محمد السيد عبد الرازق
إن رحلة المبادرة التي خضناها معًا في المقال السابق ما زالت مستمرة؛ وإن كنا قد توقفنا في المقال السابق عند المحطة الأولى من المحطات الثلات الرئيسية للمبادرة، والتي هي:
1.  تفجير الطاقات.
2.  دوائر الفاعلية.
3.  الالتزام والوفاء بالالتزام.
فإننا سنتوقف في هذا المقال عند المحطة الثانية من محطات المبادرة (دوائر الفاعلية)، فاستعد وانطلق صوب المحطة الثانية.

دوائر الفاعلية:
تحيط بكل منا آفاق واسعة من الهموم المتكاثرة، مثل: الحالة الاقتصادية، والمشكلات العائلية والأسرية، ومشاكل العمل، ومشكلات المجتمع، وغيرها الكثير من المشكلات التي تشكل دوائر كبيرة من الهموم..

وإذا نظر كل منا إلى هذه الدائرة الواسعة من الهموم، سيتضح له أن هناك جزءًا كبيرًا من هذه الهموم ليس له عليه سلطان ولا يملك شيء حياله.

إذًا فهناك دائرتين من الهموم تحيط بنا؛ دائرة الهموم الكبرى وهي كل الهموم التي تحيط بنا في الحياة، ودائرة أخرى أصغر تقع داخل دائرة الهموم وهي دائرة التأثير والمقصود بها تلك الهموم التي نستطيع صنع شيء بإزائها ولنا قدرة على التأثير فيها.

إن دائرة التأثير تقع داخل دائرة الهموم، فداخل  دائرة التأثير توجد تلك الأمور التي تستطيع أن تصنع بإزائها شيئًا، أما ما خارج دائرة التاثير فهي تلك الهموم التي لا حول لك ولا قوة في مواجهتها، كوقوع حرب مثلًا، أو حدوث زلزال أو غير ذلك.

وبتقرير أي من هاتين الدائرتين هي مركز معظم وقتك وطاقتك، يمكنك أن تكتشف الكثير عن درجة المبادرة التي بداخلك.

يركز الأفراد المبادرون طاقاتهم في دائرة التأثير، فهم يبذلون جهدهم في الأشياء التي يمكن لهم فعل شيء إزاءها، ولذا تجد تلك الطاقات تتسع وتتضخم مسببة زيادة دائرة تأثيرهم.

(ومن ناحية أخرى نجد أن الأشخاص السلبيين يركزون جهودهم في دائرة الهموم التي لا يستطيعون صنع شئ بإزائها، إنهم يركزون على نقاط الضعف لدى الآخرين وعلى المشكلات المثارة في محيطهم وعلى الظروف التي ليس لهم عليها سلطان، ويسفر عن ذلك توجيه الاتهام وإلقاء اللوم على الآخرين والشعور المتزايد بأنهم ضحايا الظروف، وينجم عن ذلك طاقة سلبية منبعثة من هذا التركيز، هذا بالإضافة إلى تجاهل المجالات التي من الممكن أن يكون لهم فيها نفوذ مما يؤدي في النهاية إلى انكماش دائرة تأثيرهم.

وواجبك أنت ينحصر في التركيز على دائرة تأثيرك لا دائرة همومك، أن تشغل نفسك بالعمل في تلك الأشياء التي لك نفوذ وسيطرة عليها، ولا تشغل نفسك بما هو ليس في إمكاناتك ولا قدراتك، أما إذا ظللت تعمل داخل دائرة الهموم وليس داخل دائرة التأثير فإنك تعطي مفتاح قوتك الداخلية لتلك الأشياء الخارجة عنك لتتحكم فيك، وبالتالي لا نتخذ روح المبادرة الضرورية لإحداث التغيير الإيجابي) [قوة المبادرة، د. محمد العطار].

وتأمل كيف ركز غاندي الزعيم الهندي على دائرة تأثيره، فاستطاعت الهند بسببه أن تنال حريتها  وتتخلص من براثن الاستعمار الانجليزي: (ففي حين كان خصومه داخل الدوائر التشريعية ينتقدونه لعدم انضمامه إلى دائرة همومهم البلاغية بإدانة الإمبراطورية البريطانية لإذلالها الشعب الهندي، كان غاندي يطوف بحقول الأرز، موسعًا في هدوء وتأن ودأب من دائرة تأثيره مع العاملين بالحقول، وقد مشت في ركابه عبر أرجاء الريف موجات التأييد والثقة والإيمان.

وعلى الرغم من أنه لم يكن متقلدًا منصبًا وزاريًا أو مكانة سياسية، فقد تمكن في نهاية الأمر من خلال التعاطف والشجاعة والصيام والإقناع الأخلاقي، أن يضطر انجلترا إلى الجثو على ركبتيها وإنهاء السيطرة السياسية التي رزح تحتها ثلاثمائة مليون شخص، ويرجع ذلك لأنه ركز على دائرة تأثيره والتي لم تتوقف عن التوسع في يوم من الأيام) [العادات السبع للناس الأكثر فاعلية، ستيفن كوفي، ص(118)].

ويحكي شين كوفي قصة طريفة حدثت معه عندما كان صغيرًا جعلته يركز أكثر على دائرة تأثيره، فيقول: (عندما كنت أقول إن مدرس علم الأحياء الجديد فاشل، إنني لن أتعلم منه أبدًا أي شيء، كان أبي يقول، لماذا لا تذهب إلى المدرس وتطرح عليه بعض الاقتراحات؟ أو غيِّر المدرس، أو أحضر مدرسًا خصوصيًا إذا استدعى الأمر، إذا لم تتعلم الأحياء يا شين فهذا خطؤك أنت، وليس خطأ مدرسك، لم يكن أبي يحررني من المشكلة كان دائمًا يواجهني، يحرص على أنني لا ألوم أي شخص آخر على الطريقة التي اتصرف بها.

كانت فكرة أبي بأني مسئول عن حياتي مسئولية تامة، دواء من الصعب عليَّ  ـ كمراهق ـ أن ابتلعه ولكن مع الإدراك مؤخرًا أرى الآن الحكمة وراء ما كان يفعله، لقد أرادني أن اتعلم أن هناك نمطين من الناس في هذا العالم "المبادر والمستجيب" هؤلاء الذين يتحملون مسئولية حياتهم، وهؤلاء الذين يوجهون اللوم للآخرين، هؤلاء الذين يصنعون الأحداث، وهؤلاء الذين تصنعهم الأحداث) [العادات السبع للمراهقين الأكثر فاعلية، شين كوفي، ص(54)].

والتركيز على دائرة التأثير هو ما طالبنا به الله ـ تبارك وتعالى ـ في هذه السنة الإلهية التي يحكم بها عز وجل صراعنا مع حزب الشيطان، حين قال تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد: ١١].

ولا يخفى  خبر أبي بصير رضي الله عنه ذلك الصحابي الجليل الذي أتى للنبي صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية فارًا بإسلامه من المشركين، وتأمل كيف تعامل مع مشكلة تقع في دائرة همومه: وهي رد النبي صلى الله عليه وسلم له وفاءً لعهده صلى الله عليه وسلم مع المشركين، فصرف ذلك الفذ جهده نحو دائرة تأثيره، بأن عسكر في سيف البحر وضم إليه المؤمنين الجدد في كتيبة مجاهدة ألحقت الضرر البالغ بقوافل الكافرين، حتى تحولت الظروف لصالحه، وأرسلت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجوه وتناشده الله والرحم أن يضم إليه هذه الكتيبة حتى تأمن قريش شرها.

الحياة مليئة بالتحديات:

ويمكننا التعبير أيضًا عن نفس المعنى (دوائر التأثير والهموم)، بتقسيم التحديات التي نتعرض لها في حياتنا إلى ثلاثة أنواع، وهي:
1.    تحديات تقع تحت السيطرة المباشرة.
2.    تحديات تقع تحت السيطرة غير المباشرة.
3.    تحديات ليس لنا عليها أي نوع من السيطرة.

(النوع الأول: تحديات تقع تحت سيطرتك المباشرة:
وهي الخاصة بتصرفاتك الشخصية، كعيب فيك تبغي إصلاحه مثلاً أو ردود أفعالك تجاه المواقف المختلفة أو طريقتك في الاستجابة للضغوط والتعامل معها.

النوع الثاني: تحديات تقع تحت السيطرة الغير مباشرة:
وهي التي تتعلق بتصرفات الآخرين كسلوك سيئ في أحد زملائك في العمل أو من أحد إخوانك تبغي تغييره بضده، أو عدم وجود تكاتف بينك وبين فريق عملك، أو سوء أخلاق أحد أبنائك.

النوع الثالث: تحديات ليس لنا عليها أي نوع من السيطرة:
سواء بطريق مباشر أو غير مباشر، مثل تلك المتعلقة بالماضي أو بحقائق الأمور خارجة عن نطاق إرادتك، كلون بشرتك أو المناهج الدراسية المفروضة عليك في المدرسة أو الجامعة، أو تلك المصائب والكوارث الطبيعية التي تحدث وليس لنا عليها أي سلطان كالزلازل والبراكين مثلًا) [قوة المبادرة، د. محمد العطار].

ولكي ترتقي ذروة سنام المبادرة فعليك أن تواجه مشاكل النوع الأول، وذلك بتغيير تصرفاتك إلى الأفضل قبل أن تطلب من غيرك أن يفعل ذلك.

ثم تواجه مشاكل النوع الثاني وذلك بتغيير طريقة تعاملك مع الآخرين ومحاولة اكتساب المهارات التي تؤهلك للتأثير فيهم وتغييرهم للأفضل.

وأما المشاكل التي من النوع الثالث فعليك أن تتقبلها كما هي وأن تتعلم كيف تتعايش معها بنفس راضية حتى لا تؤثر في معنوياتك أو قدرتك على مجابهة غيرها من المشكلات التي تستطيع أن تفعل بإزائها شيئًا، ولما كاد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهلك نفسه حزنًا على إعراض من تولى وكفر، نزل التوجيه الرباني: {فلعلك باخع نفسك على ءاثرهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفًا} [الكهف: ٦].

ولقد أوجز لك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدرس الإلهي بعد إذ وعاه جيدًا وزادك عليه بهذا النص النبوي الثمين: (استعن بالله ولا تعجز، ولا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا، وكذا فإن 'لو' تفتح عمل الشيطان) [رواه ابن ماجه، وصححه الألباني].

فتجابه مشاكل النوع الأول والثاني بأن تستعين بربك عليها ثم بما أتيح لك من أسباب عبر دائرة تأثيرك، وأما المشاكل التي خرجت عن سيطرتك،  فإن الحزن عليها من قبيل البكاء على اللبن المسكوب، فسلم فيها بقضاء ربك، وارض بها وتعايش معها كواقع، واحذر أن يحاصرك الشيطان فيها بسلاح "لو" فيصيبك بعجز أو إحباط.

وكما قالت هيلين كيلر: (لقد أعطاني الله الكثير جدًا من النعم، وليس لدي وقت للتفكير فيما حرمني منه) [العادات السبع للمراهقين الأكثر فاعلية، شين كوفي، ص(65)].

JoomShaper