مي عباس
تبدأ مأساة صديقتي من والدة وزجها.. وذلك على الرغم من كونها سيدة طيبة تعاملها أفضل معاملة، ولا تؤذيها من قريب أو بعيد، ولكنها ربت ابنها بطريقة تؤذي كل من يقترب منه أو يتداخل معه، وبالأخص زوجته..
لقد ربته على الأخلاق، وعودته الصلاة منذ صغره، فخرج شابا مؤدبًا لا يفوته فرض، كل هذا جميل ورائع، ولكنها غرست فيه شعورًا أحمقًا بالكبر والاستعلاء، فمنذ صرخته الأولى في هذه الدنيا، والتي تبعتها زغرودات من حولها في تلك القرية النائية، وصيحاتهن المبشرة:" ولد.. ولد.. ربنا كرمك بولد".. منذ ذلك اليوم وهي تتعامل معه على أنه الجوهرة الثمينة، ومفتاح سر التاريخ، وكأنه أول صبي في تاريخ البشرية، ومن لم تلد مثله النساء!
وتلوم صديقتي نفسها على أنها لم تدرك فساد الحال رغم الشواهد، فعندما أتوا لخطبتها، وجلست مع حماتها، أخبرتها وأخبرت الجميع بقصتها، فقد رزقها الله بعد زواجها ببنت تلو الأخرى، وعندما أنجبت البنت الرابعة استبد بها اليأس، بل على حد وصفها "أكل الناس وجهها"، وهو تعبير يحمل في طياته الخزي والعار الموروث عن الجاهلية  الجهلاء.
ولم يكن أمامها من مفر إلا أن تحاول مجددًا لتنجب صبيًا ذكرًا يحفظ ماء وجهها المُراق، وقد رزقها الله بما تمنت، فدللت وأسرفت في الدلال، وربت بناتها على أن هدفهن الأسمى في هذه الحياة أن يخدمن أخيهن الأصغر المبجل، ولا يفترن عن رعايته وإسعاده، فتعوًّد أن من حوله من النساء هنّ دومًا رهن إشارته، ومحكومات بأمره، ومتحملات لتقلبات مزاجه، ومسئولات عن ترفيهه وإبهاجه، لا يمكن أن يغضبن منه أو يفكرن في خصامه، فهو ملك الخصام، ومتعهد الغضب والانفعال.

وتتعاظم أزمة صديقتي لكونها نشأت في بيئة مختلفة، وفي ظل ثقافة مغايرة تمامًا، لا تعتبر الذكورة بحد ذاتها مفخرة، فقد ربتها أمها على أن تحب أخيها وتعاونه، كما ربته هو أيضًا على أن يحبها ويرعاها ويحترمها.

صديقتي التي تزوجت عن قصة حب عصرية جدًا، تمنت في ليالٍ سوداء كثيرة لو أنها لم تستسلم لعاطفة رعناء، ولو أنها دققت في طبائع زوجها، فطبعه الرئيسي كان "النكد" يحبه يعشقه إلى حد التتيم، ويجد لذة متناهية في أن يصب إحباطه المصطنع على من حوله ليبدؤوا في هنهنته كالطفل الصغير، واقتراح أفكار عليه ليرفضها فيتمادى في تعذيبهم ونقل حالة الإحباط إليهم.. ثم إذا به فجأة يبتهج ويغرقهم مزاحًا وانبساطًا..

كانت تعتقد أن زوجها وأبا طفليها مريض نفسيًا، ومرضه عضال ميئوس منه، فهو لم يعرف يومًا معنى عتاب النفس أو مراجعتها ليفكر في تغيير سلوكه، وقد أفسده الدلال والغرور فتتقلب عليه نفسه دائمًا، ولا يطيق رؤية من حوله- وبالأخص زوجته- سعيدة أو مشغولة بشيء بعيدًا عنه..

كانت نصيحتي لها أن تغير طريقتها معه، فقد كانت تحاول إرضائه، وتشعره بخوفها وحذرها من تقلباته، وتضيق عليها الأرض من جرعات نكده المتتالية، ورغم مشاحناتهما الكثيرة، وكلامها القوي وصراخها في بعض الأحيان، إلا أنه كان يجد فيها امرأة ضعيفة، امرأة تدور في فلكه، ويستطيع اللعب بأعصابها، وتبديل مشاعرها في دقائق معدودة، باختلاق مشكلة، أو إبداء العبوس والصمت.. كان يراها ضعيفة تمامًا كوالدته وأخواته وإن تغيرت صورة الضعف وطريقته، بينما هو يتوق حقًا إلى المرأة القوية، تلك التي لا تنتظره دومًا ليبدل سواد حياتها ضياءًا.. تلك التي تعرف طريقها، وتمضي إلى أهدافها وأعمالها، وتعرف كيف تتخذ قراراتها، ولا يتغير مزاجها تبعًا لأهواء من حولها.

كان يتمنى أن يرى نموذجًا نسائيا مغايرًا، امرأة تعرف كيف توقفه وتمنعه عن أذى نفسه وأذى الآخرين بهذا النكد والتقلب والدلال البغيض، بألا تشعره أنها ضائعة في غيابه، فارغة بدونه، أو مهتمة لقسوته المفاجئة، وبالطبع ألا تنساق مع إشعاره لها بالذنب والذي يبرع فيه.

وعلى عكس ما نصحتها به الكثيرات فقد كان زوجها بالذات لا يحتاج إلى من تكمل معه مسيرة الدلال والاستضعاف التي تشبع منها وسئمها من داخله، والتي يعرف منبعها الرئيسي وهي والدته، ولا يريدها من زوجته.. كان هذا الزوج المدلل بحاجة إلى امرأة تشعره برجولته وليس بطفولته، تشاركه ويشاركها الحياة باتساعها، كان بحاجة إلى أن يحترم امرأة.. ويخاف على مشاعرها، ويحذر هو أحيانًا تقلبها.

رسالة المرأة

JoomShaper