ربى الرياحي – في مرحلة ما، وبعد أن يمر المرء بالكثير من التجارب والخبرات والمواقف، يصل إلى منطقة يراها الأكثر أمانا في نظره، هذه حالة من الوعي والإدراك هي “النضج” كما نسميها.
في هذه المرحلة، تحديدا، يقل الأصدقاء ويكثر المعارف ويصبح العابرون هم الأغلبية. النضج يعلم الكثيرين كيف ينظرون إلى الأشياء بعمق، وكيف يهتمون بالقيمة لا بالكم، وهنا تبدأ الحيرة والاستغراب وربما الإدانة أحيانا عندما يشعر بعض المقربين بالتغير الحاصل، فمنهم من يتقبل تلك المرحلة، ويتفهم أنه لا يوجد شيء ثابت وأن الجميع لا بد لهم من الوصول لنقطة يكونون فيها أكثر هدوءا واتزانا، أما البعض الآخر فيرفضون تلك الحقيقة بل وقد يتهمون الشخص بالتغير عليهم وحدهم وبأنه بات غريبا عنهم لا يعرفونه فقط لأنه لم يعد يجادلهم أو يحتج على أمور معينة كانت تضايقه في الماضي.
سارة (38 عاما) تجد أن كل موقف اختبرته في الحياة كان بمثابة الدرس بالنسبة لها، غيرها وجعلها أقرب لنفسها قادرة على تحديد ما يسعدها، تقول: “عندما ننضج نترك الجدال جانبا ونميل للصمت ربما لأننا لم نعد بحاجة لأن نثبت رأينا لمن حولنا رغم أننا متأكدون منه”.
هي وبعد تجارب عديدة صعبة مرت بها، باتت تدرك أن العناد ليس دائما هو السلاح المناسب في معركتها مع الحياة وأنها شيئا فشيئا بدأت تفقد يقينها في الكثير من المسلمات.
سارة فهمت وبمرور الوقت ونتيجة مواقف قاسية عاشتها أنه لا شيء في هذه الحياة مضمون وأنها مهما فعلت لن ترضي جميع الناس. لذلك هي تحاول أن ترضي نفسها أولا، وهذا ما جعلها تتعرض للانتقاد من قبل صديقاتها المقربات اللواتي شعرن بتغيرها وببعدها عنهن لدرجة أنها لم تعد تتحدث عن خصوصياتها لهن، لكن هي تعتبر كل ما تعيشه اليوم حالة من الوعي بحقيقة الأشياء من حولها وهي سعيدة بما وصلت إليه من نضج فكري وشخصي ونفسي.
وتتفق معها نجلاء (44 عاما)، تقول: “النضج لا يعني أبدا أننا أصبحنا غرباء عمن نحب كما يعتقد بعضهم، بل هو مرحلة نصل إليها بعد أن نجتاز المواقف والخيبات ونمر باختبارات حقيقية، تعلمنا الحذر وأحيانا الصلابة، وفي كثير من الأحيان تعيننا على الوقوف بعد كل سقوط”. وتلفت إلى أنها تجد صعوبة كبيرة في إقناع المقربين منها بأن ظروف الحياة وقسوتها أحيانا تجبرنا على تغيير جزء كبير من قناعاتنا وأفكارنا، لكن المعدن الطيب والأصيل يبقى ثابتا لا يتغير. مبينة أنه في النضج يتصالح الإنسان مع نفسه ومع العالم الخارجي ويصبح أقدر على التخلي، يعرف متى وكيف يتجنب الأمور التي تزعجه والتي كان يظن أنه لن يعيش دونها.
مرحلة النضج مهمة، حسب رأي نجلاء، لكونها سمحت لها بأن تعيد ترتيب أولوياتها واهتماماتها وحتى ردود أفعالها، وصولها للنضج جعلها ترى الأمور بمنظار آخر؛ حيث أصبحت تنظر للحقائق بوضوح أكبر وتقرأ الأشخاص والأحداث بعمق، وهذا بالطبع ساعدها على تحديد كل ما تريده من العلاقات والحياة. نجلاء الآن تعرف تماما كيف تهرب من العلاقات المؤذية السامة وكيف تكون بعيدة عن الغدر والاستغلال حتى لو كان الثمن اتهامها بالتغير.
الاختصاصي النفسي الدكتور موسى مطارنة، يبين أنه لا أحد يبقى على حاله وأن التغيير سنة الكون، وهنا ليس المقصود تغيير المبادئ والأخلاق والقيم بل تغيير النظرة والأولويات والقناعات.
هذا ويشير مطارنة إلى أن الحياة بطبيعتها متغيرة وأن الظروف والتجارب والأحداث كفيلة بأن تجعل الناس أكثر وعيا ونضجا، فالحقائق تتضح والغشاوة تزول بالمواقف والعقل ينضج.
يقول: “لا يوجد عمر محدد للنضج، فالوصول لهذه المرحلة يعود لحصيلة التجارب والخبرات والمواقف التي يمر بها الشخص وإلى أي درجة أثرت فيه وصقلته وكانت سببا في تمكينه من رؤية الأمور على حقيقتها”.
ووفق مطارنة، فإن التغيير لا يكون من النقيض إلى النقيض بل الأساس الطيب يبقى طيبا، لذا لا بد للجميع من تقبل هذه الفكرة وعدم إدانة الشخص لمجرد أنه وصل لمرحلة النضج فأصبح أقل مبالاة وأقل تفاعلا، لكن في المقابل أكثر عمقا وقربا من نفسه. مؤكدا أن إرضاء الناس غاية لا تدرك وأن الإنسان مهما فعل سيجد من ينتقده ويلومه.