محمد السيد عبد الرازق
إن الحياة الحقيقية تبدأ عندما يجد الإنسان بصلته في هذه الحياة ويحدد رؤيته، وصياغة الرؤية للمستقبل ليست أمرًا هينًا يستغرق دقائق من أجل إنجازه، فإن بناء ناطحة سحاب عملاقة لا يتم بين عشية وضحاها، فكيف بحياة إنسان يتقلب بين النجاح والفشل وبين الحزن والفرح وبين الانتصار والهزيمة وبين الأمل واليأس في نفس اليوم؟!
ولكي تصنع رؤيتك لابد وأن تمر بمرحلتين، الأولى هي مرحلة الخلق الذهني (تصميم ناطحة السحاب)، والثانية الخلق المادي (بناؤها على أرض الواقع).
وهذا ما أكده ستيفين كوفي عندما يقول عن الرؤية أنها (عادة تعتمد على مبدأ أن كل الأشياء يجري صنعها مرتين، فهناك الخلق الذهني أو الشق الأول، وهناك الجانب المادي وهو الشق الثاني) [العادات السبع للناس الأكثر فاعلية، ستيفين كوفي، ص(138)].


حتى تقطع خشبك مرة واحدة:
ويضرب ستيفين كوفي مثالًا على صناعة الرؤية ومراحلها، فيقول: (فعلى سبيل المثال فأنت عندما تعتزم بناء منزل فإنك تقيمه في ذهنك بكل تفاصيله قبل أن تدق مسمارًا واحدًا في مكانه، كما أنك تحاول أن تصل إلى إحساس واضح بنوع المنزل الذي تريده.

فإذا ما كنت بحاجة إلى منزل للعائلة فإنك تخطط لوجود غرفة تصلح مكانًا طبيعيًا لجمع شمل الأسرة، كما أنك سوف تعمل على وجود أبواب متحركة وفناء خارجي للعب الأطفال، فأنت تعمل مع الأفكار، ويظل عقلك نشطًا حتى تصل إلى صورة واضحة لما تريد أن تقيمه.

وبعد ذلك تنتقل بالأمر إلى صورة التصميم المعماري وتطوير خطط للبناء، ويتم كل ذلك قبل أن تلمس سطح الأرض، ولو تجاوزت الشق الأول وتجاهلته وشرعت في العمل على الفور في الشق الثاني فإن هذا الجانب المادي سوف يكلفك تعديلات عالية التكلفة قد تصل إلى ضعف قيمة المنزل الحقيقية.

وقد تصدق هنا القاعدة التي يتبعها التجاوز وهي: قم بقياساتك مرتين لتقطع أخشابك مرة واحدة) [العادات السبع للناس الأكثر فاعلية، ستيفين كوفي، ص(138)].

فالاهتمام بتصميم الرؤية أولًا شيء ضروري قبل الدخول في معترك الحياة والانشغال بالجزئيات والإغراق فيها، ولا يكون ذلك إلا بوضع نموذج أو تصور  لما تريد أن تكون عليه حياتك.

قصة هيلتون:

(إذا أردت أن تسافر إلى أي بلد في العالم، فإنك بلا شك تكون قد رتبت تذاكر سفرك وإقامتك مع أحد مكاتب السفريات في بلدك، ولا شك أن هذا المكتب قد اقترح عليك عدة فنادق فخمة محلًا لإقامتك، لابد أن يكون قد اقترح عليك أن تسكن في أحد فنادق سلاسل هيلتون العالمية، صاحبة الاسم العريق والخدمات المتميزة، وصاحبة النجوم الخمسة التي تزين مداخلها.

لقد كان كونراد هيلتون مولع بامتلاك الفنادق، ولكن بعد الكساد الاقتصادي سنة 1929م لم يعد الناس يسافرون، وحتى وإن سافروا لم يكونوا ينزلون في فنادق هيلتون، وبحلول عام 1931م كان دائنوه يهددونه بتنفيذ الحجز، كانت مصبغته غارقة في الدين، وكان يقترض المال من حمال الأمتعة حتى يستطيع أن يأكل.

وفي تلك السنة العسيرة عثر كونراد هيلتون على صورة لفندق والدروف بأدوراه الاثنين والأربعين، وبمطابخه الستة، وطباخيه المائتين، وغرفه الألفين، ومشفاه الخاص، وقطاره الخاص الواقف في قبو الفندق ... والدروف الذي يمتد في سماء مدينة مانهاتن في نيويورك.

قص هيلتون تلك الصورة من المجلة وكتب عليها (أعظمهم على الإطلاق)، ووضع صورة والدروف في محفظته، وعندما أصبح له مكتب مرة ثانية، وضع صورة والدروف تحت زجاج مكتبه، بقيت الصورة أمامه حتى عاد يستعيد صعوده ويمتلك مكاتب أكبر، ولكنه لم ينس أن يضع تلك الصورة الغالية تحت زجاج المكاتب التي حل بها، وبعد 18 سنة من الرؤية الواضحة، وفي عام 1949م اشترى كونراد هيلتون فندق والدروف) [كيف أصبحوا عظماء، د.سعد سعود الكريباني، ص(151-152)].

18 عامًا وكونراد هيلتون يعمق من رؤيته، ويرسم لفندق أحلامه صورة في ذهنه، ويضع صورة ذلك الفندق في محفظته، ويجتهد في تحويل تلك الأحلام إلى حقيقة، فرؤية المرء في حياته ليست وليدة اليوم والليلة بل هي وليدة السنوات الطوال والعمل الدؤوب [الرؤية الملهمة، د.محمد العطار].

رؤيتك قبل أن تتحرك:

وربما يتعجب البعض بل ويستنكر أن ينفق الأوقات والمجهود الذهني، من أجل رسم رؤيته في الحياة، ويرى أن استثمار ذلك الوقت وإنفاق ذلك المجهود في العمل والإنتاج أهم بكثير، ولكن لابد لهؤلاء أن يدركوا أن (تقاعسنا عن تطوير وتنمية إدراكنا بمسؤوليتنا عن الشق الأول من صناعة الأشياء؛ سوف يؤدي إلى تمكن أناس آخرين وظروف خارج دائرة تأثيرنا من تشكيل معظم نواحي حياتنا بسبب هذا الإهمال) [العادات السبع للناس الأكثر فاعلية، ستيفين كوفي، ص(140)].

فليس أمامنا إلا خياران لا ثالث لهما، إما أن ينفق الأوقات في خلق ذهني وإعداد نفسي لتحقيق الرؤية، وإما أن يترك نفسه للظروف تجرفه كيف شاءت، وتحركه كما أرادت، فيصبح هو جزءًا من رؤية الآخرين وأحلامهم؛ وذلك لأن (الذين فقدوا الرؤية الواضحة لمستقبلهم كأنهم ألقوا أنفسهم في تيار نهر جارف، فهم مندفعون معه لا يعرفون وجهتهم.

لقد فقدوا دفة القيادة وسلموا أمرهم لهذا التيار المندفع يوجههم كيف شاء، حتى إذا ما سار التيار بهم بعيدًا بعيدًا، وأصبحوا على مفترق طرق كثيرة لهذا التيار، حاروا في أي مجرى يسبحون؟! ومع أي ماء يدفعون؟! أي مجاري الأنهار ستكون الآمنة؟! وأي منها يدفعهم إلى شلال الموت؟! لقد علموا الآن يقينًا أنهم فقدوا السيطرة) [كيف أصبحوا عظماء، د.سعد سعود الكريباني، ص(154)].

تستطيع أن تتغلب على هاورد هيل:

(نشأ هاورد هيل في ولاية ألاباما الأمريكية، وكان نبالًا بارعًا فاز بـ 286 دورة رماية متتالية ـ وفي الواقع هو لم ينهزم في مباراة قط ـ حتى أنه اضطر إلى التقاعد؛ لأن أفضل نبالي العالم رفضوا التنافس على المرتبة الثانية، قتل هاورد فيلًا بقوس وسهم، ونمرًا نبغاليًا بقوس وسهم، وجاموسًا أفريقيًا بقوس وسهم، قتل قرشًا طوله 6 أمتار على عمق خمسة أمتار تحت الماء.

ومن براعته في الرماية أنه يقف على مسافة 15 مترًا ويصيب وسط الهدف، ثم يأخذ السهم التالي فيفلق به السهم الأول، لكن هل تصدق أني قادر في ظرف ثلاث دقائق أن أجعلك أيها القارئ تفوز على هذا البطل؟! فكر كيف؟!

سنأتي ونعصب عينيه، ثم نجعله يدور حول نفسه أربعين مرة، وبعدها نأمر هاورد هيل أن يطلق سهمه، ثم نأمرك أن أيها المتحدى أن تطلق سهمك أيضًا، فأي السهمين سيكون أقرب إلى الهدف؟ بلا شك سينهزم هاورد برغم المهارات العالية التي يملكها؛ لأن الهدف قد حُجب عنه، وسهمك أيها المتحدي سيكون الأقرب برغم مهاراتك المتواضعة في الرمي) [كيف أصبحوا عظماء، د. سعد سعود الكريباني، ص154-155].

إن قصة هاورد موجهة إلى كل من يظن أن الإمكانيات البشرية وحدها تكفي للنجاح، أو أن سجل الإنجازات السابقة يشفع لصاحبه وهو يسير نحو الفاعلية، بل إن الرؤية الواضحة ستضيق الفجوة بين صاحب الإمكانيات الذي يفتقد الرؤية، وصاحب الرؤية الذي يسعى في اكتساب الإمكانيات التي تحقق رؤيته [الرؤية الملهمة، د.محمد العطار].

كانت هذه مجموعة من المقولات والتعليقات والقصص تمثل انفراجة للرؤية وإطلالة على جوانبها، لنبدأ من المقالات القادمة بإذن الله مسيرتنا نحو استكمال رؤيتنا الملهمة.

المصادر:
الرؤية الملهمة د. محمد العطار.
العادات السبع للناس الأكثر فاعلية ستيفن كوفي.
كيف أصبحوا عظماء د.سعد سعود الكريباني.


 

JoomShaper