إن الشباب المسلم اليوم في حاجة ماسة إلى قدوة حقيقية وإلى مثل علي، يترسم خطاه، ويسرع السير أملًا في اللحوق بركابه، ولئن أتعب الشباب أنفسهم بحثًا عن قدوات، لمَا وجدوا مثل خير الرجال بعد الأنبياء، إنهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، واستمع إلى كلمات عبد الله بن مسعود يوضح لك منهج التأسي فيقول: (من كان منكم متأسيًا فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديًا وأحسنها حالًا، اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم؛ فإنهم كانوا على الهدي المستقيم).
إنهم عظماء التاريخ حقًا وصدقًا، تمثلوا هذا الدين نعم التمثل فكانوا إسلامًا يمشي على الأرضي، فهم أعمق الأمة إيمانًا، وأحسنها أخلاقًا، وأكثرها إيجابية وفاعلية، وإن من فضل الله تبارك وتعالى على هذه الأمة أنها ولادة معطاءة، ومعين الرجال فيها لا ينضب ففي كل جيل من الأجيال، نرى طائفة على الحق قائمة بمنهج الله تبارك وتعالى مستمسكة، وخلف صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم سائرة، الإيمان معراجهم وأخلاق المصطفى سمتهم وهديهم والفاعلية تجري في عروقهم، يتمثلون المنظومات الثلاثة التي تعد معول البناء الأكبر في بناء حضارة أمة الإسلام:
منظومة الإيمان.
منظومة الأخلاق.
منظومة الإيجابية والفاعلية.
ولذا فنحن اليوم نتناول سيرة رجل من عظماء التاريخ، كشفت وقائع السيرة عن نفيس معدنه، وبريق صدقه.
ولم لا يكون كذلك وهو خريج المدرسة النبوية مدرسة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله ومن والاه، كان هذا الصحابي مع عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت من شعراء النبي العدنان عليه الصلاة والسلام، فهو الصادق الثابت كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه.
على أهبة الاستعداد:
كان كعب بن مالك رضي الله عنه، حريص كل الحرص على أن يشهد الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد شارك في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم عدا غزوة بدر وغزوة تبوك، فالصحابة الذين تخلفوا عن غزوة بدر لم يُعاتبوا على ذلك فقد كان خروج المسلمين في الأصل من أجل الهجوم على قافلة من قوافل قريش، وعندما جاءت غزوة تبوك آخر غزوات المصطفى كان كعب رضي الله عنه على أهبة الاستعداد لهذه المعركة، فقد أعد راحلتين لها، ولكنه تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في هذا اليوم ذي الحر الشديد، ومن هنا بدأت قصة الكشف عن معدن ذلك الصحابي النفيس.
النبي يفتقده:
تخلف كعب عن الجيش، لكن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عنه ما يدل على محبة النبي له: (فقال وهو جالسٌ في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالكٍ؟ فقال رجلٌ من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه، والنظر في عطفيه، فقال له معاذ بن جبل رضي الله عنه: بئس ما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا) [رياض الصالحين، النووي، (1/6)].
اللحظة الحاسمة:
ولما عاد الرسول من تلك الغزوة، أتى إليه المعذرون المتخلفون عن الجهاد، يذكرون له مبررات تخلفهم، ولكن كعب بن مالك رضي الله عنه؛ لأنه كان واضحًا مع نفسه وصادقًا مع ربه أبى وأبت نفسه إلا أن ينطق بالحق الصراح، يقول كعب: (فلما رآني صلى الله عليه وسلم، تبسم تبسم المغضب، وقال: "ألم تكن ابتعت ظهرك"؟ قلت: بلى.
قال: "فما خلفك"؟ قلت: والله لو بين يدي أحد غيرك جلست، لخرجت من سخطه علي بعذر، لقد أوتيت جدلًا; ولكن قد علمت يا نبي الله أني أخبرك اليوم بقول تجد علي فيه، وهو حق; فإني أرجو فيه عقبى الله.
إلى أن قال: والله ما كنت قط أيسر ولا أخف حاذًا ـ أي حالًا ـ مني حين تخلفت عنك ؟ فقال: "أما هذا فقد صدقكم، قم حتى يقضي الله فيك" فقمت) [سير أعلام النبلاء، الذهبي، (2/528)].
الاختبار الثقيل:
وبعد ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بعدم التكلم أوالتحدث مع كعب بن مالك ومعه مرارة بن الربيع وهلال بن أمية رضي الله عن الجميع وذلك لمدة خمسين ليلة، وكان من بين الفتن التي تعرض لها أثناء هذا الاختبار الرباني أن بعث إليه ملك غسان يواسيه، يقول كعب: (وكنت أطوف، وآتي المسجد، فأدخل، وآتي النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلم عليه، فأقول: هل حرك شفتيه بالسلام! ... فبينا أنا أطوف في السوق إذا بنصراني جاء بطعام، يقول: من يدل على كعب؟ فدلوه علي! فأتاني بصحيفة من ملك غسان.
فإذا فيها: أما بعد: فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك; ولست بدار مضيعة ولا هوان، فالحق بنا نواسك، فسجرت لها التنور، وأحرقتها) [سير أعلام النبلاء، الذهبي، (2/529)].
بشرى التوبة:
فلما كانت الليلة الخمسين، وبعد أن أدى كعب الصادق صلاة الفجر يرقب رضا الله ورسوله عنه، أتته البشرى التي طال انتظارها، يقول: (ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلةٍ على ظهر بيتٍ من بيوتنا، فبينا أنا جالسٌ على الحال التي ذكر الله تعالى منا، قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخٍ أوفى على سلعٍ يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالكٍ أبشر، فخررت ساجداً، وعرفت أنه قد جاء فرجٌ، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله عز وجل علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا ... حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ حوله الناس ... فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر بخير يومٍ مر عليك مذ ولدتك أمك، فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال: لا بل من عند الله عز وجل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمرٍ.... وقلت: يا رسول الله إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقًا ما بقيت) [سير أعلام النبلاء، الذهبي، (2/529)، باختصار].
ثم أنزل الله تعالى قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 117-119].
على خطى كعب بن مالك:
والله إن في هذه الأحداث لآيات وعبر لا يعقلها إلا أولو الألباب ممن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فلقد ضرب كعب أروع الأمثلة لشباب الأمة، وها نحن نذكر بعضًا من الفوائد التربوية على ضوء هذه القصة:
1. إنما نجاني الصدق:
ربما كثير من الشباب حينما يوضع في موقف صعب يخير فيه بين الكذب الذي يظن فيه النجاة، وبين الصدق الذي يظن أنه ستتبعه عواقب وخيمة، يميل إلى الكذب، ثم ما يلبس إلا أن يأتيه العقاب من ربه سبحانه وتعالى، جزاء وفاقًا ولا يظلم ربك أحدًا، أم كعب فقد كان واضحًا مع نفسه، لم يختلق الأعذار للنبي صلى الله عليه وسلم، لقد كان يريد التوبة حقًا، حتى إنه لم يستخدم ما آتاه الله من جدل في أن دفاع يحفه بكذب أو تبرير لعدم خروجه للغزوة.
فمن يظن أيها الشباب أن الكذب يأتي بخير فهو واهم، ومن يظن أن الصدق يأتي بشر فهو أشد وهمًا، لأنه يخالف سنن الله تبارك وتعالى، فسل نفسك ماذا حدث لكعب لما صدق؟ الجواب: لقد تعب قليلًا، نعم، ولكنه ارتاح كثيرًا ارتاح أولًا لأنه أرضى الله ورسوله، ارتاح ثانيًا لأنه يشعر أنه بوجه واحد، ما يبطنه مطابق تمامًا لما يظهره، وارتاح لأن الله أعلن توبته من فوق سبع سماوات، ثم تأتي الراحة الكبرى، مع أول قدم يضعها في جنة الرحمن.
والعكس والعكس فإن الذي يكذب ويستمرئ الكذب ويلجأ إلى الحيل الدفاعية والتبرير وهو يعلم أنه كاذب، فربما يشعر براحة مؤقتة ظنًا منه أن نجا من موقف ما، لكن ذلك يعقبه ضيق شديد خوف، لأنه يعلم علم اليقين أنه يبطن خلاف ما يظهر فيخاف من افتضاح أمره، ولأنه قبل ذلك أغضب ربه بكذبه، وعاقبة المعصية ضيق في الدنيا والآخرة، ويوم القيامة الأمر أدهى وأمر.
فبالله عليك، أيهما يختار العاقل؟ الصدق أم الكذب؟
يقول ابن القيم ناقلًا عن بعض السلف: (من لم يؤد الفرض الدائم لم يقبل منه الفرض المؤقت قيل: وما الفرض الدائم قال: الصدق وقيل: من طلب الله بالصدق أعطاه مرآة يبصر فيها الحق والباطل، وقيل: عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك فإنه ينفعك ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك) [مدارج السالكين، ابن القيم، (2/279].
2. {وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}:
ثاني الدروس التي نريد تعلمها هو أن كعب لم يخف من أقوايل الناس وسخريتهم وهمزهم ولمزهم حينما صرح بالصدق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتجد بعضًا من الشباب إذا أراد أن يأخذ قرار الابتعاد عن رفقة سوء، أو المحافظة على الطاعات والإقبال على مجالس العلم وحفظ القرآن تراه يحسب ألف حساب للقيل والقال، فتجد هذه الخواطر: "ماذا سيقول عني أصحابي؟ لا أستطيع تحمل سخريتهم مني، فأنا لي مكانتي"، فتجد الخير يضيع عليه لأنه أرضى الناس في سخط الله، ولو أنه كان ككعب وأرضى الله في سخط الناس، لرضي الله عنه وأرضى عنه الناس.
ومن ثم فهو لا يخاف في الله لومة لائم، ويعلم أن الحر هو من يسير في طاعة الله لا يشغله الناس عنها، والأسير من أسره رفقاؤه وكلام الناس عن السير في طاعة الله، فكن ككعب ولن يكون الشاب مثله حتى (يعلم قيمة ما معه من الحق المبين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ذلك أن الذي يعيش حياة النور إنما يعيش في الدنيا وهو يعمل بطاعة الله، على نور من الله يرجو ثواب الله، ويترك ما يسخط الله على نور من الله، يخشى عقاب الله ومن ثم فإن حياته تلك لا تقارن بحياة من عاش في الدنيا على مراد نفسه أسيرًا لشهواته ومكبلًا بهواه.
ولئن افتخر الغافلون بأموالهم وشهواتهم، ووظائفهم وأوضاعهم الاجتماعية، فإن المؤمن لا يعرف غير دينه مصدرًا لفخره وعزته، وهو يردد مع سلمان الفارسي رضي الله عنه، عندما افتخروا عليه بأنسابهم وأحسابهم، فقال يعلمنا درس الاستعلاء:
أبى الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم) [حياة النور، فريد مناع، ص(44)].
3. كن مسئولًا عن قراراتك:
آخر الدروس هو تحمل المسئولية، فكعب ابن مالك كان متحملًا لمسئولية قراره الصائب، وكان مستعدًا لجميع العواقب التي ستنتج عنه، ورأينا كيف صبر على هذا الاختبار ثم كانت النهاية بأن أنزل الله آيات يقرأها الناس إلى قيام الساعة يبشره الله فيها بالتوبة، ومن ثم على الشاب أن يدرك تمامًا أنه المسئول الأول والأخير عن قراراته، إما قرارات تأخذ بناصيته إلى الجنة، أو إلى الأخرى عياذًا بالله، فالله عز وجل (لم يخلق الإنسان عبثًا ولم يتركه هملًا، فبعد أن سواه ونفخ فيه من روحه أسجد له ملائكته المقربين، ثم أهبطه إلى الأرض مع الجان ليكون الابتلاء والامتحان، واستخلف في الأرض ليعمرها بطاعته، يقول الدوسري رحمه الله: والخليفة لله في أرضه هو المكلف بأحكام يطبقها على نفسه وينفذها على غيره) [صفوة الآثار والمفاهيم من تفسير القرآن العظيم، عبد الرحمن بن محمد الدوسري، (2/72)].
قبل الوداع:
هذا بعضًا مما أحببنا أن نهديه إليك، فتزود به واعلم أن الأمة في حاجة إلى شباب من أمثال كعب بن مالك رضي الله عنه، وإلى لقاء ليس بالبعيد مع نجم آخر من نجوم المجموعة النبوية.
المصادر:
· سير أعلام النبلاء، الذهبي.
· مدارج السالكين، ابن القيم.
· رياض الصالحين، النووي.
· حياة النور، فريد مناع.
· صفوة الآثار والمفاهيم من تفسير القرآن العظيم، عبد الرحمن بن محمد الدوسري.
مفكرة الإسلام