فاطمة عبد الرءوف
الإيثار صفة جميلة من تلك الصفات النادرة التي يتحلى بها المؤمنون وهي قيمة خلقية تعني أن الإنسان الذي يتخلق بها ارتفع فوق طبيعة البشر الذين غالبا ما يتمنون كل الخير المادي والمعنوي لأنفسهم دون كثير اعتبار للآخرين بل وفي أحيان كثيرة في رغبة شرهة على الاستحواذ والاستيلاء على ما عند الغير .
ونستطيع أن نقول أن الإيثار مقياس دقيق لدرجة إيمان الإنسان فكلما قوي الإيمان استطاع الإنسان بسهولة أن يتحلى بخلق الإيثار {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الحشر- 9.
ولو تحدثنا عن الإيثار بين الزوجين فلاشك أنه حديث يحمل نكهة مختلفة إذ أن الإيثار من أكبر الأسس والدعائم التي تقوم عليها الحياة الزوجية السعيدة لأنه الترجمة العملية للحب وبه تستنبت بذوره وتطيب ثماره وكثيرا ما يستخدم لفظ التضحية للتعبير عن قيمة الإيثار.
المرأة بطبيعتها الرقيقة المرهفة وبفطرتها التي فطرها الله عليها تمتلك قدرة ضخمة للعطاء والتضحية خاصة من أجل زوجها وأولادها ولكنها في بعض الأحيان لا تدرك القوانين والأصول لهذه التضحية ومن ثم تقع فريسة للندم والإحباط لذلك سوف نلقي الضوء على بعض النماذج لزوجات قدمن تضحيات ثم وقعن فريسة الندم ومن ثم نتعرف على الأصول والقواعد التي ينبغي على الزوجة الانتباه لها وهي تقدم هذه التضحية.
طبيبة محبطة
منذ سنوات تعرفت على طبيبة ضحت وبذلت ثم رأت أنها جنت السراب كانت تحكي والحسرة تعتصر كلماتها ..كنت وزوجي زميلين في كلية الطب ..تمت خطبتنا أثناء الدراسة وتزوجنا بمجرد التخرج وكنت قد عزمت بيني وبين نفسي أن نكون نموذجا للأسرة السعيدة وعاهدت نفسي أن أقدم كل ما أملك وأضحي به من أجل هذا الهدف العزيز على قلب كل فتاة كان تقديري الدراسي العام أفضل كثيرا من تقدير زوجي ..خطيبي آنذاك ولكنني تعاملت مع الموقف بمنتهى اللطف والنعومة حتى لا أستثير غيرته فأنا أعلم أن الرجل لا يحب أن يشعر أن زوجته أفضل منه أو أكثر نجاحا ودخلنا لمجال الحياة العملية معا ولكن وبعد أقل من عام رزقت بطفلتي الأولى التي أصر زوجي أن أحصل على إجازة بدون مرتب من أجل التفرغ لها ..كان يضغط على مشاعري وتصادف أن مرضت طفلتي في شهورها الأولى وكان ذلك بمثابة النقطة التي أنهت موضوع عملي أو تفرغي للبيت والبنت.. كان زوجي وحيدا ليس له إخوة لذلك كان متعجل لحمل آخر وهكذا أصبحت في إجازات شبه مستمرة في هذا الوقت كان زوجي يستكمل دراساته العليا ولم أكن أشعر مطلقا بأي غضب من هذا الوضع العكس تماما هو الذي سيطر على مشاعري كنت فرحة به وبنفسي وبأسرتنا السعيدة المستقرة ..كنت أشبع نهمي في العلم بالتعاون الجاد والقوي معه في دراساته وأبحاثه التي كنت شريكته فيها دون أن يعلم بذلك أحد ولم لا وقد كنت زميلة دراسته وكنت طالبة لامعة يشهد لها أساتذتها بالنبوغ والمستقبل المشرق.
هذه الطبيبة الآن وبعد مرور أكثر من عشرين سنة على زواجها محبطة تماما وتتمنى أن تعود عقارب الزمن للوراء حتى تسلك سلوكا مغايرا فبعد هذه السنوات العشرين أصبح زوجها أستاذا لامعا الحجز لديه يلزمه وقت طويل وأسعار كشفه خيالية وهو ضيف في كثير من البرامج التليفزيونية أنيق وسيم رشيق يبدو أكثر جاذبية مما كان منذ عشرين سنة وهو مشغول جدا في مؤتمراته وعمله.
أما عن حياته المنزلية فهي روتينية للغاية إن لم تكن جافة لا يتحدث إلا إذا وجه إليه سؤال فهو مشغول مشغول ولدى الزوجة شعور قوي أنه تربطه علاقة عاطفية بطبيبة شابة بالغة الجمال تعمل معه في المستشفى الذي يمتلكه.
تقول الزوجة الطبيبة نظرت لحالي فإذا أنا مجرد ربة منزل عادية ..لا أملك أي مال خاص بي ..علاقاتي الاجتماعية محدودة أو منقطعة ..ازداد وزني بشكل كبير فأنا لم أعد أخرج من المنزل إلا نادرا وقد ارتسمت علامات الحزن والاكتئاب على قسمات وجهي ..أبنائي مشغولون وزوجي مشغول جدا وأنا تعتصرني مشاعر الندم والأسى.
كاتبة إسلامية
أما قصة هذه الكاتبة الإسلامية فقد أثرت في كثيرا وشغلتني للغاية فلقد كانت بالنسبة لي من النماذج الذين أتابع كتاباتهم بشغف وهي واحدة ممن قامت على أكتافهن الصحوة الإسلامية الحديثة عندما اقتربت منها عرفت أن ورائها قصة تضحية جميلة فلقد اعتقل زوجها ـ الذي هو أيضا كاتب ومحلل سياسي إسلامي مشهور ـ لمدة تزيد عن عشر سنوات.
كانت هي في هذه السنوات العشر الأم والأب وكل شيء لأبنائها ولا يعرف مرارة زوجة المعتقل إلا من تذوق مرارة الظلم والاعتقال والاختطاف.
المشكلة أنها ظلت كذلك حتى بعد خروج الزوج الحبيب من المعتقل فهو في حالة حركة دائمة لقاءات وندوات وعمل سياسي وتخطيط دعوي واستكمال للدراسات العليا وجدول متخم ومليء بالأعمال ..في البداية كانت فرحة سعيدة بزوجها ونشاطه ..كانت تتلمس له الأعذار وكانت تعتقد أنه وبعد فترة سيحدث التوازن المطلوب ويعطي كل ذي حق حقه إلا أن ذلك لم يحدث بل زادت أعماله بشكل رهيب.. حتى المرات القليلة التي تدخل فيها في مسار تربية الأبناء كان الصدام مع الأبناء هو النتيجة الوحيدة لهذه التدخلات ..كانت تعاني في صمت سنوات أخرى ولكن ما صدمني هو ذلك المقال الأخير الذي نشرته وكان يقطر حزنا على الزوج الباشا الذي قرر وبعد سنوات المشقة والابتلاء أن يبدأ من جديد وحده مشروعه الخاص في الوقت الذي كانت تنتظر فيه الجزاء العادل مقابل التضحيات الكثيرة التي قدمتها ..نظرت لنفسها فوجدت أنها قد ذبلت وأرهقت لم تبحث لنفسها عن مشروع خاص فقد كانت تعتقد أن لهما نفس المشروع ولكن تيقنت بعد فوات الأوان أن لكل جسد روحه الخاص ولا يمكن للروح الواحدة أن تسكن جسدين وكل إنسان مسئول وحده عما يتخذه من قرارات وأن الإنسان ليس عليه أن ينتظر الشكر ممن ضحى لأجلهم.
بقدر ما شغلني أمرها وأهمني بقدر ما منحني فرصة للتفكير الهادئ عن ضوابط التضحية والأصول التي يجب إتباعها عندما تقرر أن تضحي وهذا ما سنتحدث عنه في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
وللتضحية أصول (1ـ 2)
- التفاصيل