مصطفى كريم
"إذا كان لإحدى قدراتنا الطبيعية أن توصف أنها أكثر روعة من القدرات الأخرى، فإنني أعتقد أن تلك القدرة هي الذاكرة"
جين أوستن
يشكو المرء ضعف ذاكرته حين يدور الحديث عن شئون العمل أو الدراسة، لكنه يتذكر هو نفسه اللاعبين الذين سجلوا أهداف مباريات كأس العالم قبل سنوات، ويستطيع أن يعيد سيناريو المبارات وكأنه قد شاهدها للتو واللحظة.
ويحفظ الطالب بجهد وعناء دروسه، بينما تدخل أحداث الرواية البوليسية التي قرأها إلى ذهنه ويحفظها عن ظهر قلب.
فمن أكثر الشكاوى التي تتردد بين الناس عادة الشكوى من ضعف الذاكرة وسرعة النسيان، ويرى البعض أن سبب ذلك كثرة المعلومات المفروض أن يستوعبها المرء في عصرنا بينما يدعي الآخرين أنهم لا يمتلكون ذاكرة قوية، فهل هذا صحيح؟!
قبل أن تجيب، هل تعلم أن ...؟
هل تعلم أن الله عز وجل أنعم علينا بقدرة هائلة للدماغ؛ فإن دماغ الإنسان العادي تتسع لما يعادل برامج علمية لثلاثة معاهد عليا (حوالي 150 مادة)؟!
هل تعلم أن الله عز وجل أعطى المخ القدرة على إضافة مرادفات ست لغات أجنبية بجانب اللغة الأم التي يتحدث بها الإنسان؟!
هل تعلم أن الله عز وجل قد حبى عقولنا بالقدرة على حفظ أكثر من 100000 بند من بنود أكبر الموسوعات العالمية؟!
هل تعلم أن خطباء أثينا في روما القديمة كانوا لا يخطبون من ورقة أمامهم أو شاشة عرض كمثل ما يفعل الكثير الآن خاصة مقدمو البرامج التلفزيونية؟!
هل تعلم أن الشافعي رحمه الله كان ينظر إلى الصفحة مرة واحدة فيحفظ ما فيها لا يحتاج إلى أن يراجعها مرة أخرى؟!
إذًا هي مقدرات فذة، فما هي قدرات الذاكرة؟! وما هي حدود هذه القدرات؟! ولماذا ننسى؟! وكيف يمكننا الاستفادة من هذه القدرة العظيمة؟! .... ألا وهي الذاكرة.

أين تقع الذاكرة؟

لا نستطيع في الوقت الحالي أن نحدد موضع الذاكرة في مكان واحد من الدماغ وإنما يعتقد العلماء أن الذاكرة تعمل على مستوى قاعدة كبيرة من البيانات، وعلى مستوى روابط عصبية منتشرة على شكل شبكة في الدماغ، ولا يجد العلماء في الحقيقة أي فرق بين طريقة التذكر وطريقة التفكير، وكذلك لا يوجد من يفهم هاتين العمليتين بشكل تام، وثميل السباق لكشف كيفية تنظيم الدماغ للمعلومات ومن أيت يتم اكتسابها وأين يتم تخزينها تحديًا مستمرًا للباحثين في مجال الدماغ.

كيف يبدأ تكوين الذكريات؟

تشير آخر الأبحاث إلى أن الذكريات تبدأ مع الإدراك الحسي، إذا كانت أول ذكرياتك الشعور بالدفء بين يدي والدتك؛ فإن نظامك البصري قد تعرف على مميزات الأشياء في هذا المكان، بمعنى أنه أدرك أن هذا الشكل هو وجه أمي وهذا الشيء هو ثوب أمي وهذا هو لونه وهذه هي رائحته وهذا هو ملمسه.

وتنتقل كل من هذه الأحاسيس المختلفة إلى جزء من الدماغ يقوم بدمج الإدراك الحسي وقت حدوثه في لحظة واحدة يمكن تذكرها ويربطها معًا في خبرة احتضان الأم، ومن ثم يقوم الدماغ بتعزيز المعلومات لتخزينها كذاكرة دائمة؛ وعليه فإن الإدارك والذاكرة مرتبطان برباط دقيق وغير قابل للفصل يوحد جميع خبراتنا.

كيف يتم تخزين الذاكرة؟
يوفر فهم العلاقة بين الذاكرة والإدراك مجرد جزء من الصورة في حين تبدأ الذاكرة بالفعل من الإدراك إلا أن العديد من الباحثين يعتقدون أن تسجيل الذاكرة يتم بواسطة الكهرباء، حيث ترتبط الخلايا العصبية مع الخلايا الأخرى في الدماغ عند وصلات تسمى نقاط التشابك العصبي وهي التي تقوم بإصدار إشارات كهربائية لكل منها عبر نقاط التشابك هذه والتي تحفز إصدار مواد كيميائية في الدماغ.

ويحتوي الدماغ البشري على مليون مليون خلية أي تريليون من هذه الخلايا العصبية وكل خلية بها أكثر من 20 ألف تشابك عصبي، ويدرك معظم العلماء أن الذاكرة تنشئ كنتيجة لتغيرات وظيفية في نقاط التشابك العصبي أو الزوائد العصبية تنشأ عن تأثير محفز خارجي يحدث بفعل التدريب أو التعليم، وفي حين يعتقد العلماء أن الذاكرة توجد في كل الدماغ، فإن هناك مراكز متخصصة أو أنواع متخصصة من المعلومات يتم تخزينها في أماكن مخصصة في الدماغ.

كيف يتم استرجاع الذاكرة؟
ليس صحيحًا أن أي شيء يؤثر على السلوك يترك أثرًا في مكان ما في الجهاز العصبي، فمن الناحية النظرية طالما بقيت هذه الآثار فمن الممكن أن يتم تنشيطها وتذكر الحادثة أو الخبرة التي أنشأتها، ويبدو أن الدماغ يسترجع الذكريات بواسطة لحظة أو إحساس واحد يحفز استدعاء اللحظات أو الأحاسيس الأخرى.

رائحة عطر والدك أو الشعور بملمس ثوبه يجلب معه ذكريات عن والدك، وفي كل مرة يتم استدعاء هذه الذكرى يقوم الدماغ بتقوية الروابط بين مختلف عناصر عملية الإدراك، ولا توضع هذه الذكرى جانبًا في المخزن بشكل دائم إلا بعد مرور سنوات على هذا الاسترجاع حيث يمكن استرجاعها دون مساعدة من جانب معين من الدماغ، ومن هنا فإن استرجاع الذكريات يعتمد على نوعين من الذاكرة وهما:

1.    الذاكرة الطوعية: حيث يمكن أن تظهر ذكرياتك عنها كذكرى طوعية إذا اخترت بإرادتك أن تبحث عن هذه الذكرى.
2.    الذاكرة غير الطوعية: حيث يمكن أن يثير رائحة عطر والدك ذكرى غير طوعية إذا جاء الإحساس بها فجأة.

وختامًا:
تبقى أسئلة أهم تطرح نفسها: ما هي مراحل تكوين الذاكرة؟! وما هي أسباب النسيان؟! ومن أين تأتي هفوات الذاكرة؟! وما هي فنون تحسين الذاكرة؟! وهذه الأسئلة وأكثر نتعرض لها إن شاء الله في قادم المقالات من سلسلة "أعظم قدراتنا البشرية".

أهم المراجع:
1.    الذاكرة ... 7 خطوات سهلة لتحسين ذاكرتك، جمال الملا.
2.    أنت عبقري ولكن كيف تنمي قدراتك؟ محمد فتحي.
3.    إدارة العقل، جيلان بتلر وتوني هوب.
4.    لكل عقل موهبته، مِل لفين.

JoomShaper