم أو الراحة أو الطعام ، وتلمس الجلي طريقه إلي ذلك البيت الدافئ يوما ، وعلت فيه الأصوات التي ما علت يوما إلا بالضحكات واللعب ، ارتفع الصوت إما بالشكوى أو التبرم أو لطلب حق غاب عند أصحاب الحقوق ، فتتغير الأولويات وتضيع الرؤية فيصبح الواجب ثقيلا والمندوب واجبا والفريضة مستغربة ومستنكرة .
تضيع أغلي المعاني التي تجمع أفراد أسرة واحدة وسط اهتمامات لا ينكرها أحد وإنما فقط هو ترتيب أولويات وفهم صحيح للحقوق والواجبات ويقظة مستمرة تحدد المسار الصحيح وتحمي من أي انحراف أو تجاوز أو تقصير بمرور الوقت .
وبرغم سمو الهدف ، إلا أن الوسائل انحرفت بنا عن المسار الصحيح ، وترمومتر الاستشعار لم يعد يميز بين الأولي والأولي منه .
أصبحت عصبية الزوج ظاهرة لدي الزوجة ، الأخت ، الأم ، ولدي الأبناء الذين ما عهدوا علي والديهم ذلك الجو المشحون ، أصبحت الكلمات قليلة ، جافة ، مشحونة بوجوه عابسة ، أصبح الصوت حزين مهموم ، والقلب مثقل والروح متعطشة ليوم من أيام الدفء الأسري الذي كاد الجميع أن ينساها ، وبمرور الوقت تزداد الانشغالات الخاصة بالأم خارج البيت وتبعد المسافة بينها وبينهم .
وفي يوم اشتعل الموقف فجأة بينهما ـ بين الحبيبين الذين جمعتهما الفكرة والحب والهدف والوسيلة ، موقف بسيط وانفجر الزوج الذي يفتقد زوجته الحنون ، انتقد كل ما تفعله وأظهر كرهه وامتعاضه من تصرفاتها تجاهه وتجاه أبنائهما ، انتقد خروجها المتكرر في اليوم الواحد ، وانتقد إهمالها لشئونه الخاصة ، وانتقد انشغالها حتى بالتحاور معه بالتليفونات التي تأخذها منه ولا تنتهي ، انتقد عدم تحريها تنظيم وقتها ، وإهمالها واجباتها الأولي علي مرتبة أخري ، انتقد فهمها للدين وتفسيرها للاهتمام بالدعوة علي نحو تنسي فيه أنها زوجة وأم مسئولة في المقام الأول عن هؤلاء وراعية لهم .
ومن كثرة الاتهامات زاغ بصرها ودارت بها الأرض وهي التي تحسب أنها الموفقة في حياتها كل التوفيق ، وظنت أنه من الواجب عليه هو أن يوفر لها ذلك الوقت الذي تؤدي فيه تلك الأعمال المنوط بها إنهاؤها كل يوم ، حسبت انه هو الذي يسيء إليها بعدم تحمله المسئولية معها ، وعدم دفعه لها لتكمل الطريق علي خير وجه حتى ولو كانت ستبذل كل وقتها في سبيله ، كانت تحسب أنه يجب عليه أن يتنازل عن كل حقوقه عندها وهو سعيد بهذا التنازل ، إذ كيف يطلب منها حقوقا وهما معا علي نفس الطريق الذي سارا فيه سويا دون اتفاق مكتوب أو منطوق بينهما وإنما عن تراض وسعادة لهما معا ، ليس هذا فقط ، ليس مجرد توجيه انتقاد وإنما تخيير صريح بين ما تقوم به من شغل كل وقتها للدعوة أو أن تنظم واجباتها ووقتها فلا يتعارض كل هذا مع واجباتها كزوجة وأم وراعية في بيت زوجها .
دارت بها الأرض وتذكرت كيف بدأت حياتها مع زوجها الحبيب وكيف أنها كانت في قمة السعادة رغم ما كان يمر بهما من مشكلات وعراقيل مادية وأمنية ، كيف أنها اختارته هو دون غيره لحبه لدينه وحفاظه عليه ولحسن خلقه وتمسكه بمبادئ شريعة الله عز وجل ، تذكرت كيف أحبته وتعلقت به وذابت فيه ، تذكرت كيف كانت سعادتهما معا بأول مولود لهما ، وكيف كانت الهموم المشتركة وكيف تغلبا عليها معا ، تذكرت كيف يرتبط مصيرها بمصيره ،فلو مرض فهي السهرانة المتعبة ولو غاب فهي القلة المنتظرة ، ولو تألم فالجرح عندها ، فكيف بعد كل هذا يصل بها الأمر إلي أن يصير كل منهما غريبا عن الآخر ، كيف اضطرته وهو الزوج الذي جعله الله إما جنة أو نارا أن يطالبها بحقوقه وهي التي كانت تسارع في تلبيتها حتى قبل أن يطلبها ، كيف تضطره أن يقول لها بمنتهي الود والحب : أريدك ، بينما هي تتبرم وتمتعض وتسوف حتى يمل من الطلب فيسكت مرغما .
وبينما هي وحيدة يمر بذاكرتها شريط حياة طالما حلمت به وهي ما زالت فتاة صغيرة في بيت والدها الذي يضمها الآن بين جدرانه تتذكر كل الأحداث الصغيرة والكبيرة لتقارن بين ما كانت تحلم به وتتمناه وما قامت به فعلا من تضييع للأمانة التي آمنت يوما أنها هبة من الله عز وجل وأنها مسئولة أمامه سبحانه عن رعايتها بما لا يتعارض عن حمل دعوة الله وأمانته وبما لا يخل في واجبها تجاه كل قضية منهم هبت واقفة لتلملم حاجياتها بحسن فهم لتعود مسرعة إلي رحاب بيتها وجنة زوجها .
خاص ينابيع تربوية
عدت يا بيتي الحبيب
- التفاصيل