ها هو رمضان قد أقبل عليكِ حبيبتي في الله، مادًا يده لكِ، ليأخذك إلى نور الرحمن، فترتقين إلى منزلة القرب من الله تعالى، وتنجلي الظلمات ويظهر النور، وتصبحين على طريق العائدات إلى الرحيم عز وجل، فتصبح حياتك هنيئة مريئة، ويشدو الطير لعودة النفس إلى باريها، وهكذا توَّفين عهدك مع الكريم، وتكونين من المتقين الذين صدقوا ما عاهدوا إليه بالاجتهاد في الطاعة في شهر الخيرات.
شعب الخير في الانتظار:
إن رمضان هو القطار الذي يتوقف شهرًا في محطته، منتظرًا أن يقوم الناس بالركوب فيه، حتى يقلهم إلى مدينة الطاعة والعبادة والمحبة الربانية، هل يوجد في هذا العالم، قطارًا قد دخل محطة القطار ثم ينتظر شهرًا حتى يركب فيه الناس!! فأي نعمة هي تلك النعمة الجليلة نعمة شهر الصيام، إنها لنعمة عظيمة حقًا، تدبري معي قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة: 183 – 185].
(يخبر تعالى بما منَّ به على عباده، بأنه فرض عليهم الصيام، كما فرضه على الأمم السابقة، لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان.
وفيه تنشيط لهذه الأمة، بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل الأعمال، والمسارعة إلى صالح الخصال، وأنه ليس من الأمور الثقيلة، التي اختصيتم بها.
ثم ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى، لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه.
فمما اشتمل عليه من التقوى: أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها، التي تميل إليها نفسه، متقربا بذلك إلى الله، راجيا بتركها، ثوابه، فهذا من التقوى.
ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه، مع قدرته عليه، لعلمه باطلاع الله عليه، ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فبالصيام، يضعف نفوذه، وتقل منه المعاصي، ومنها: أن الصائم في الغالب، تكثر طاعته، والطاعات من خصال التقوى، ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع، أوجب له ذلك، مواساة الفقراء المعدمين، وهذا من خصال التقوى.
ولما ذكر أنه فرض عليهم الصيام، أخبر أنه أيام معدودات، أي: قليلة في غاية السهولة) [تفسير السعدي، (1/86)].
مع السفرة الكرام:
أول ما تبدأين به في شهرك المبارك، هو كتاب الله عز وجل، فتبدأين باستغلال شهرك من خلال قراءة القرآن، وليس الهدف من قراءة القرآن هو ختم أكبر عدد ممكن من الختمات وإن كان ذلك مطلوبًا، بل إن الهدف أن تقومين بقراءة القرآن بتدبر وتفهم لمعانيه، فالتدبر هو الذي يورث النور في القلب، (فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله.
وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة، والتي بها فساد القلب وهلاكه، فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية وهو محتاجا إليها في شفاء قلبه كررها، ولو مائة مرة ولو ليلة، فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن، وهذه كانت عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصباح، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم، أنه قام بآية يرددها حتى الصباح وهي قوله، {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب، ولهذا قال ابن مسعود: لاتهذوا القرآن هذا الشعر ولا تنثروه نثر الدقل وقفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب لا يكن هم أحدكم آخر السورة، وروى ابو ايوب عن أبي جمرة، قال قلت لابن عباس: إني سريع القراءة إني اقرأ القرآن في ثلاث، قال لأن أقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها، أحب إلي من أن أقرأ القرآن كما تقرأ) [مفتاح دار السعادة، ابن القيم، (1/187)].
قرة العين:
ثاني الأشياء التي تواظبين عليها في هذا الشهر الكريم، هي صلاتكِ صلاتكِ، فرمضان من أكثر العبادات التي يؤديها الناس فيه هي عبادة الصلاة من خلال المحافظة على الصلوات الخمس في المسجد، أضيفي إلى ذلك صلاة التراويح والتهجد، فاجعلي رمضان هذا بداية للخشوع في الصلاة، فالمسلمة عالية الهمة لا تقتصر على أداء الصلوات الخمس بل تصلي السنن الرواتب أيضًا، لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى في كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير الفريضة إلا بنى الله له بيتًا في الجنة, أو إلا بني له بيت في الجنة) [رواه مسلم].
والمرأة المسلمة عندما تحافظ على السنن الرواتب فلها نظرة استراتيجية بعيدة، حتى تكون لنفسها رصيد استراتيجي من الصلاة تكمل بها النقص الذي صدر منها في أداء الفريضة كما جاء في الحديث: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر وإن انتقص من فريضة قال الرب انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك) [صححه الألباني في صحيح الجامع، (2020)].
وأروع لحظات الصلاة، حينما تقفين بين يدي الله عز وجل، تقومين الليل بركعتين على الأقل تناجين فيها ربك، تلك هي الدقائق الغالية التي تكون في السحر، إنها دقائق الأسحار التي ينزل فيها (العلي القدير بفضله ومنه إلى السماء الدنيا، وينادي على عباده، يعرض عليهم رحمته فيقول تعالى: (من يدعوني فاستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له) [متفق عليه].
وكيف يترك العابد قيام الليل وهو شعار الصالحين في كل زمان ومكان؟
وفيه من الثمرات ما عدد لكِ النبي صلى الله عليه وسلم بعضها في قوله: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربه إلى الله، وتكفير للسيئات، ومنهاة عن الإثم؟ ومطردة للداء عن الجسد) [صححه الألباني في صحيح الجامع، (4079)].
فلا تضيعي هذه الدقائق الغالية بسبب كسل أو تثاقل) [حياة النور، فريد مناع، ص(126-127)، باختصار وتصرف يسير].
سبق المفردون:
إن ذكر الله تعالى من أشرف العبادات التي يمكن أن يفعلها المؤمن، فعندما تخلو المسلمة بربها فتتذكر نعم الله عليها، فتقول سبحان الله، ثم تتبعها بالحمد الله، يملأ ذلك بين السماء والأرض كما أخبر الصادق المصدوق.
والعجيب أن ذكر الله تعالى، ربما يغفل عنه كثير منا، مع أنه عبادة لا تحتاج إلى وضوء أو تطهر، فإذا كان المرء محدثًا حدثًا سواء كان أكبر أو أصغر، لن يكون ذلك حائلًا من ترديد لسانه باستغفار للمولى جل وعلا.
(والذكر على ضربين: ذكر اللسان، وذكر القلب. فذكر اللسان به يصل العبد إلى استدامة ذكر القلب. والتأثير لذكر القلب؛ فإذا كان العبد ذاكراً بلسانه وقلبه، فهو الكامل في وصفه في حل سلوكه.
ويقول ذو النون المصري: من ذكر الله تعالى ذكراً على الحقيقة نسي في جنب ذكره كلَّ شيء، وحفظ الله تعالى عليه كل شيء، وكان له عوضاً عن كل شيء) [الرسالة القشيرية، القشيري، (1/101)].
ماذا بعد الكلام؟
ـ احرصي على التوبة إلى الله عز وجل في رمضان، من خلال المحافظة على الاستغفار في كل حال.
ـ اختمي في رمضان هذا ختمتين، ختمة قراءة بدون تدبر، ثم ختمة بعدها بتدبر لمعاني القرآن والتفكر فيه.
ـ حافظي على ورد ثابت لكِ من قيام الليل، حتى يكون لكِ زادًا في آخرتك.
المصادر:
·          تفسير السعدي.
·          الرسالة القشيرية، القشيري.
·          حياة النور، فريد مناع.
·          مفتاح دار السعادة، ابن القيم.

 

مفكرة الإسلام

JoomShaper