إعداد: رضوى فرغلي
في الأسابيع الماضية تابعنا حادثة مقتل هبة العقاد ابنة المطربة ليلى غفران، وصديقتها نادين جمال ابنة مهندس مصري مقيم في السعودية.. وما تبعها من ملابسات.. وانشغل الجميع بالجانب البوليسي الغامض وما تضيفه وسائل الاعلام من «بهارات» على جرائم المشاهير.. لكن أحداً لم ينتبه الى الجانب النفسي والاجتماعي لهذه المأساة المحزنة.
بعيداً عن تفاصيل الحادثة، أو هوية القاتل، أو سبب القتل، أو الأخبار التي أشيعت عن سلوكهما، فان ما لفت نظري هو حالة الغياب الرمزي التي تعيشها الفتاتان.. «نادين» تعيش في فيللا بمفردها في هذه السن الخطرة (19 عاما) تقريبا، حتى وان تعللت الأسرة بأن هذا الوضع شائع بين عائلات كثيرة، أو أن الحي الذي تسكن فيه آمن، أو أن الخادمة تعيش معها معظم أيام الأسبوع.. وكذلك «هبة» تعيش بين أب وأم منفصلين ويُسمح لها بكل بساطة بالمبيت لدى صديقتها بمفرديهما.. الأمر الى حد ما مثير للدهشة، ويطرح أكثر من علامة استفهام!
السفر
لا شك أن السفر حلم يراود عقول الكثيرين، خلاصاً من واقع اقتصادي رديء، أو طموحاً الى مستوى اجتماعي وعلمي أفضل، يضطر البعض في سبيله الى التضحية بعلاقات حميمة، مثل العيش مع الأولاد، وذلك في حال سفر الأبوين من دونهم أو اضطرار الأبناء للعودة وحدهم الى وطنهم بسبب الدراسة مثلاً، وهي حالة شائعة بين المغتربين يخفف من خطورتها وجود الأبناء مع أجدادهم أو أقاربهم الذين يتابعونهم ويلبون احتياجاتهم النفسية والاجتماعية نوعا ما ويشكلون عنصر حماية كبيرة لهم، خصوصا في مرحلتين من أخطر مراحل العمر وهما الطفولة والمراهقة.
ان السفر يمنحنا المال، لكنه يفقدنا أبناءنا أحيانا، ويجعلنا بعيدين عنهم ليس جغرافياً فقط بل نفسياً أيضا، لا نتابع مراحل تطورهم الفكري والنفسي والثقافي، ولا نشاركهم تفاصيل يومهم.. تلك التفاصيل التي تصنع الحياة.. والتي قد يسكنها الشيطان أيضا، حيث لا ندري مَن هم أصدقاؤهم، ولسنا قريبين من معاناتهم أو أفراحهم الصغيرة والمهمة، لسنا صندوق أسرارهم وملجأ لهفتهم، لا نرى دموعهم ليلا ولا حيرتهم نهارا، لسنا صدرا حنونا يرتمون فيه وقت الألم والفرح، لسنا عيونا تتلقفهم وقت الرجوع الى البيت، ويدا تربت على أكتافهم وتواسي قلوبهم من خيبات الزمن.
تلك الجوانب هي التربية بعينها، والتي لا يجدي معها الا التواصل الحميم والوجود الفعلي والحوار المباشر مع الأبناء، ولا يغني عنها التواصل معهم عبر وسائل الاتصال الحديثة. اذا نحن حين نسافر ونترك أبناءنا تنهشهم الوحدة، لا نربيهم.. بل نتنازل عنهم نفسيا وفكريا لمجهول يفتك بهم حين تأتي فرصة مناسبة.
ثراء مادي وفقر نفسي
في حال عدم وجود الأجداد والأقارب يلجأ الآباء الى حل آخر وهو أن يستأجروا شقة أو منزلا لأبنائهم يعيشون فيه بمفردهم ويحاولون تأمينهم ماديا، خصوصا في مرحلة الدراسة الجامعية ظنا منهم أن هذا النوع من التواصل كاف لتحقيق الأمان النفسي والاجتماعي للأبناء.. لكننا نكتشف مع الوقت أنه حل يشوبه الكثير من العيوب، ويضع الأبناء على حافة الخطر.
لذلك عندما يختار الآباء معادلة الفقد الأسري مقابل السفر والمال، يظل يراودهم احساس لاشعوري بالذنب يحاولون تعويضه بالانفاق المادي الباذخ على أبنائهم وشراء ملابس غالية وشقة فخمة وسيارة والدراسة بجامعات خاصة وباقي الكماليات التي تناسب رواتبهم (في حالة نادين كان الأب يرسل لها 5000 جنيه مصري شهرياً، وهو راتب لا يحلم به معظم زملائها!).
وقد يتصل الأبوان بأولادهما يوميا أو أسبوعيا أو كلما تذكروا أو اذا سمحت ظروفهم (حسب طبيعة كل شخص) معتقدين أنهما بذلك قد أديا واجبهما، ناسيين أنهما في هذه الحالة قد تحولا الى صندوق نقد أو بنك ممول فقط، وليس كأبوين مسؤولين عن تنشئة وحماية شخصية متكاملة، ويحاولان تحقيق الثراء المادي مغمضي العينين عن الفقر النفسي الذي يعاني منه الأبناء في صمت.
أناقش هنا معادلة يلجأ اليها كثيرون، وأراها خاسرة، وهي السفر وترك الأبناء وحدهم دون رقيب أو مشرف عليهم، يكتسبون الخبرات بحسناتها ومساوئها من آخرين، يحملون فكرا وثقافة ووعيا وقيما غير التي نحملها، ويتعلمون بالتجربة والخطأ، وهي طرق صعبة تستنفد الكثير من طاقاتهم، وقد تتركهم بنتائج مريرة لا يداويها علاج فيما بعد.
ان أبناءنا يأسرون قلوبنا ويجعلوننا حيارى بين احتياجاتهم وكيفية اشباعها، ولا أشكك اطلاقاً في حب كثير من الآباء لأبنائهم، وحرصهم عليهم ورغبتهم في تأمين مستقبلهم المادي والعلمي وتوفير مستوى اجتماعي جيد لهم يوفر عليهم عناء السنين، ويختصر عليهم مراحل شقاء كثيرة، خصوصا في بلادنا العربية التي يعاني معظمها من تدهور اقتصادي واجتماعي وسياسي، لكن ذلك يستلزم وعيا عميقا، وحذرا شديدا من جانب الآباء قبل أن يتركوا فلذات أكبادهم يخوضون الحياة وحدهم.
وهم الحرية
اذا كنا نسلم بأن الطفولة هي مرحلة التكوين وفيها تنقش المبادئ والقيم على جدار الشخصية، فان المراهقة هي ميلاد جديد ومرحلة مفصلية وانتقالية مهمة جدا، تحتاج من الأبوين والمحيطين بالمراهق الى وعي وصبر وثقافة تربوية في كيفية التعامل مع هذا الكائن المراوغ، المتمرد، المندفع، والمحتاج بشراسة الى تحقيق ذاته واثبات شخصيته ولو بطرق سلبية. اننا في المجتمعات العربية لا نجيد التعامل مع أبنائنا المراهقين والتواصل أو التناغم مع رغباتهم واحتياجاتهم النفسية والفكرية، البعض يتعامل معهم وكأنهم أطفال لا ينضجون أبدا ويزيد من تسلطه ورقابته وخوفه عليهم، ما يخلق منهم أشخاصا ضعاف الشخصية، متذبذبين في قراراتهم، قليلي الثقة في أنفسهم، يحتاجون دوما للحماية والوصاية عليهم، غير قادرين على مواجهة الحياة.
والبعض الآخر، على العكس تماما، يستعجل استقلالية الأبناء واعتمادهم على أنفسهم في مواجهة الحياة بشكل كامل بعيدا عن أي رقابة أو اشراف أو متابعة، وهم في هذا الجانب يقلدون أنماطا غربية في تربية الأبناء، فيسمحون لأبنائهم وبناتهم بالحياة بمفردهم، والانفصال الكامل عنهم وعدم التدخل في شؤونهم أو اختيار أصدقائهم أو ملابسهم أو مواعيد خروجهم وعودتهم الى المنزل بدعوى الحرية واحترام خصوصيتهم، دون الالتفات الى أن هذه الطريقة في التربية تحتاج الى استيعاب مجتمعي لها، ومناخ عام يسمح بها ويتقبلها من دون النظر اليها على أنها «قلة أدب وعدم تربية»، اضافة الى تأهيل الانسان لها منذ الصغر وفق ثقافة عامة وبناء نفسي قوي ورؤية عميقة لمفهوم الحرية، وحتى في هذه الحالة لا بد من اشراف الأسرة وتوجيهها لأبنائها ومساندتهم وقت اللزوم، وعدم تركهم مثل القشة وسط البحر يحركها التيار كيفما يشاء، فالدور الأسري لا ينتهي ببلوغ الأبناء مرحلة المراهقة أو تجاوزها بقليل، خصوصا في هذه العصر المليء بالاغواءات المختلفة على الانحراف، مثل وسائل الاعلام وأصدقاء السوء والمفاهيم والقيم السلبية التي يعج بها المجتمع، ما يضاعف من دور الأسرة في حماية أبنائها.
سؤال مُحير
قد يتبادر الى الذهن سؤال: ما الذي تغير؟
تسافر آلاف الأسر منذ عشرات السنين وتترك أبناءها، ولم نكن نسمع عن هذه الانحرافات أو الجرائم المفزعة؟ هناك عوامل عدة تلعب دورها في انتشار مثل هذه الانحرافات والجرائم بشكل أكبر مما سبق.
ــ كانت الأسرة الممتدة تلعب دورا كبيرا في حماية الأبناء في حال سفر الاب، أو غيابه والأم، لأي سبب، فالأعمام والعمات والأجداد والأخوال والخالات، كلهم بدائل مأمونة على الأبناء ورعايتهم، ومازال هذا الوضع سائرا في المناطق الريفية التي تتميز فيها العائلة بروابط اجتماعية قوية تشكل عنصر حماية وأمان الى حد كبير.
ــ التكوين الاجتماعي أصبح أكثر تفككا وأقل أمانا فهو يشكل عنصرا مهددا لأفراده بدلا من أن يكون سندا وداعما لهم، فالجار، خصوصا في الأحياء الراقية والمدن الجديدة، لا يعرف شيئا عن جاره، لا يهرع اليه، لا يستجيب لاحتياجاته النفسية والاجتماعية، وربما لا يتورع أحيانا عن ايذائه أو الاعتداء على حرمة بيته، ما جعل الجميع يخافون بعضهم من بعض، ويتعاملون بمنطق الحذر لا بمنطق الاطمئنان.
ــ التردي الاقتصادي ترك آثاره السلبية على الشخصية، ليس فقط في الانحدار الأخلاقي والقيمي وانتشار البطالة والمخدرات والتحرش الجنسي والانحرافات بكل أشكالها، بل في تلك النظرة الحاقدة من بعض الفقراء الى كل من «يُشتبه» في أنهم أثرياء، والطمع في ما يملكون من ثروات، ومهاجمة ممتلكاتهم وأبنائهم من دون سبب واضح، كأنه تنفيس عن طاقة سلبية لم تجد لنفسها سبيلا، أو وعي مشوه بفساد سياسي أعاد الطبقية الاجتماعية بشكل حاد ووقح الى الظهور، فيتخيل بعض هؤلاء المطحونين أن الأثرياء هم من سرقوا منهم فرص السفر والتعليم والمأكل والمشرب الجيد والحياة الكريمة، فتحدث لديهم ازاحة لفكرة العقاب والانتقام لوضعهم السيئ من المسؤول الفعلي الى هؤلاء الأثرياء. من هنا نجد البعض يستحل فكرة سرقة الأغنياء، والبعض الآخر من الفقراء قد «يُستغل» كبديل عن سارق أو قاتل، مقابل مبلغ من المال يستر عورة فقره (كما هو مطروح على سبيل الاحتمال في القضية الحالية سواء أكان المتهم هو القاتل الحقيقي أو «دوبلير» لشخص آخر كما قيل). ان بعض الفقراء يراودهم تخيل لاشعوري بأن «الغني حلال فيه السرقة وربما القتل»، والا ما الذي يضطر شابا في مقتبل العمر الى التضحية بحياته في قضية أقل عقاب لها هو الاعدام، ان لم يكن مؤمناً بهذه الفكرة ومستعدا للتضحية بنفسه من أجلها، أو مختلا عقلياً؟!
طائر بجناح واحد!
يقول الفيلسوف مارغوري هوكنز: أي شعور أجمل من شعور تمنحك اياه يد طفلك وهي تستريح في يدك؟ انها صغيرة ودافئة كفرخ حمام في حضن أمه، ما أصغر تلك اليد التي توقظ لدينا منتهى الحكمة والشجاعة. انها الملامسة الحقيقية لدفء أبنائنا، وحضورنا الدائم بجانبهم ذلك الذي يشعرهم بالأمان، ويمنحنا الرضا عن أنفسنا بأننا قد أدينا واجبنا النفسي والعاطفي والانساني تجاههم وليس المادي فقط. فطالما امتلكنا شجاعة اختيارهم واتخذنا قرارا جريئا بأن ننجبهم ونحضرهم الى الحياة من دون ارادة منهم، فعلينا أن نتحمل مسؤولية هذا الاختيار باعتباره أصبح حياة مشتركة بيننا وبينهم تستلزم منا حمايتهم ورعايتهم ومعاملتهم كما يتوقعون منا، لا كما نحب نحن فقط، أو تملي علينا رغباتنا النرجسية كآباء نريد أن نحقق أنفسنا فيهم فحسب، فنخسرهم ونخسر أنفسنا.. فان لم تنته بهم الحياة نهاية مأساوية، فسيعيشون بعد فقداننا الضمني أو غيابنا الرمزي، كطائر قُدر له الطيران بجناح واحد.
جريدة القبس