الكاتب: عبد الله
إذا كانت أهداف التربية الإسلامية السامية هي بناء "المؤمن الصادق" و"المستخلف الراعي" و"القوي الأمين" فّإنّ هذه الأهداف لا تأتي إلا بطاقة قناعة الإيمان، وحس مسؤولية الاستخلاف، وشجاعة القلب، ونبل الصدق والأمانة وإحسان الأداء وإتقان العمل، وهذه معالم تبنى في الطفولة، وتتشكل في أساس التكوين الوجداني، ولذلك كانت الأسرة وسلامة العلاقة الأسرية هي القاعدة الأساس للنهج التربوي النبوي للطفل، وغاية خطابه، وذلك لأنّ الأسرة هي المحضن الأول والأهم للطفل البشري، نفسياً ومادياً، فالطفل البشري يولد غير قادر على تحصيل حاجاته وحماية نفسه دون عناية أسرته التي توفر له الحاجات المادية والنفسية وترعى طفولته، ولذلك كان بناء الأسرة ونوعية علاقاتها من أهم الأبعاد التربوية الإنسانية التي يتوقف عليها نوع بناء الشخصية الإنسانية، وقد أولى الإسلام والقرآن الكريم ونبي الإسلام الأسرة
وعلاقاتها أعظم الاهتمام، وعدها النواة الأساسية في تكوين الفرد والمجتمع، ولذلك فإنّ من المهم أن نتعرف إلى الرؤية الإسلامية في بناء الأسرة وعلاقات أفرادها؛ حتى يمكن أن نقيم دعائمها على الأسس السليمة: التي توفر المحضن التربوي السليم لبناء الطفل المسلم، وتزيل بعض ما لحقها من انحرافات أملتها التقاليد، وأعانت عليها الظروف وغبش الرؤية وجمود الفكر، خاصة في هذه المرحلة التي تمر بها الأمة والتحديات التي تواجهها اليوم.

يقول الله سبحانه وتعالى: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (21)" (الروم: 30/21). "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرّة أعين واجعلنا للمتقين إماماً (74)" (الفرقان: 25/74). "وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بنيّ لا تشرك بالله إنّ الشرك لظلم عظيم (13) ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير (14) وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتّبع سبيل مَن أناب إليّ ثم إليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون (15) يا بنيّ إنّها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إنّ الله لطيف خبير (16) يا بنيّ أقم الصلاة وأْمر بالمعروف وانهَ عن المنكر واصبر على ما أصابك إنّ ذلك من عزم الأمور (17) ولا تصعّر خدك للناس ولا تمشِ في الأرض مرحاً إنّ الله لا يحب كل مختال فخور (18) واقصد في مِشيك واغضض من صوتك إنّ أنكر الأصوات لصوت الحمير (19)" (لقمان: 31/13-19). "الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إنّ ربي لسميع الدعاء (39) ربّ اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربّنا وتقبل دعاء (40) ربنا اغفر لي ولوالديّ وللمؤمنين يوم يقوم الحساب (41)" (إبراهيم: 14/39-41). "إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين (131) ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إنّ الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون (132)" (البقرة: 2/131-132). "ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي إنّي تبت إليك وإنّي من المسلمين (15) أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون (16)" (الأحقاف: 46/15-16). "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إمّا يبلغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً (23) واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيرا (24)" (الإسراء: 17/23-24). "وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم (84) قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين (85) قال إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون (86) يا بنيّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من رَوح الله إنّه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون (87)" (يوسف: 12/84-87).

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله" رواه أحمد. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" رواه ابن ماجه والحاكم. و روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تنكح المرأة لأربع، لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك". وروى الترمذي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "إذا جاءكم مَن ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير". وروى أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تزوجوا الودود الولود فإنّي مكاثر بكم الأمم يوم القيامة". و روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".

هذا الاهتمام بالأسرة في الإسلام، التي هي المحضن الأول والأهم في بناء الإنسان، ليس مستغرباً لأنّ الإنسان هو أكرم المخلوقات، وهو المستخلف في الأرض، ولذلك كان في حاجة إلى التربية والإعداد، وكانت طفولته النفسية والبدنية طويلة الأمد؛ بل هي أطول طفولة في الكائنات الحية، تستغرق حوالي عقدين من الزمان قبل أن يكتمل عود الطفل الإنساني، ويكتمل بناؤه النفسي والجسدي، وهو خلال هذه الفترة يتلقى مختلف ألوان العناية والرعاية والتربية والتقويم والتوجيه والتعليم والتدريب.

والأسرة هي القيادة التربوية الإنسانية التي تحتضنه وتوفر له كل احتياجاته، ولذلك كان لها التأثير الأكبر في توجيه وبلورة بنائه النفسي والوجداني إيجاباً أو سلباً، وتشكيله بالقدر الذي تمارسه أو بالكيفية التي تسمح للآخرين بممارستها معه من أجل بنائه والتأثير فيه.

لهذه الأسباب ندرك لماذا أولت الشريعة الإسلامية بناء الأسرة كل هذه الأهمية الكبرى؟ ولماذا جاء بناؤها وهديها وتوجيهها قائماً على ما تمليه الفطرة وعلاقاتها الإنسانية في الأبوة والأمومة؟ ولماذا كانت الأسرة الإسلامية مبنية على الأسس الفطرية في النفس الإنسانية التي تتسم بالثبات؛ لذلك تناولها التشريع الإسلامي بالتفصيل الذي يقرر الأسس الثابتة لبنائها، ويحدد علاقات أفرادها القائمة على ثوابت هذا البناء الفطري.

أسرار الشريعة في بناء الأسرة: الأسس والمنهج

ولهذا فإنّ التشريعات الإسلامية للأسرة لا يمكن فهمها ولا إدراك حكمتها إذا لم تفهم الجوانب الفطرية السننية في تكوينها، والتي تحدد وظيفتها تجاه أعضائها، وطبيعة الأدوار المتكاملة لهم، إنّ إهمال جانب الدراسات السننية الفطرية في تكوين الأسرة التي جاءت الشريعة الإسلامية لإحكامها،  والاستجابة لمتطلباتها هو الذي يفسر ما تعانيه كثير من التشريعات الإسلامية المعاصرة من قصور في ملاحقة المتغيرات، وملاحظة مدى تأثيرها على الأسلوب الذي يؤدي به أفراد الأسرة أدوارهم وتفاعلاتها الاجتماعية.

فوظيفة الأسرة في رعاية أفرادها وتكامل أدوارهم هو الأساس الفطري الحيوي والنفسي لعلاقات أفراد الأسرة الإنسانية، وعدم إدراك المبدأ الإسلامي في تكامل أفراد الجنس البشري عامة، وأدوار أعضاء الأسرة بشكل خاص، يؤدي إلى عدم فهم بناء الأسرة المسلمة، وعدم إدراك أدوار كل عضو فيها. لذلك يخطئ من يملي التماثل في الأدوار على أطراف العلاقة الأسرية؛ لأنّ ذلك منطلق خاطئ من ناحية الحقيقة الفطرية، وتشويه للوظيفة الأسرية، وجور على حاجات أطراف العلاقة وحقوقهم، مما يسيء إليهم، ودون الفهم السليم لدور الفطرة في بناء الأسرة المسلمة لا نستطيع أن ندرك طبيعة الشريعة الإسلامية المبنية على الاستجابة للفطرة التي تكمن في تكوين الأسرة الإنسانية وحاجاتها الوظيفية.

التوافق والتكامل اللذان يحققان التعاون والرعاية والودّ والرحمة بين الأبوين - ذكراً وأنثى - هو الأساس الذي تبنى عليه الأسرة الإنسانية، وإذا ما انتفت علاقة التكامل والتعاون والودّ والرحمة بين الأبوين تحطمت أسس علاقة الآباء بالأبناء؛ وذلك لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه، ولن يحظى الطفل بالسلام والأمن والرعاية والتربية الضرورية لبنائه النفسي والمعرفي القويم، ولن يتأتى هذا إلا إذا حصل كل فرد في الأسرة على حاجته، وقام بدوره قدر طاقته، وفق قدرته؛ مما يهيئ لأفراد الأسرة ولأطفالها المناخ النفسي السليم، للإحساس بالأمن، ولتنمية طاقاتهم وقدراتهم.

إنّ ضعف المرأة الجسدي ورقتها العاطفية، قياساً بالرجل، مع تعلق الطفل مادياً ونفسياً بها، هو مما يجعلها ويجعل طفلها في حاجة إلى الرعاية والدعم، ويعوض ذلك ويقابله ضعف الرجل تجاه الجنس، قياسا بالمرأة، لأنّ في تحكمها في رغباتها حماية للمرأة ولنفسها ولطفلها، وبذلك جعل الله بيد المرأة زمام القرار الجنسي وعقلانيته فلا يؤثر على قرارها العقلاني في علاقتها بالرجل حضوره أو مظهره، بل تظل قادرة على اتخاذ قرارها وفقاً لإرادتها وما ترى فيه مصلحتها،  وهي لا تفقد عقلانيتها وتحكمها في قرارها إلا حين تسمح للرجل بلمسها جسدياً، وعندئذ لا تعود قادرة على اتخاذ قرار  عقلاني، وتنساق مع العلاقة بتأثير العاطفة لا بقرار العقل، بعكس الرجل  الذي - لضعفه الجنسي تجاه المرأة - يؤثر فيه منظر المرأة، بل إنّ مجرد خيالها - قد يؤثر أحياناً - على قدرة الرجل في اتخاذ قرار عقلاني إرادي؛ مما يجعله ضعيفاً أمام المرأة، وسلس القيادة لها، ولهذه الحقائق في كيان المرأة والرجل، وعلى أساس منها، ولما فيه مصلحتها نظمت الشريعة علاقة الزواج والنسب على أساس من الخصوصية، وبما يتم انتماء الطفل للرجل، وولاء الرجل للمرأة والطفل، وعلى أساس من هذا التنظيم الحكيم يحمل الرجل، بما وهبه الله من قدرات العمل وتحمّل المشاق - أعباء تبعات الأنوثة والطفولة، وعلى أساس من هذه الخصوصية وهذا الانتماء وهذا الولاء قامت العلاقة بين الرجل والمراة على أساس من الود والرحمة، لتكون الأسرة محضن حب وأمن لأبنائها.

إنّ قوة الرجل وجَلَده وخلوه من مشاعر الأمومة والأنوثة - هو في رباط الأسرة - قوة ميسرة لتوفير حاجات المرأة والطفل ورعايتهما، ورقة المرأة وعاطفتها راحة ورحمة وسكن للطفل الضعيف والرجل المرهق، ولذلك تعلقت النفقة بالرجل في الأسرة، ولا تعمل المرأة إلا بإرادتها، بحسب حالها وطاقتها، والمرحلة التي تمر بها، وطبيعة العمل المتاح لها، وأي جور عليها في ذلك أو غبن لحقوقها هو غبن وظلم لها ولحقها في العون، وفي الإحسان، وعلى غير مقاصد الشريعة وأسس الفطرة في التعاون والتكامل.

وهذه الفطرة تفسر المفهوم الإسلامي في مقدار عورة الرجل وعورة المرأة وحكمته،  فهو ليس جوراً على المرأة، ولكنه رعاية وحماية لطرفي الأسرة،  فعورة الرجل المحدودة هي تيسر لعمل الرجل دون خوف على فتنة المرأة أو تفريطها في حقوق علاقة الأمومة في الأسرة،  لأنّ عقلانية قرارها مبني في أصل طبعها، أمّا شمول عورة المرأة لمفاتن جسدها وسترها فإنّه حماية لها من تعديات الرجال وعدوانهم على دور أمومتها، وذلك لضعف الرجل الفطري في شؤون الجنس وعاطفية تصرفاته، وهي بذلك أيضاً حماية للرجل من الفتنة والإضرار بأسرته وبحقوقها عليه.

إنّ هذه الأهداف السامية هي المقصودة بالتفاوت بين عورة المرأة وعورة الرجل؛ فهي تنبع من فطرة كل واحد منهما، وتستجيب لحاجاتهما، ولطبيعة الدور المتعلق بكل واحد منهما، ولذلك كانت الخصوصية لأطراف الخطوبة وقاصدي الزواج من النظر إلى ما ليس لسواهم، ومن ذلك أيضاً حكمة منع التعدد للمرأة لأنه يهدم الأسرة، ويضيع النسب، ويلغي دور الأبوة، ولأنّه لن يؤدي إلى ثمرة، لأنّ المرأة لا تحمل إلا مرة واحدة ومن رجل واحد، وكذلك الحكمة في السماح بتعدد الزوجات للرجل  حين الحاجة والقدرة بشرط القيام بالعدل، لأنّ التعدد للرجل لا يلغي النسب، ولا يهدم الأسرة؛ بل يعدد الأسر، فكل علاقة للرجل بالمرأة يمكن أن ينتج عنهما ثمرة، وكل طفل له أم وله أب ينتمي إليهما ويحظى برعايتهما، إلا أنّ التعدد المباح للرجال دون حاجة ليس من دواعي المحبة والوئام والولاء في الأسرة، ويحمل معه مخاطر الغيرة والتباغض بين النساء والأبناء، خاصة إذا جانبته الحاجة والقدرة والحكمة والعدل؛ فلا يكون الرجل على كل الوجوه - رابحاً نفسياً وأسرياً إلا إذا كان التعدد لحاجة حقيقية تمس حياة الفرد أو كيان الأمة، على أن تتسم بالعدل وتسعى بالرعاية في كل الأحوال.

وبهذا قامت الأسرة على الود والرحمة، ففي المشاعر تقوم على الود، وفي التكليف تقوم على الرحمة، فلا يكلف الزوج زوجته عنتاً بما لا تطيق، ولا تعنت المرأة زوجها بما لا يطيق، ولذلك لا يحق أن يجبر أحد من أطراف الزوجية على البقاء فيها دون رغبته وإرادته، ولذلك أباح الإسلام الطلاق للرجل، والخلع للمرأة، إذا ما دبّ بينهما الشقاق، وفقدت بينهما وشائج المودة والرحمة، لأنّ فقد المودة والرحمة بين الزوجين أضر على نفسيتهما وأبنائهما من الفراق، وفقد الطفل لأحد أبويه في مرحلة أو أخرى من حياته أهون من حياته بين أبوين هما في صراع وكراهية وقسوة وشقاق.

ولذلك اهتم الإسلام، وفصّل القرآن الكريم، ووعظ، ووعّى الزوجين بطبيعة علاقتهما، وبحقوق كل طرف منهما وواجباته، وترك لهما بالود والتراضي والتكافل حرية التصرف في أنفسهما وممتلكاتهما دون حرج، بما لا إثم فيه ولا غش ولا تفريط  في الواجبات، كما علّمهما وأرشدهما إلى سبل حل الخلافات، وتجاوز العثرات، قبل اللجوء إلى الفراق، وهدم الأسرة، وإيذاء الأطفال بالطلاق أو بالخلع. وحكمة التراضي - بما لا يزيد على ما قدم الزوج للزوجية من المهر لخلع المرأة من الزوج الذي لم تعد ترغب في عشرته، أياً كان السبب الذي يدعوها إلى فراقه - ألا يكون المال سبب طلب المرأة الطلاق أو الخلع، أو أن يكون من له تأثير عليهما من القرابة سبباً في الفراق وهدم الأسرة، فهي تعيد إلى الزوج ما قدم، وعندها لا يكون الفراق سبباً لمغنم،  أمّا في حالة طلاق الرجل للمرأة فإنّه ليس من جائزة مادية له، ولن يعود عليه هذا الطلاق أو الخلع بنفع مادي؛ بل إنّه سيعاقب مادياً بسبب فقد المهر وتحمل النفقة، فضلاً عمّا سيتحمله بعد ذلك من التبعات اللاحقة لبناء أسرة جديدة.

إنّ الأسرة في نظام الإسلام الاجتماعي هي المؤسسة الاجتماعية الأساسية التي توفر للإنسان أسباب الوجود الأساسية، وقد أقام الإسلام لها نظاماً خاصاً يناسب مهمتها، وأوكل إلى كل عضو فيه مهمة ومكانة تناسب  دوره وحاجته التي تبنى على المودة والمحبة والرحمة والاحترام المتبادل.

دور الفرد بين الأسرة والمجتمع

إنّ الخلط بين أدوار الأفراد بصفتهم أعضاء في الأسرة، وبين أدوارهم في المجتمع ومؤسساته الأخرى أدى إلى كثير من سوء الفهم، وتنازع الأدوار، وإهدار الطاقات، والتعدي على الحقوق.

فمقام الأب ومكانته ومركزه في الأسرة، ومقام الأم ومكانتها، ومركزها في الأسرة، ومقام الابن ومكانته ومركزه في الأسرة؛ لا علاقة لأي طرف من هذه الأطراف بمقام أي واحد منهم ومركزه في مؤسسات المجتمع الأخرى، فعلاقة الأبوة بالبنوة في الأسرة تتعلق بالأبوّة ومكانتها في النفس، وما لها من الحب والتوقير، أمّا موضع أي عضو من أعضاء الأسرة في المجتمع فإنّها هي الأخرى تتعلق بقدراته وطاقاته التي تفوق فيها قدرات الابن قدرات أبيه أو أمه وطاقاتهما، وكذلك فإنّ مقام الزوجة أو الابنة وقدراتهما وطاقاتهما في مؤسسات المجتمع قياساً بمقام الآخرين أباً أو أماً أو إخوة أو أخوات يتعلق بقدرة كل واحد منهم وطاقاته، والخلط في هذا الأمر يؤدي إلى سوء الفهم، وإهدار الطاقات، وتنازع الأدوار، والتعدي على الحقوق، وزعزعة استقرار الأسرة، وسلامة أدائها، وعلاقاتها.

إنّ مكانة الزوج في الأسرة هو مقام ومركز يتعلق بهوية الأسرة وانتماء أعضائها، وتمكين ولاء الرجل للزوجة ولأبناء الأسرة، وتوفير مشاعر الأمن والطمأنينة له ولبقية أفراد الأسرة، لأنّ ولاء الرجل وانتماءه للأسرة والزوجة والأبناء يتوقف في جوهره أصلاً على مدى ولاء الزوجة وإخلاصها للعلاقة مع الرجل، ومدى إعطائه حس الأمن والثقة في علاقته بها وبأبوة أبنائها، وبمدى إعطائه دور التحكم في إدارة العلاقة بالأطراف الأجنبية عن العلاقة الزوجية الأسرية؛ الأمر الذي ينعكس في انتساب الأبناء وولاء الأب لهم، وثقة الأبناء بانتماء الأب إليهم  واتحاده بهم، وهذا كله يتعلق بخصوصية بناء الأسرة وعلاقاتها، ولا علاقة لذلك كله بقدرات أفراد الأسرة ولا بأدوارهم الأخرى في المجتمع.

إنّ من المهم أيضاً أن ندرك  طبيعة المرأة بشكل عام - وفي جلّ أطوار حياتها الإنتاجية - تختلف عن طبيعة الرجل، ولا يغير ذلك من بعض الاستثناءات. فطبيعة المرأة تتميز بأنّها ثنائية الوظيفة والاهتمامات والقدرات، بعكس الرجل الذي هو أحادي الطبيعة والاهتمام والقدرة، فالمرأة - بقدر ما هي قادرة ومؤهلة للعمل والإنتاج وتتطلع إلى الإبداع فيه - تبقى دائماً مشدودة إلى الأمومة ووظائفها ومتطلبات "العش والفراخ"، فهي لا تستطيع ولا ترغب ولا يوجد لدورها الحيوي والعاطفي في الحمل والرعاية على الحقيقة بديل، وإذا شئنا أن نوفر للأطفال التنشئة السعيدة التي لا تعاني من  الحرمان والانحراف والنزعات الإجرامية فإنّ متطلبات دور الأمومة يجب أن يشغل حيزاً نفسياً ومادياً كبيراً في حياة المرأة، وتحتاج فيه إلى عون الرجل ومساعدته ودعمه، وإنّ من الظلم للمرأة وللطفل تجريد المرأة من ولاء الرجل وعونه وحمايته ودعمه المادي والنفسي لها ولأطفالها.

إنّ الرجل أحادي الدور والقدرة والاهتمام الذي يتعلق في جوهره بالعمل والإنتاج، فالرجل قد هيئ لذلك جسدياً ونفسياً، ولذلك يجب توفير كل الشروط اللازمة لكي يوظف قدراته للعمل خدمة لضعف المرأة والطفل وحاجاتهما، ومشاركتهم له ثمار إنتاجه لسد حاجاتهم، وتوفير الوقت والجهد اللازم للأم لكي تعنى بالصغار، حتى يبلغوا مرحلة النضج؛ في بيئة تتوافر فيها العناية والرعاية والتوجيه والتربية السليمة، هذا هو الأصل والمنطق، وأي تعديل في مسار أداء كل منهما يجب أن يتم دون إخلال بالواجبات والمسؤوليات الأساسية لكل واحد منهما.

ولذلك فإنّه لا مجال للتمايز والتعالي والصراع بين أدوار الرجولة والأنوثة، فلكل واحد من الطرفين دور متكامل له أهميته ومكانته في بناء الأسرة والمجتمع، فالمرأة في بناء المجتمع المسلم - بالدرجة الأولى - هي الأم، والأمومة التي هي أساس الأسرة، ومرسى بنائها، وعش أمنها وحنانها، وهي الأولى بالعون والبر والحماية، وهي كذلك أولى بقوة الرجل وطاقته وعطائه لحماية العش ورعايته والسهر على راحته، وكل تشريعات الإسلام إنّما تسعى لتحقيق هذا الهدف والمقصد وأي فهم لأدوار الرجل والمرأة في المجتمع المسلم ينافي هذا الهدف والمقصد، هو انحراف عن أهداف الإسلام، وعن الفطرة السليمة، سواء أكان ذلك باتجاه الغرب إرهاقاً للمرأة وإلزامها العمل، والمتاجرة بها جنسياً، وجعلها أداة تسلية وعبث فاجر رخيص، أم باتجاه الخضوع للأعراف والتقاليد في بعض بلاد العالم الإسلامي في إعناتها وإعضالها وسجنها والتضييق عليها وتجهيلها، بدلاً من تعليمها وتثقيفها ومشاركتها العبء، وإعدادها للقيام بمهمتها في رعاية الأسرة، وحسن تنشئة أبنائها، وتوفير سبل رعاية الزوج؛ بل واستثمار فائض طاقتها في خدمة الأمة والمجتمع،  خاصة مع ما يتوافر لها في عالم اليوم من الخدمات والوسائل التقنية، مما يوفر للمرأة وقتاً وطاقة يجب استثمارها في رفع مستوى معارفها وقدراتها، ونفع أمتها، ومجتمعها، ويكون ذلك بديلاً عن الفراغ والانشغال بالصغائر، والوقوع في حبائل السأم والملل وسفاسف الأمور وسوافلها.

إنّ إبعاد المرأة المسلمة عن الإسهامات الثقافية والدينية والاجتماعية الإسلامية هو الذي يفسر - في كثير من الوجوه - ضعف تربية الأبناء، وضعف دور المرأة المسلمة في المجال الإسلامي الاجتماعي مقارنة حتى بالمرأة الهندوكية على سبيل المثال في البناء والتكافل الاجتماعي، على الرغم من أن المرأة الهندوكية مهضومة الحقوق ولا تتمتع حتى بالقليل من الحقوق التي كفلها الإسلام للمرأة المسلمة، إلا أنّ الفرق في ذلك أنّ المرأة الهندوكية لها أدوار فعّالة، ولها حضور في النشاط الديني والاجتماعي الهندوكي، ويذكر هنا ما سمعته من الإمام الحكيم الراحل الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في ذكرياته عن الطفولة والقرية إذ يذكر كيف كان يرى المرأة في كل مكان في القرية إلا في المسجد.

وكم أعجب حين أرى جلّ مساجد المسلمين في كثير من بلاد المسلمين لا موضع فيه للنساء، وإن وجد مكان لهن فهو خلف ستر وحجب يصعب معه الحضور والمشاركة والوجدانية، ولا أدري - وهنّ في أكثر ملابسهنّ ستراً، وكل من في جمع المسجد في خير الحالات النفسية طهراً وتوجهاً،  حيث تقف صفوف النساء خلف صفوف الرجال أو أعلاها - ما الذي يخشاه من يضع صفوف جموعهن خلف الحواجز والموانع وجموع الرجال والنساء سوف تنطلق بعد ذلك من موقع العبادة والطهر إلى الأسواق والأعمال رجالاً ونساء؟! أليس في ألفة نفوسهم للاجتماع الروحي المهذب في المسجد ألفة لنفوسهم في التعامل المهذب خارج المسجد بدل أن تغيب صفوفهن نفسياً ومادياً في المسجد فلا يرى الرجل ولا ترى المرأة خارج المسجد إلا امرأة أو رجلاً لا علاقة لها في ذهن أو خيال أي منهما في أنّ الآخر هو رفيق عبادة وطهر؟!

وكم هو عجيب أيضاً أن يصل الأمر في كثير من مساجد المسلمين، وفي كثير من بلاد المسلمين، إلى أنّه لا يسمح للمرأة بحضور صلاة الجمعة وخطبتها أصلاً، ولا يُهيّأ لها موضع مناسب فيها،  وكأنّ الخطاب والحضور والتذكير وعرض شؤون المسلمين لا يخص المرأة في شيء، وكأنّها ليس لها في المجتمع دور ولا شأن. إنّ منع المرأة من حضور صلاة الجمعة والجماعة هو سوء فهم لرخصة عدم إلزام المرأة حضور جماعات الصلوات، وذلك أنّ طبيعة مهمتها في رعاية الأسرة لا يمكنها من تنظيم وقت أدائها، فلا يمكن للأم أو من موضعها تأجيل رضعة الصغير أو العناية به أو تركه دون رعاية أو انتظار عودته من مدرسته، وما إلى ذلك من شواغل "العش" و"الفراخ"، ولذلك لم تلزم المرأة بالجماعات، إدراكاً لدورها ورعاية لها خصوصاً في جماعات الليل والعتمة، إمّا إذا لم يكن من ذلك شيء يشغلها ويحول بينها وبين حضور الجماعة، ولا سيما صلاة الجمعة وخطبتيها، فالرجل والمرأة أعضاء المجتمع، وهم معنيون به سواء بسواء، ومسؤولياتهم الدينية والاجتماعية لا تختلف قيد أنملة، وأثر الممارسات والخطاب له فيهما وفي أدوارهما يحتل الأهمية نفسها، فالأمر أمر تيسير وإباحة، لا أمر منع وإعفاء "فلا تمنعوا إماء الله مساجد الله".

JoomShaper