ذكاء رواس قلعه جي
جلست أمام مرآتها تسرح شعرها, داعبت بمشطها سنابله الطويلة, شدته إلى الوراء, ثبتته بمشبك مرصع بأحجار, ألقت نظرة عجلى وهي تهم بأن تنصرف, فأمامها جدول حافل بالأعمال,  ولكنها تسمرت أمام المرآة عندما لمحت شعرات بيضاء تطل على استحياء من جانب صدغها الأيسر, لحظات اكتسى فيها وجهها بتعابير مهمومة, جذبت المشبك بسرعة فتحررت سنابل شعرها, أعادت ترتيبه لتخفي بين طيات خصلة تلك الشعرات البيضاء, وأعادت المشبك إلى موضعه، انفرج وجهها عن نظرة رضا, ثم أولت المرآة ظهرها.
اليوم هي بلغت منتصف الطريق, وستعبر الخط الفاصل بين الشباب والشيخوخة اليوم ستبلغ الأربعين, وهذه الشعيرات البيضاء بطاقة إنذار لدخول المرحلة الجديدة, شعرت برعشة في يدها وهي تحاول الإمساك بتلك الشعرات, لم تكن تتوقع أن ذلك البياض سيهزها ولكنه قد فعل, هل هي فعلا تخاف الشيخوخة؟  تخاف أن يضيع جمالها ؟ وهي التي كانت تصرح في كل حين أن جمالها لم يفدها بشيء, فلماذا تحرص عليه إذا كان عديم الفائدة؟  وسرح فكرها راحت تسترجع أعوام مضت من عمرها.
لم يكن جميلاً, وكان يكبرها بأعوام عديدة, ولكنه مستقر مادياً ومهنياً, فعيادته من أشهر العيادات في مدينته, وبيته في حي راق من أحيائها, وهو من عائلة محترمة لها سمعتها الطيبة, وفق ذلك يمتلك موهبة في الإقناع والكلام, جعلت الجميع يوافق, أبوها وأخواتها الأربع.
- سيكون لها الأب والزوج.
- ستعيش حياة مرفهة.
- لن تحتاج إلى شيء مادامت معه.
- ماذا يطلب في الزوج أكثر من ذلك.
وقبل أن تعي ما يجري حولها رأت نفسها هي وهو  في بيت وأغلق الباب عليهما.
كان البيت رائعا, كل ركن فيه على أروع ما يمكن أن يكون, لم يكن ينقصه أي شيء, حتى خزانة الملابس  كانت مملوءة بأثواب كثيرة من كل نوع قال لها:
- لقد اشتريتها لك, ستعجبك إنها من أرقى المحلات.
- ولكن كيف عرفت مقاسي.
- أنسيت أني طبيب, جسم الإنسان مهنتي.
شعرت بالتقزز,  لم تدر ماذا عليها أن تقول, فلاذت بالصمت.
شعرت أنها لا تختلف كثيراً عن أي قطعة أثاث أعجب بها فاقتناها, زوجة جميلة يكتمل جمال كل شيء حوله, حاولت أن تهرب من تلك الفكرة. وأن تكون زوجة صالحة لزوج بذل كل ما في وسعه لتكون سعيدة, وقبلت الأمر على ذلك النحو.
إلا أن ما لم تستطع قبوله هو غضبه، الذي يأتي كقصف الرعد سريعاً قوياً مؤثراً, ولم يكن أمامها إلا أن تنحني للعاصفة, مرة بعد أخرى أتقنت فن الانحناء,  فكلما غضب, وصار فمه يقذف حمما كلامية, وصارت الثعابين تنطلق من عينيه, كانت تمارس لعبة الهروب تلك حتى طورت منها حصناً وملاذاً.
فقد كان كثير الغضب, كثير الحب للتفرد والسيطرة. كلمته لا ترد, وطلباته لا تؤجل, في أول مرة حاولت أن تناقشه فيها, وكانت حديثة عهد بالزواج به قال لها بنبرة صارمة: أنا رجل البيت هنا, وكلامي لا يقبل النقاش.
وركز بصره في عينيه ليؤكد إصراره على ما يقول. يومها رأت تلك الخطوط الحمراء التي ترتسم على بياض عينيه تستحيل ثعابين, شعرت كأنها ستخرج  لتفترسها, انتابها شعور قوي خليط بين التقزز والخوف , أشاحت وجهها  ولاذت بجدار الصمت الذي ابتكرته وصارت تحتمي به, وفي كل نوبة غضب له كان الجدار يرتفع لبنة جديدة، حتى صار يغطي قامتها ويفصلها تماماً عنه, ليعيش كل منهما في عالم, رغم الصورة الكاذبة لحياة زوجية سعيدة التي يقدمانها لمن حولها.
أما هو فكان بعد أن يقذف حممه يشعر بشيء من الأسف، ولكن كرامته لم تكن تسمح له بأن يعتذر, عندما لا يكون تحت سيطرة الغضب كان يسألها عن سر صمتها الدائم, فكانت تقول له:
- عندما أجد ضرورة للكلام أتكلم, ولكن ماذا سأقول إذا لم يكن هناك ما أبوح به.
وكان يسلي نفسه بقول: أنا تعب من كثرة كلام المرضى, وأفضل الراحة في بيتي,  كان يمتدح صمتها, وكان يظهر أن هذا هو فعلا ما يريده.  
والناس من حولهم يتساءلون لماذا هذه السيدة المرفهة الجميلة لا تنطق بكلمة, هل هو نوع من التكبر, أم إنه هدوء زائد عن الحد؟
الأولاد وحدهم من كان يدرك حقيقة ما يجري هناك بين تلك الجدران, ولكنهم كانوا يرون الجانب الطيب من الأب الحنون المعطاء الذي يتعب في عمله, والذي يجتهد من أجل أن يكون كل شيء على أكمل وجه, وله العذر إذا غضب, وله العذر إلا مارس بعض التسلط, أليس كل ذلك لمصلحة الأسرة.
ولم تكن هي ترغب في خدش تلك الصورة أو تشويها، بل كانت تلوذ بصمتها كلما سمعت أولادها يمتدحونه أمامها, وعندما يصرون على سماع موافقتها على ما يقولون, كانت تقول:
- أنا زوجته أعلم الناس به, بيننا عشرة.
هل هي تكرهه أم أنها تحبه؟ سؤال لم يجرؤ أحد أن يطرحه, ولكنها اليوم وهي تنظر لباقة الورد الكبيرة التي تتربع في زاوية غرفة الجلوس, المنسقة بعناية, يتوسطها قلب كبير من ورد القرنفل الذي تحب رائحته, وحولها زهرات بيضاء, راحت تسترجع عشرين عاما مرت من عمرها معه, في مقابل: عشرون أخرى عاشتها قبل أن تلقاه, حياة من لون آخر بنكهة أخرى, حياة أخرى, بكل المقاييس, واليوم صار عليها أن تختار, بين أن تحطم تلك الجدران، و أن تخرج من تلك الزنزانة التي صنعتها بنفسها لنفسها, فقد كبر الأولاد و كبرت هي معهم, وها هو الشيب يغزو رأسها, عليها أن تجرب أن تعيش حياتها بلا جدار ولا قيود.
ولكن كيف هل تتركه؟  أيكون الطلاق هو الحل.
وجاءها صوت رشا وسامح وهما يتشاجران كعادتهما من أجل قلم الرصاص, شعرت أن صوتهما يحملها إلى عوالم سحرية كلها حبور ومحبة, وشعرت أنها بقوة ذلك الحب الكبير الذي تحمله لهما قادرة على أن تحطم أكبر الأسوار, فلا يمكن لأم لم تنحرف مشاعر أمومتها أن تسلم مثل هذه محبة للعدم, وتودي باستقرار أولادها للضياع.
ستحارب من أجلهم. ستحطم جدران الصمت, وسينطلق لسانها كما كان قبل عشرين عاماً, سينطلق وتتحدث، و أمامه, في كل المواضيع, ستطلق ضحكة وتحكي نكتة, لن تخاف ثعابينه, ولن تهاب حممه, هي تدرك أنه يحبها, وأنه لن يؤذيها فلماذا تهابه على تلك الصورة؟
ستتعامل معه كما تتعامل كل زوجة مع زوجها, وقد يعلو صوتها أحيانا أمامه, أو تصوبه في رأيه, أو ترفض تحقيق طلبه, كما تفعل كل النساء مع أزواجهن.
ودق جرس الباب, ثم سمعت صوت المفتاح والباب يفتح إنه هو.. لم يصبر مرة لتفتح له الباب, جرت إليه وكلها لهفة تريد أن تقول, تريد أن ترفع صوتها بالكلام.
ولكنه ابتدرها قائلا: ألم تجهزي بعد؟ أين الأولاد؟ ,يبدو أنك لا تقدرين قيمة أن يصطحبك زوجك لمثل ذلك المطعم الفاخر؟
ونظر إليها نظرته النارية وتحركت الثعابين في عينيه, أشاحت بوجهها عنه, تجاوز الصالة بخطوات سريعة متوجها لغرفة أولاده رافعاً صوته:
-  هيا يا أولاد لقد تأخرنا.
فهرول الأولاد خارجين من البيت, وخرجت هي مسرعة في إثرهم,  وجدران الصمت تتبعها.

JoomShaper