لكبيرة التونسي
تعددت حالات الانكباب على النفس، وحالات الصمت المريب وعدم التفاعل مع الأهل، تعددت حالات الانزواء داخل الغرف ومصاحبة الكمبيوتر، سعد الأهل بداية بهذا الصمت وهذا التفاعل مع الجهاز الذي يسافر بالمرء بعيداً عن أرض الواقع ويجتثه من جذوره، سابحاً به في أعلى السماوات، سعد الأهل، بل تفاخروا بتمليك أبنائهم هذا الجهاز المتحدث الناصح المطل على عوالم وآفاق مداها متسع اتساع الكون، رحلات تدريجية تسحب الأبناء لعوالم أخرى، بحثاً عن العلم والمتعة والخوف والحب وكل المشاعر والتناقضات، لم يكن صعباً ذلك من خلف جهاز ينسحب على العالم بكبسة زر، هكذا فرح الأهل بتكوّم المراهق على نفسه، على غير المعتاد، فلا شوارع يذكرها ولا أصدقاء سوء يريد مصادقتهم، ولا..ولا خوف عليه.
فجأة يُفاجأ الأهل بآثار تعذيب وتنكيل على الجسد والروح، فجأة يجد الأهل المراهق، بل الأطفال منذ صباهم الأول وراء انسياقهم، وانجرافهم خلف عوالم ليس لها قرار، كل ذلك أثناء تشكّل الهوية الشخصية، كل ذلك تحدث سياقاته في وقت لايسمح فيه بالخطأ، وإن حدث سيؤثر حتماً على البنيان الذاتي للمراهق، إذ يلبس المراهق عدة شخصيات وأدوار ويتواصل بها من خلال الإنترنت، هكذا قالت الدكتورة والاستشارية النفسية هبة شركس، وتذكر أن إحدى الحالات التي لا تزال تعالجها، وهي لفتاة تستخدم ثماني شخصيات على الإنترنت، ما أثر على تكوين شخصيتها، وتذكر أن هذه المراهقة تمتد شخصيتها من الطفلة الصغيرة إلى المرأة العجوزة، ومن الأمية إلى الشاعرة ومن الفتاة إلى الذكر، ومن الفتاة الرصينة إلى تلك المنفتحة المتحررة الباحثة عن عوالم المتعة والإغراء، مما أغرقها في عوالم الإغواء وتفاصيل لا يحتمل ذكرها، اكتشف والدها صدفة سبب سكونها لنفسها، إذ وجدها تسبح في عوالم وليس في عالم واحد، توزعت بين كل هذه الشخصيات، وهي الفتاة الملتزمة في حقيقة أمرها، حيث تؤدي صلاتها في وقتها، حاول الإصلاح وطرق باب الاختصاص.
اختباراً لشخصيتها طرحت الاستشارية النفسية عليها عدة مواضيع فرأت تعدد آرائها في الموضوع الواحد، حينها اكتشفت صعوبة الأمر، رحلاتها في كل هذه الشخصيات شتتت هويتها ورصانتها، وضيعت مواقفها من الحياة، تغيبت بهذا الفعل أهدافها في الحياة، امتص وقتها، وطفت عاطفة كل الشخصيات على شخصيتها، تداخلت الأمور لديها، تبعثرت حقيقة شخصيتها، أقنعتها كثيرة، بدأت الدكتورة هبة شركس بتخليصها من أضعفها وأقلها قرباً لقلبها هي تلك الفتاة الصغيرة التي تتحدث باسم الطفلة الصغيرة وتناقش من خلالها مواضيع تهم الصغار وبراءتهم، في حين صعُب تخليصها من شخصية الفتاة المنفتحة المتحررة التي سحبتها لعوالم أخرى أكثر جرأة، أخذت عهداً عليها حتى لاترجع لتشخيص هذا الدور على الإنترنت، لكنها نقضت العهد مرات وكانت دائماً تسافر في دروب هذه الشخصية وتحاور تشكيلات مختلفة يمددنها بآراء وأفكار بعيدا عن الواقع، تعمل اليوم جاهدة على فك العزلة عن المراهقة، ولكن تقول إن العمل مضن وطويل وقد تبقى آثاره مستمرة إلى حين.
هكذا ينتحل المراهق شخصيات غير حقيقية، يسافر من خلالها لعوالم شتى بعيدا عن الواقع، إذ تقول شركس إن ظاهرة تعدد الشخصيات والأدوار التي يلعبها المراهق على الإنترنت تفتح له عدة خيارات غير سوية تكون نتائجها تشتت وضياع الهوية والشخصية، إذ يعيش المراهق هذه الشخصيات ومشاعرها وأفكارها ويحمل قيمها ومبادئها، فيسكن لها وتسكن فيه لفترات طويلة زمنياً ونفسياً، فليس السكون إلى هذا الجهاز دائماً بحث في دروب العلم والمعرفة.
جريدة الاتحاد