عبير النحاس
انتسب شاب من أقربائي و هو في المرحلة الثانوية إلى ناد من نوادي الرياضة؛ ليتدرب على لعبة كرة السلة، و كانت فكرة انتسابه هي نصيحة من نصائح والدته التي أرادت له هذا التدريب؛ ليزداد طولا، و ليزداد جسده قوة و متانة، و يفقد بعض الكيلو غرامات الزائدة من وزنه، ولينشغل بما ينفعه بدلا من اشتغاله بالتلفاز و الشبكة العنكبوتية.
امتثل الشاب للأمر، و بدلا من تحقيق ما أرادته والدته قام باتباع حمية قاسية و انشغل بالتدريب طويلا جدا. بل و زاد على هذا بإعلان رغبته في احتراف لعبة كرة السلة بدلا من حلمه الأول في دراسة الهندسة المدَنية.
و أهمل بالطبع دروسه، و كانت النتيجة رسوبه المخزي في الشهادة الثانوية، و تعرضه لصدمة شديدة جعلته يشعر بالحرج بين زملائه في الملعب و المدرسة و بين معارفه جميعا، فكان أن انعزل و ابتعد عن الجميع و من ثم كره الرياضة و تركها و بالكاد نجح في السنة التالية و لم يكن مؤهله يسمح له حتى بالدراسة في معاهد الرياضة فضلا عن جامعاتها، فدرس ما لم يكن يفكر فيه أو يحبه و نسي أحلامه الأولى أو تناساها.
زميلتي في المدرسة كانت من المتفوقات بيننا، فوجئنا بها ذات يوم و هي تودِّعنا نحو منزل الزوجية، ثم غابت و انقطعت أخبارها و كدنا ننسى أمرها، التقيت بها بعد سنوات في صالون تجميل، كنت وقتها زبونة جديدة و كانت تعمل هناك، و بدت ذابلة شاحبة، لم أتمالك نفسي عند رؤيتها فابتسمت وسلمت عليها تسليما حارا، ثم سألتها عن زوجها و عائلتها و قد أسلمتها رأسي، فقالت:"إنه توفي رحمه الله بعد أن أنجبت طفلين و قد ترك شقة جميلة. و شابَّة اضطرت للعمل في صالون التجميل.. و طفلين ما زال أحدهما يحبو.
في الحقيقة تتفتق الكثير من الأفكار الغريبة لدى الطلبة و هم في هذه السن الحرجة؛ و تكون الدراسة هي الضحية الأولى فإما أن يهملها و يتراجع مستواه الدراسي، أو أن يتركها نهائيا بحجة الدخول إلى سوق العمل و ممارسة الحياة العملية أو الزواج أو بادعاء الملل و مواجهة الصعوبات فيها.
يمكنني أن أكون ناجحا دون مدرسة
هم يقولون هذا وربما يكون القول صحيحاً، و قد نجح بعض البشر في الحياة دون دراسة، و قد سمعنا عن عظماء رفضتهم مدارسهم و صاروا بعدها عظماء، و لكنها عيوب المدارس و طرق التدريس و ليست عيوب الدرس أو التعلم، و هؤلاء لم يتوقفوا عند ترك الدراسة، بل تابعوا الطريق الصعب وحدهم، و لم يهبط عليهم هذا النجاح و هم يتناولون المكسرات أمام التلفاز أو يشربون فنجان الشاي أمام الحاسوب؛ بل علَّموا أنفسهم بأنفسهم و دفعوا ثمن هذا النجاح تعبا و سهرا و صبرا طويلا.
لقد كان أديسون قارئا نهما، و كانت أمه مؤمنة بموهبته و كانت ترى من شدة فضوله ما ألهمها الصبر و المثابرة على تعليمه و تثقيفه، و من ثم بذل هو و تعلم و درس و تعب و فشل مرارا حتى نال النجاحات الباهرة و قام باختراعاته التي تجاوزت الألف و كان لها أكبر الفضل على البشرية.
و يعرف العَالم تلك النصيحة التي قدمها أستاذ لتلميذه الألماني (ألبرت أينشتاين) تقول بوجوب تركه للمدرسة لأنه فاشل، و يعرف أيضا أنه لم يكن ليفلح في دراسته و في الحصول على وظيفة بعدها، و لكنه كان وقتها يدرس في اتجاه أخر و لم يكن جالسا في شرفته يضع رجلا على رجل. لقد كان يصوغ نظريته في النسبية.
و الحديث يطول عن هؤلاء و أمثلتهم كثير، و لكننا بتنا نعرف مقدار ما دفعوه و ما تم بذله من جهد ووقت، و لكن الزمان اختلف و باتت الدراسة الأكاديمية هي المفتاح و الطريق نحو العلم والمخترعات و المكتشفات إذ يجب عليك أن تنهل مما وصل إليه هؤلاء العلماء لتقدر على أن تضع بصمتك في أي مجال من المجالات.
كان طفلي و الذي يبلغ الثانية عشر من عمره مهووسا بالسيارات، و كان كل أمله أن يصنع له واحدة و كنت أرى على مكتبه رسومات و كتابات و حسابات يحدد فيها قدرته على صنع سيارة، و كنت أبتسم لفكرته بصمت فقد كان يريد صنع سيارة خشبية بعد أن يقوم بتركيب محرك دراجة كهربائية فيها، و قد بدأ بالفعل بشراء ما ظن أنه يلزمه، وراح يبحث عن بقية ما كتبه على القائمة، و لم يكن هناك بد من وضعه أمام الأمر الواقع فهذه الأفكار حلوة و عذبة و لكنها لن تصبح حقيقة بالحلم فقط و لا بد من دراسة الهندسة الميكانيكية، و من ثم عليه أن يقوم بتعليم نفسه أكثر فأكثر حتى يفهم كل دقائق هذا العلم ليخترع جديدا، اقتنع صغيري و تنازل عن حلمه الجميل، و راح يجدُّ في درسه و يسلِّي نفسه بالقراءة في علوم الميكانيكا على الشبكة العنكبوتية.
لماذا الدراسة؟
تركت صديقتي الدراسة بعد أن نالت الشهادة الإعدادية، و كان الزواج هو السبب في ذلك الوقت، و لم تكمل دراستها بعد الزواج يومها و لكنها عادت بعد الأربعين إلى مقاعد الدراسة و جلست بجانب من هم في عمر أولادها بعد أن نال منها الندم ما نال بسبب مضي الوقت و فوات الزمان! و هي اليوم تدرس بشغف عجيب و تقول لي : "أريد أن أجد مكانا لنفسي في هذا العالم".
و كان أحد رجال متعة.ل قد درس علوم النفط في أحد المعاهد المتوسطة و تخلى طواعية عن دراسته الجامعية ليضمن التخرج السريع و الوصول إلى الوظيفة المضمونة بجانب عمله في التجارة، و بعد سنوات طويلة من ممارسة التجارة أعلن عن رغبته في الحصول على شهادة جامعية، و أخبرني أن السبب هو التسهيلات التي يحظى بها أصحاب المؤهلات العالية و اشتراط الشهادة العالية في الحصول على الكثير من التراخيص اللازمة لكل الأعمال حتى التجارية منها، و هذا سبب آخر يدفعنا لمتابعة الدرس بجد و اجتهاد.
لقد باتت الشهادة الجامعية هي أبسط متطلبات البداية، فالوظيفة الجيدة و متابعة البحوث و الدراسات و الاختراعات و كل ما يمكننا إضافته لا بد و أن يأتي بعد أن نهضم ما سبق من علوم و اختراعات تخص ما نتعلمه، و بعد أن نحصل على تأهيل جيد و شهادة توثق علومنا و تمنحنا فرصة الولوج إلى العوالم الأخرى التي نريد.
أما من تتزوج و تنعم بالأمان في بيت الزوجية و لا تحتاج للوظيفة، و لا تداعب خيالها أمال عريضة و أحلام جميلة بالدرس و البحث و التأليف و الاكتشاف و الاختراع، فهي ما تزال بحاجة للعلم و التعلم و الشهادات العليا أيضا، لأنها بكل بساطة أمان من تقلبات الزمان، و تكاد تكون الطريق الوحيد لمتابعتها لدروس أولادها بنفسها، ومن ثم الحصول على احترامهم لها و ثقتهم بها عندما يكبرون، وستحتاجها لمسايرة علوم العصر و تكنولوجياته المتقدمة؛ و لتواكب التطورات و لا تعيش بمعزل عن العالم.
الدراسة صعبة و مملة.
أشعر بالملل و عدم الرغبة في الدراسة! .. هناك أمور أكثر متعة .. ما زال هناك وقت طويل.. سأبدأ الدراسة غدا.. سيكون تركيزي مضاعفا في الثالث الثانوي.. يمكن لوالدي أن يضمن لي الدراسة في المجال الذي أحب و في الجامعة التي أريد..
هذه العبارات كثيرا ما نسمعها من مراهقين حولنا و لهم أقول:
نعم قد لا تكون الدراسة ممتعة بقدر ما تمتعنا السباحة في بحور الشبكة العنكبوتية أو الـ ( بلاي ستيشن ) أو حديث طويل مع الصديقات، أو رحلة تسوق، و لكننا نعلم جميعا أن الدراسة الجادة هي ما ينفعنا و تسعدنا نتائجه في النهاية، و نعلم أن اللهو و المتعة طوال الوقت ستفضي بنا في النهاية إلى طريق مؤلم حزين و أبواب مغلقة، فلا بد إذن من:
التغلب على رغباتنا الشريرة في الكسل، و التحرر من قيود شهواتنا، و الانصياع لما يمليه علينا ضميرنا وواجبنا نحو أنفسنا و عائلاتنا و أمتنا.
فما العمل إذن؟
قرأت الكثير من الكتب و المقالات التي تساعد الطالب على التخلص من عاداته السيئة في الدراسة و رأيت أن:
الحماس و الرغبة هو أهم ما نملكه، و يأتي بعده التصميم و التصبر، ثم المتابعة المستمرة للواجبات، و تقليل الملهيات هو أهم ما تقوله الكتب.
و أخيرا
لست أتحدث هنا بالطبع عمن تمنعه ظروفه من متابعة الدرس، فهذه أمور لا حيلة للإنسان فيها، و لكنَّ حديثي موجَّه لمن قد يفكر في ترك الدراسة أو يهملها، أو لا يقدِّم لها ما يلزم من وقت و جهد و اهتمام.
فالأمة ما تزال تحتاج علماءها و مخترعيها و مؤلفيها و كل الطاقات، و لا أمل لنا في الركون للكسل و استعذاب الفراغ، بل ينحصر الطريق في الجد و التشمير عن ساعد العمل و المثابرة.
لها أون لاين