ما يميز العرب عن غيرهم هو دفء العلاقات الانسانية والنخوة والكرم منذ الأزل حتى عُرِِْفنا بشمسنا المضيئة وطباعنا الحميدة.. إلا ان تقلّب النفوس ووقوعها بفخ السلبية ، فتح المجال واسعا أمام غيوم النذير المتداعية لتخفي سماء وتهمي دمارا ، مغرقة مساحات من عالمنا العربي بسيل غاضب يمحق المكان والإنسان.......... وهيهات لملمته..

فكم نبه حكماؤنا مرارا منذ «عقدين « من الزمن عبر نظرتهم الاستشرافية محذرين من مؤشرات لغضب مختزَن يلقي بشذراته الظاهرة والمستترة ،في الأسرة الواحدة والمجتمع الواحد والوطن الواحد.. نتيجة فتح المجال والأبواب للذات السلبية الموجودة بالانسان على حساب الذات الايجابية ، فابدعت السلبية بغضبها وأخذها بالثار ومعاقبة من حولها ، خلافا للطبيعة الحقيقية للإنسان والمتمثلة في الصفاء والنقاء والتسامح مع الآخرين..

و هكذا تفاقمت سلبيات العنف وبخاصة مع التستر على أسماء مرتكبيها.. حتى الحوادث المرورية منها كان يشار إليها ب «برموز أبجدية».. مثل (س.ص.ع ).. متقنين علْم « الجَبْر « في توصيفها و ليس في حلِّها ! نابذين بذلك تجيير المنطق لحل المشاكل ، ولم تأخذ من علم الجبر بالرياضيات سوى «جَبْر الخواطر».. وتجبير المكسور..والإبقاء على المستور !

فكشْف المستور- وفقا لاجتهادات البعض – سيخلق حالة من الهلع ، وهذا يعني عدم الاعتراف بوجود مشكلة مما يعطّل حلها قبل استفحالها.. علما بأن معالجتها حينذاك كان مقدورا عليها ، عبر اصلاحات علمية وتعليمية وثقافية ونفسية وتربوية إضافة إلى معالجة الأسباب الأخرى من اقتصادية وقانونية وغيرها..

صحيج اننا كعرب نتميز بالصخب الجميل وارتفاع نبرة الصوت ، وهذه الصفات نفسها موجودة عند الأوروبيين القاطنين في جنوب اوروبا بسواحلها المطلة على البحر الأبيض المتوسط.. حيث تتشابه الطباع بحكم الجيرة والتداخل الجيني والبيئي ، فنلمح نوعا من الصخب الطريف تتخلله حدّية بين الحين والآخر في سلوكياتهم واقوالهم ، إلا انهم يمتازون عنا باعترافهم بوجود المشاكل عندهم في حين اننا نغمض أعيننا عنها..

فمثلا هنالك ظاهرة ملحوظة عند البعض لتفريغ شحنات غضبهم « لفظيا» على رؤوس غيرهم وعلى رؤوس الأشهاد.. بمناسبة وبدون مناسبة... معتبرين الآخرين بمثابة صمام أمان لهم.. متناولين عادة الفئة الكاظمة لغيظها.. الرافضة لمقابلة الإساءة بالمثل....لترفّعها عن الوقوع في سجال سخيف ناجم عن إدمان البعض على هواية «قهر» الآخرين لتحقيق انتصارات هزيلة تمدهم بشحنات من نصر هزيل وسعادة آنية ، فلعل وعسى تعوضهم عن النقص الكبير بدواخلهم..دون ان يدروا بأنهم بتجاوزاتهم تلك.. إنما فعلا يقهرون أنفسهم.. ويكشفون هشاشتهم !

وهكذا بين غضب جمْعي وفردي.. لفظي وجسدي.. تبرز الحاجة الى إعادة تأهيل النفوس المتأججه غضبا عبر إشراكها في دورات «إدارة الغضب « والمنتشرة تقنياتها عند الشعوب المتقدمة الشرقية والغربية لتعيد تأهيل « الغاضبين «.. مركزة على مهارات « كظم الغيث» كحجر الأساس ، ناهيك عن تعلم مهارة «العفو «.. إضافة للنصائح الأخرى من التدرّب على الصبر والتماس الأعذار للغير وتمارين التنفّس وتغيير البيئة وغيرها..

ولا عجب في ذلك فكظم الغيظ والعفو هما من تعاليم ديننا الحنيف.. وما ينقص البعض هو التجسير بين العبادات والسلوكيات.. فقد قال الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} -آل عمران (134)-

ناهيك عن أهمية الحلم وسعة الصدر والصبر ودورها في «كظم الغيظ «..

علاوة على أنّ رسولَ الله–صلى الله عليه وسلم–قَالَ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشديد من يملك نفسه عند الغضب «..

ويكفي أن صفة «العفو» هي من أسماء الله الحسنى ، وبالرغم من هذا كله فهنالك من يتسرّع ويغضب حتى غدا الغضب ملازما لطباعنا ، والخلاص منه لن يتم الا بالاعتصام بحبل الانضباط والالتزام اثناء تطبيق العبادات على السلوكيات.. وإلا ستكون عباداتنا بواد وممارساتنا بواد اخر..

صحيح أن العبادات وبخاصة كثرة « التسبيح «والاستغفار» تقلّص الذنوب.. فيتخذها البعض ذريعة لتكرار الخطأ ثم الرجوع عنه بنوبات تسبيح واستغفار مكوكية هادفين لبلوغ التوبة.. وهكذا.. دون أن يدركوا بأن التوبة المقبولة مشروطة ب «الانضباط « من جهة..و «الالتزام» من جهة أخرى.. وذلك من خلال استمرارية تكرار العادات الحسنة لتوصلنا للسلوك السليم والطريق المستقيم !

آخذين بعين الاعتبار ايضا أن «كظم الغيظ « هو بمثابة المحصلة النهائية لعملية تنمية معايير الحلم وسعة الصدر والانضباط والالتزام في نفوسنا وسلوكياتنا، والتي طالما حثّ عليها ديننا الحنيف ، ثم التقطها علماء النفس بالغرب أخيرا ، وجيّروها لحساباتهم البحثية كسبق علمي في ما يُطلق عليه ب «إدارة الغضب « والتي تم تداولها فقط بالعشرين عاما الماضية..في حين أن الإسلام كشف عنها النقاب قبل قرون طويلة..

فيا حبذا تعميم دورات تدريبية في «إدارة الغضب « على مدارسنا وجامعاتنا ومعسكراتنا الصيفية للطلاب وذويهم على حد سواء كي تكسبهم مهارات «كظم الغيظ «للسيطرة على غضبهم.. رابطين العبادات بالطاعات بالسلوكيات.. مستذكرين بهذه المناسبة شعرالإمام الشافعي حينما قال بالغضب :

( لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أحْقِدْ عَلَى أحَدٍ أرحتُ نفسي من همَّ العداواتِ

إنِّي أُحَيي عَدُوِّي عنْدَ رُؤْيَتِهِ لأدفعَ الشَّرَّ عني بالتحيات)

فعلا..فما أحوجنا كأفراد وجماعات وشعوب لكظْم الغيظ..والعفْو عند المقدرة ّ..

فهي أساس النجاح والتقدم والرخاء !

JoomShaper