أم عبد الرحمن محمد يوسف
اسألي نفسكِ!
لماذا أذاكر؟ ولماذا أدرس وأتعلم؟!
هل سألتِ نفسكِ عزيزتي هذا السؤال العجيب من قبل؟!
هذا السؤال له قصة عجيبة حدثت مع أحد طلاب الجامعة، بكلية طب الأسنان.
ففي أحد الامتحانات العملية كان على الطالب أن يحضر مريضًا يعاني من ألم في أسنانه، فيقوم بمعالجته ليأخذ درجة النجاح؛ وقد كان بالفعل أن أحضر الطالبُ المريضَ وشرع في تقديم سبل العلاج له حتى أتم الله على يديه شفاء المريض؛ وأخذ الطالب درجة النجاح.
ولكن هذا المريض كان يسكن على مقربة من بيت الطالب، فكان كثيرًا ما يلقاه مارًّا في الطريق، وكان كلما قابله المريض أخذ يشكره ويمدحه ويثني عليه أن الله شفاه على يديه.
وهنا وقف الطالب مع نفسه وقفة ... فإن نيته من مداواة المريض كانت الدرجات فقط! ولكنها غفل ونسى أن يضع نية بذل الخير والمعروف للناس ومداواة المرضى في دراسته ... وهنا سأل نفسه: لماذا أذاكر؟!
وقود النجاح:
عزيزتي الطالبة، يظن الكثير من الناس أن سبب التقصير في المذاكرة هو سوء الأساليب المستخدمة فيها، وضعف مهارات المذاكرة، ولكن إن كان فيه معنى صحيح إلا أن ضعف المهارات ليس هو السبب الرئيسي للتقصير في المذاكرة، بل السبب الأول والذي يأتي في المقدمة؛ هو ضعف الرغبة والدافع.
ذهب رجل إلى أحد حكماء الصين، طالبًا منه أن يعطيه وصفة النجاح وقوة الإرادة، فإذ بذلك بذلك الصيني يأتي بدلو ممتلئ بالماء ويأمر الرجل أن يغمر رأسه تحت الماء لأطول مدة ممكنة، ففعل الرجل مثلما طلب الحكيم، ولما طال بقاؤه في الماء وشعر بحاجته للخروج منها، إذ بالحكيم يضع يدع على رأس الرجل كي يبقيه تحت الماء! وظل الرجل يقاوم حتى يخرج، ويقاوم، ويقاوم، وحينما أحس من داخله أنه سيموت وأن الحكيم لا يترك رأسه؛ إذا به ينتفض انتفاضة قوية أخرج به رأسه من الماء.
تلك الانتفاضة التي قام بها الرجل هي الترجمة العملية للرغبة، الرغبة في البقاء، فمحاولاته للخروج في أول الأمر لم تكن جادة، ولم تكن بها رغبة مشتعلة، إلا أنه مع الوقت زادت رغبته في البقاء والتهبت فكانت الانتفاضة الأخيرة.
من أجل ذلك عد علماء النفس أنه من أحد شروط التفوق والنجاح في الدراسة هو شرط توفر الدافعية للمذاكرة والدراسة لدى الطالب؛ فـ(شرط لحدوث عملية التعلم أن يكون هناك دافع للفرد نحو بذل الجهد والطاقة لتعلم المواقف الجديدة أو حل المشكلات) [الأمن النفسي وعلاقته بالتحصيل الدراسي، عبد الله السهلي، ص(53)].
فالرغبة المشتعلة هي التي تعطينا الدافع نحو النجاح، وهي التي تكسبنا بالإرادة والمثابرة إذا صعبت المواد واستغلق فهمها، فهي من تكسر الحواجز، وتتحايل على العقبات، من أجل ذلك كان للمثابرة مكان في إجابة الدكتور أحمد زويل الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء حينما سُئل عن النجاح فقال: (النجاح هو تحديد الهدف، ومن هنا فلابد للباحث الذي يطمح في النبوغ وتحقيق الأمل الذي ينشده، أن يجمع بين المثابرة الحديدية، التي تجعله ينكب على عمله بجد واجتهاد، والموهبة التي هي هبة من الله سبحانه وتعالى، ويبقى شيء ثالث ينضم إلى هذين العنصرين، وهو وجود الهدف، وأنا أعتقد أن كلمة نجاح معناها تحديد الهدف، فالنجاح هو الابن الشرعي هذه العناصر معًا) [آفاق بلا حدود، محمد التكريتي، ص (50)].
الرغبة الصادقة هي أن تحلمي بالنجاح، أن تعيشي بالنجاح، أن تري في كل حركة وسكنة أثناء المذاكرة طريقًا نحو النجاح؛ (فلا شك أن أول ما يحلم به أي طالب مع بدء العام الدراسي هو النجاح، ولكن النجاح لا يأتي إلا بالمثابرة على الدراسة, تلك المثابرة التي تتخللها فترات من الراحة والترفيه) [مراهقة بلا أزمة، د.أكرم رضا].
لذلك؛ وددت أني من خلال هذا العرض عزيزتي، أن أعرض عليكِ سبب المذاكرة، وفوائد العلم وطلبه، وثمرات تحصيله، عساكِ أن تتأملي في كل فائدة وتتكفري في كل ثمرة؛ فتجمعي نيتكِ على كل هذه الأمور، فإن النية الصادقة تخلق رغبة مشتعلة ولاريب.
أولًا ـ من تمام العبودية:

نعم أخيتي؛ كما أن الصلاة والصوم وقراءة القرآن عبادة، يتقرب بها العبد إلى مولاه، فإن المذاكرة وطلب العلم من العبادة، فبما أن العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال؛ فالعلم وعمارة الأرض أمر مطلوب منا شرعًا؛ ألا ترين أن الله تعالى يقول: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61]، وقال أيضًا عن مسئولية الإنسان في عمارة الأرض: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وما الذي بيَّن الله به مكانة آدم أمام الملائكة؛ أليس أنه علم آدم الأسماء كلها فتعلمها؟!
ولكي تطمأن نفسكِ إلى هذا الكلام، وتشعرين من قرارة قلبكِ أنك بمذاكرتكِ تعبدين الله تعالى، تعالي ننهل سويًّا من كلام أئمة العلم، ونركن إلى آرائهم السديدة، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: (أما فرض الكفاية: فهو علم لا يُستغنى عنه في قوام أمور الدنيا؛ كالطب إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان على الصحة، والحساب فإنه ضروري في قسمة المواريث والوصايا وغيرها، فهذه العلوم لو خلا البلاد عمن يقوم بها؛ حرج أهل البلد، وإذا قام بها واحد؛ كفى وسقط الفرض عن الباقين) [مختصر منهاج القاصدين، ابن قدامة، ص(12)].
(فيجب على كل مسلم أن يتعلم فرض العين من العلم الشرعي، وهو ما تصح به عقيدته وعبادته، ومعاملاته التي يحتاج إليها في حياته، ثم أن يسهم بعد ذلك في تحقيق فروض الكفاية من أنواع العلوم الأخرى التي تحتاجا أمة الإسلام؛ من اقتصاد وسياسة وإعلام وتجارة وغير ذلك، كل بسحب طاقته وإمكاناته، سواء بنفسه، أو بإعانة غيره من المسلمين على ذلك) [زدني علمًا، هشام مصطفى، ص(21)].
ثانيًا ـ طلبًا للثواب:
فإلى طالبات الثواب من ربِّ العباد، ومحبي رفعة الدرجات في الجنات، إليكن هذا الطريق سلكه الله لنا لنلتمس فيه ثوابًا؛ فإنه: ((من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا، سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم)) [صححه الألباني]، هكذا بيَّن نبينا صلى الله عليه وسلم ووضح، فأين المشمرون؟!
من أجل ذلك خاطبنا الإمام ابن قدامة في منهاجه مبينًا المفهوم الشامل الكامل لطلب القربى من الرب الرحيم فقال: (ولا يُتعجب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفاية، فإن أصول الصناعات أيضًا من فروض الكفاية؛ كالفلاحة والحياكة بل الحجامة) [مختصر منهاج القاصدين، ابن قدامة، ص(12)].
ثالثًا ـ رفعة لسلطان الأمة ونهضة للمسلمين:
عزيزتي، ألا تحتاج أمتنا اليوم إلى النهضة والحضارة؟
ألا تحتاج أمتنا إلى الرقي والعلوم والتكنولوجيا؟
ألا تحتاج أمتنا اليوم أن تستعيد مجدها التليد لتصير في مقدمة القاطرة تسوق الركب خلفها نحو النجاح والحضارة والرقي والتكنولوجيا؟
لذلك؛ إن طالبناكِ بالمذاكرة من أجل الثواب، فذلك نفعه متقتصر عليكِ، أما هنا فإنا نطالبكِ بالمذاكرة من أجل دينك، من أجل إسلامكِ، من أجل أمتكِ، فما أنت إلا بنت الإسلام، فماذا قدمتِ للإسلام؟
بالإضافة إلى أنه (مما ينبغي التنبيه عليه أن الدعوة نفسها في حاجة إلى جميع التخصصات الحياتية التي تمكنها من مخاطبة أصحاب كل مجال بلسانهم، ولو اقتصر الدعاة إلى الله تعالى على مخاطبة الناس من خلال دروس العلم في المساجد؛ لفوتت على الدعوة فرصة التأثير في أناس كثر.
فينبغي أن يقوم من الدعاة إلى الخير أناس بمشاركة أمة الإسلام في القيام بفرض الكفاية من التبحر في العلوم الدنيوية؛ كالإدارة والسياسة، ويصبح كل منهم متخصصًا في مجاله) [زدني علمًا، ص(22)، بتصرف].
فالعلم والمذاكرة هما مفتاح للدعوة إلى الله ولنهضة أمة الإسلام معًا، ولا تتحججي بطلب العلم الشرعي، فإنما تكفيكِ حاجتكِ كما بين الشوكاني فقال: (ثم لا بأس على من رسخ قدمه في العلوم الشرعية، أن يأخذ بطرف من فنون هي من أعظم ما يصقل الأفكار، ويصفي القرائح، ويزيد القلب سرورًا، والنفس انشراحًا؛ كالعلم الرياضي والطبيعي، والهندسة والهيئة والطب، وبالجملة فالعلم لكل فن خير من الجهل به بكثير) [أدب الطلب ومنتهى الأرب، الشوكاني، ص(123)].
رابعًا ـ إشباع الحاجة النفسية إلى الاستطلاع:
في مذاكرة المواد المختلفة، وسبر أغوار شتى العلوم، النظري منها والعملي، من رياضة وأحياء وفيزياء ولغة وغيرها، إشباع لحاجة أساسية من حاجات الإنسان، ومن المعلوم أن الإنسان الذي يشبع حاجاته ـ بالسبل السوية بالطبع ـ بدون إفراط ولا تفريط؛ فإنه إلى النضج يكون أسرع وإلى الاستواء والنماء يكون أقرب.
هكذا قرر علماء النفس، فكلما ازداد الإنسان علمًا؛ كلما أشبع إحدى حاجاته الملحة؛ فـ(حب الإنسان للاكتشاف والاستطلاع يمثل دافعًا مستقلًا، ولولا وجود هذا الدافع لما وسع الإنسان من إطار علومه ومعارفه الشيء الكثير، ويمثل دافع الاستطلاع الجذور الأولى للرغبة في المعرفة والاستزادة منها، وبالاستطلاع والسؤال، والاكتشاف والعلم يصل الإنسان إلى الحقائق، ومن خلال ذلك يلبي حاجته الاستطلاعية) [المراهقون دراسة نفسية إسلامية، د.عبد العزيز النغيمشي].
خامسًا ـ المكانة الاجتماعية:
وهذا أمر لا يخجل من طلبه الإنسان، أن تكون له مكانة اجتماعية جيدة، سواء بنيله لشهادة علمية مرموقة أو لنيله وظيفة طيبة مرموقة والتي سبيلها بالطبع يكون العلم والدراسة.
فأنتِ أيتها الحبيبة وكل واحد منا يحب أن يحترمه الناس ويثقوا فيه، فلا بأس أن نضمن نيتنا طلب المكانة الاجتماعية الجيدة، وإنما العيب يقع على من جعل نيته هذه وفقط، دون طلب الثواب والدعوة ونصرة الأمة.
فالدراسة تعتبر أحد الأدوات التي يقيس بها المجتمع الأشخاص ويعايرهم فـ(يعتبر التحصيل الدراسي المدرسي محكًّا أساسيًّا للحكم على مدى ما يمكن أن يحصله الطالب في المستقبل، حيث تعطي المدرسة الثانوية أهمية كبرى لدرجات الطلاب ومجوعهم الكلي، كما تعني باكتشاف استعداد التلاميذ المختلفة) [الأمن النفسي وعلاقته بالتحصيل الدراسي، عبد الله السهلي، ص(49)].
ولنا فيهم قدوة:
هذا نموذج لأحد أبناء أمتنا الأولين، الذين حملوا رايتها ونهضوا بها، وددت أن أختم بها كلامي علها أن تكون لكِ دافع نحو طلب العلم والدراسة.
إنه فارس الكيمياء جابر ابن حيان.
وصفه ابن خلدون في مقدمته وهو بصدد الحديث عن علم الكيمياء، فقال: (إمام المدونين فيها جابر بن حيان، حتى إنهم يخصونها به فيسمونها "علم جابر"، وله فيها سبعون رسالة) [مقدمة ابن خلدون، (1/322)].
ويُعَدُّ مؤسس علم الكيمياء التجريبي؛ فهو أول من استخلص معلوماته الكيميائية من خلال التجارب والاستقراء والاستنتاج العلمي، وكان غزير الإنتاج والاكتشافات، حتى إن الكيمياء اقترنت باسمه فقالوا: "كيمياء جابر"، و"الكيمياء لجابر"، وكذلك: "صنعة جابر"، كما أُطلق عليه أيضًا "شيخ الكيميائيين" و"أبو الكيمياء".
فقد كان لجابر بن حيان العديد من المؤلفات العلمية، والتي تأثر بها الغرب ونقل عنها، حتى قرر ابن النديم أن له 306 كتابًا في الكيمياء بأسلوبه الخاص في أنحاء العالم، ورغم أن معظمها قد فُقِد، إلا أنه يوجد منها الآن ثمانون كتابًا محفوظًا في مكتبات الشرق والغرب [لو أن له رجالًا، فريد مناع].
وقد ترجم معظم كتبه إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي روبرت الشستري (ت 539هـ/1144م)، وجيرار الكريموني (ت583هـ/1187م)، وغيرهما، ومثَّلت مصنفاته المترجمة الركيزة التي انطلق منها علم الكيمياء الحديث في العالم [مائة عالِم غيروا مجرى العالَم، أكرم عبد الوهاب، ص(17)].
ولقد تُرجِمت كتب جابر إلى اللاتينية، وظلَّت المرجع الأوفى للكيمياء زهاء ألف عام، وكانت مؤلفاته موضع دراسة مشاهير علماء الغرب، أمثال: كوب، وبرثوليه، وكراوس، وهولميارد، الذي أنصفه ووضعه في القمة، وبدَّد الشكوك التي أثارها حوله العلماء المغرضون.
وأيضًا سارتون الذي أرَّخ به حقبة من الزمن في تاريخ الحضارة الإسلامية، يقول: (ما قدَّر جابر أن الكتب التي ألَّفها لا يمكن أن تكون من وضع رجل عاش في القرن الثاني للهجرة؛ لكثرتها ووفرة ما بها من معلومات) [تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه، عبد الحليم منتصر، ص(106)].
أهم المراجع:
1-          الأمن النفسي وعلاقته بالتحصيل الدراسي، عبد الله السهلي.
2-          مراهقة بلا أزمة، د.أكرم رضا.
3-          المراهقون دراسة نفسية، د.عبد العزيز النغيمشي.
4-          آفاق بلا حدود، محمد التكريتي.
5-          مختصر منهاج القاصدين، ابن قدامة.
6-          وقل ربِّ زدني علمًا، هشام مصطفى عبد العزيز.
7-          أدب الطلب ومنتهى الأرب، الشوكاني.
8-          لو أن له رجالًا، فريد مناع.
9-          تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه، عبد الحليم منتصر.
10-     مائة عالِم غيروا مجرى العالم، أكرم عبد الوهاب.
11-     مقدمة ابن خلدون.

JoomShaper