في مطلع الحياة، وحينما تبدأ كطفل تعي ما يجري حولك، فإنّك تقوم بتقليد والديك. وهذا الأمر لا يشمل بالطبع الإنسان وحده بل حتى صغار الحيوانات، ولذا شاع في الأمثال العربية القول: "اتبعتهُ اتّباع الفصيل(1) أثر أمّه".
فالطفلُ يبدأ باكتساب العادات والتقاليد والملكات من خلال ما يسمعه ويلاحظه من أقوال وحركات وانفعالات، وبذلك فإنّه يقوم بالخطوات الأولى للإقتداء بالكبار باعتبارهم مثله الأعلى، أي أنّه يقول كما يقولون، ويفعل كما يفعلون تشبّهاً واقتداءً بهم.
فالإقتداء هو أن تقتفي خطّ السير بأنّ تقلّد الآخرين الذين تحبّهم. وتثق بهم، وتعتقد أن ما يقومون به هو الصواب. والإقتداء هنا هو مدخل من مداخل التربية والتعليم، لكنّ الحاجة إلى الإقتداء قائمة ودائمة حتى آخر العمر، وليست مرهونة بالطفولة فحسب. فحتى تكتسبَ مهارة معيّنة كما في سياقة السيارة – مثلاً – تحتاج إلى أن ترى السائق المدرّب كيف يسوق السيارة، فتقلّده وتقتدي به خطوة خطوة، وحركة حركة. وما تقليدك لخطوات العمل بحذافيرها، إلّا لقناعة داخلية أن مدرّبك سائق ماهر وصاحب تجربة طويلة في ميدان السياقة، حتى أنّك لا تناقشه فيما يقول ويفعل لأنّك تراه أخبر منك، والطاعة لأهل الخبرة مسألة عقلية وعلمية وحياتية.
فـ(المعلّم) أو (المربّي) سواء كان أباً أو أُمّاً أو أخاً كبيراً أو معلّماً في المدرسة والمعهد (قدوة) سواء علّمك كيف تسوق السيارة، أو كيف تسبح في النهر، أو كيف تحسِّن خطّك، أو تجوِّد صوتك في الترتيل، أو كيف تتعامل مع الآخرين!
والحاجة إلى المعلّم أو القدوة حاجة أساسيّة، وهي – كما قلنا – تمتد بامتداد العمر، ولو افترضنا أن فيضاناً جرف طفلاً صغيراً – لا زال في بواكير حياته – إلى الغابة، ولم تنطبع في ذهنه بعدُ لغة الإنسان وحركاته، فقد يتصرّف تصرّف بعض الحيوانات التي يشاهدها من حوله. فقد يمشي على أربع، ويطلق الأصوات الشبيهة بأصواتها، أو يتناول الطعام على طريقتها، ذلك أن مؤهلاته الإنسانية لم تجد المعلم أو القدوة الذي يفجّرها ويربيها ويرعاها، الأمر الذي يمكن أن تجعل هذا المخلوق في هيئة إنسان لكنّه يقتدي بالحيوان في تصرّفاته(2).
هذا هو إذن الذي يجعلنا نعتقد أنّ القدوة مطلوبة وضرورية في حياة كلّ إنسان طفلاً كان أو كبيراً. فالحاجة إلى القدوة والأُسوة والمثال والنموذج تنطلق من الحاجة إلى:
1- التعلّم: فبدون القدوة يصعب علينا التعلّم وتنمية المدارك.
2- التربية: ومن غير قدوة نتأسّى بها، سنجد صعوبة في التنشئة والتربية حتى يصبح أحدنا بشراً سويّاً، وإنساناً نافعاً.
3- الرقيّ: وإذا لم تكن هناك قدوة حيّة نتمثّلها، فقد نراوح مكاننا، ولا نحصل على مستوى أفضل من النمو والتطوّر، لأنّنا قد نستشعر القناعة فيما نحن فيه، كما يفعل بعض أبناء القرى والأرياف الذين لا يخرجون من دوائرهم الجغرافية الضيّقة، ولا يطوّرون حياتهم نحو الأحسن.
4- رفع المعنويات والحماسة والرغبة: فمن غير القدوة المناسبة التي تمتلك صفات تفوق صفاتنا، تبرد حماسة الإنسان وتفتر همّتة، وربّما يزهد في الإندفاع نحو تحقيق الأفضل والأكمل والأجمل، لأنّ مجال المقارنة بين منسوب عطائه وبين مناسيب عطاءات أكبر وأقوى وأكمل، سيكون معروفاً.
5- تصحيح الأخطاء: فالقدوة مرآة، وكما ترى في المرآة محاسنك وعيوبك، فتحافظ على المحاسن وتزيد فيها، وتعالج العيوب وتمحوها، فكذلك القدوة تصنع، فمن خلال النموذج يمكن أن نطابق سلوكنا مع سلوكه، وأسلوبنا مع أسلوبه، لنعرف كم نحن على صواب، وكم نحن على خطأ.
- آباؤنا وأُمّهاتنا قدواتنا:
يخطئ مَنْ يتصوّر أنّ الأب قدوة لإبنه فقط، وأنّ الأُم قدوة لإبنتها فقط، فكلاهما قدوة لأبنائهما وبناتهما. نعم، قد تكون بصمات الأُم على شخصية ابنتها أكثر لكونهما من جنس واحد، كما أنّ بصمات الأب أوضح وأصرح على الإبن لإتحادهما في الجنس، لكن ذلك ليس قاعدة ثابتة صارمة، فقد يتأثر الإبن بأُمّه أكثر من أبيه، وقد تتأثّر الفتاة بأبيها أكثر من أُمّها، حتى أنّ العرب كانت تقول: "كلّ فتاة بأبيها معجبة" وإعجابها يدعوها للإقتداء به وتمثّل سيرته.
وقد يتأثّران بأحد الوالدين أو بكليهما، فأنت حينما تتصفّح حياة وسيرة الرجال والنساء من المبدعين والمبدعات، ترى هذا التأثير المتبادل أو الذي لا جنسية له، فكم من النابغات كان أبوها قدوتها، وكم من البارعين من كانت أُمّه قدوته، وثمّة صنف ثالث أخذ من هذا وهذه.
وهذا يعني أنّ المهم هو أن يكون الوالدان أحدهما أو كلاهما في موقع القدوة والتأسّي، فإنّ توفّر قدوتين في البيت أو الأسرة سيكون له مردود أكبر من القدوة الواحدة، وانعدام القدوة تماماً سيكون له آثار سيِّئة على الأبناء والبنات.
فالقدوة الوالدية يتجلّى أثرها في حياتنا منذ نعومة أظفارنا، لانّهما أوّل معلّمين في حياة كلّ فتاة وفتى، والقدوتان اللتان يبقى صدى تأثيرهما يرنّ في مدى العمر.
وقد يكون الأبوان – أو أحدهما – قدوتين صالحتين.
وقد يكونان – أو أحدهما – مثالين سيِّئين.
فإن كانا من الصنف الأوّل حظي الابن أو البنت بمعلّم ومربٍّ هو المثل الأعلى في حياتهما، وإن كان أبواها من الصنف الثاني، فقد يبنيان أسوأ الخصال فيهما، وقد قال الشاعر:
إذا كان ربّ البيت بالدفّ ناقراً **** فشيمةُ أهل البيتِ كلّهم الرقصُ
و(النقرُ بالدفّ) هنا كناية عن كلّ عمل سوءٍ يصدر من الأب أو الأُم فيلتقطه الصغار على أنّه الصحيح الذي لا جدال فيه.
والقدوة الوالدية أيّاً كانت – أُمّا أو أباً – لها ميزاتها الخاصّة:
أ‌) فهي الأعمق تأثيراً وبقاء في نفوسنا وبناء شخصياتنا.
ب‌) تأثيرها يمتد مع الحياة، فبعض بصمات هاتين القدوتين تبقى محفورة لا تقدر يد الأيام على محوها. فـ"العلم في الصغر كالنقش في الحجر"(3).
ج) هي قدوة ملازمة لا تفارقنا، وكأنّها جزء لا يتجزّأ منّا.
د) هي قدوة حريصة مخلصة وتريد لنا الخير وتطمح إلى أن نكون أفضل منها، وأن لا نكتفي بمجاراتها فقط.
هـ) هي قدوة تلقائية تقدّم النموذج الحيّ المباشر من نفسها، في كلّ كلمةِ حبٍّ وصدق، وحركة عطف وحنان، وموقف تضحية وإيثار.
وليس ضرورياً أن تكون القدوة الوالدية قدوة حائزة على شهادة دراسية معيّنة. فهي بما أوتيت من خزين عاطفي كبير، ورغبة صميمية جامعة في الإسعاد، تحاول أقصى جهدها في أن تقدّم المثال الصالح لأبنائها وبناتها.
فربّ أب فلّاح مكافح لا يجيد القراءة والكتابة، لكنّه إنسان نبيل كريم الطباع، حميد الخصال والسجايا، يعرف بالتجربة ما هو الخبث وما هو الطيبة، وأين الإستقامة وأين الإعوجاج، هو قدوة صالحة قد لا نستفيد منها في تعليمنا القراءة والكتابة، لكنّها بالتأكيد أفضل من أب متعلِّم لكنّه منصرف عن أبنائه وبناته.
وربّ أمّ أميّة، لكنّها قرأت كتاب الحياة من خلال تجربتها الحياتية والزوجية بعينين مفتوحتين، فقدّمت لأبنائها وبناتها نموذجاً يحتذى من الإخلاص والوفاء ونكران الذات.
غير أنّ هذا لا يقلل إطلاقاً من أهميّة الأب المثقف والأُم المتعلّمة كقدوتين، بل بالعكس، فإنّ القدوة الوالدية المثقفة تترك أثراً أكبر في نفوس وأذهان ذريتهما من الأبناء والبنات.
- معلّمونا قدواتنا:
يأتي المعلّم كمربٍّ في الدرجة الثانية بعد الأب والأُم، بل إنّ بعض المعلمين يفوق تأثيرهم تأثير الوالدين بما يستحوذونه من عقول وقلوب التلاميذ، وبما يوجهونهم الوجهة الصالحة، وهذا النوع من المعلمين تحديداً هو الذي قصده الشاعر بقوله:
قمْ للمعلّم وفّهِ التبجيلا **** كاد المعلّمُ أن يكون رسولا
فكلٌّ منّا يتذكر جيِّداً معلّماً أو أكثر كانت له أياد بيضاء، وبصمات عميقة في تربيته وبنائه، وقد يمتدّ تأثير أحدهم إلى مستقبل الحياة، حيث تجد تلميذ الأمس وقد أصبح معلماً أو موظفاً أو تاجراً أو مهندساً أو طبيباً أو محامياً، أو في أيّة حرفة ومهنة، يتمثّل أستاذه أمامه فيقتدي به في إخلاصه وتفانيه وسخاء عطائه وإستقامة سلوكه.
إنّ المعلّم الذي يطعم درسه بكلمات التوجيه الصادق المخلص، والمواعظ الأخلاقية الحسنة، ويقدم خلاصة تجربته العملية النافعة، ويُري من نفسه النموذج الأصلح، حريّ أن لا يحظى بالوقار والتبجيل فقط، بل باتخاذه قدوة وأسوة أيضاً.
والمعلّمة التي تأخذ بأيدي تلامذتها من الفتيات المراهقات والشابات لتعبر بهنّ إلى شاطئ الأمان، من خلال النصائح النابعة من القلب، والفائضة حبّاً ورحمة وحناناً، والتي تسلك في المدرسة والشارع سلوك المرأة العفيفة الرزينة، هي أُمّ ثانية، وربّما نسيت بعض الفتيات جوانب من حياتهنّ مع أُمّهاتهنّ اللّائي ولدنهنّ، لكنهنّ لن ينسين معلّمة قالت بصدق وعملت بصدق.
لكنّنا – للأسف الشديد – أصبحنا نفتقد – في بعض المدارس – المعلّم القدوة، فهناك اليوم الكثير من المعلمين الناجحين في طرق التدريس، لكنّ هناك قلّة مخيفة من المعلمين القدوة، بل رحنا نصطدم بالمعلم أو المعلمة التي تقدم من نفسها نموذجاً سيِّئاً للمربّي الفاشل، على أنّ هذه النماذج المدسوسة أو المتسلّلة إلى دوائر والتعليم لا تزال بحمد الله قياساً بالمربين الصالحين قليلة.
- أصدقاؤنا قدواتنا:
متى يكون صديقي قدوة لي؟
حينما يكون بمثابة الأخ الكبير، أو الأخ المخلص الذي يريد لي الخير والصلاح والسعادة، ويبتعد بي عن مواطن الانحراف والبذاءة والسوء والفحشاء والمنكر، وحينذاك يكون الصديق الصدوق، والأخ الثقة الذي يعرّفني عيوبي ليقوّمني، والذي في سمته وهداه ومسيرته ما يرفع من درجة إيماني بالله، وحتى للخير، وأملي بالنجاح، وهو الذي أسمع منه وأرى ما ينزع أشواك الغلّ ونزغات الشيطان من صدري.
هو الصديق الوفيّ المخلص الغيور على أخلاقي وديني وسمعتي، وهو معلّم آخر يضاف إلى والديّ ومعلّمي.
فحينما أجد صديقاً صادقاً دائماً معي، فهو وإن لم يكن يقصد أن يكون قدوتي في الصدق، لكنّه سيكون كذلك لأنّني سأستمدّ منه حرارة الصدق في القول والعمل والموقف.
وحينما تعثر الفتاة على صديقة محتشمة نجيبة، فهي ستتأثر بها، وستنهل من أخلاقها وستكون قدوتها لاسيما إذا كانت لا تعيش العناد والإصرار والتساهل في الالتزامات الدينية، وصادق هو الشاعر الذي يقول:
صاحب أخا ثقةٍ تحظى بصحبته **** فالطبع مكتسبٌ من كلّ مصحوب
كالريحِ آخذةٌ ممّا تمرّ بهِ **** نتناً من النتن أو طيباً من الطيب
إنّ الحديث الشريف: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم مَنْ يخالل" يعني بكلمة "على دين خليله" أنّه يقتدي ويتأثّر به لدرجة أنّه يدين بدينه، فإن كان صالحاً زاده صلاحاً وتقوى، وإن كان سيِّئاً فاسقاً جرّه إلى أماكن الوء والانحراف والهلكة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- الهوامش:
(1) (الفصيل) هو ابن الناقة الصغير الذي يحذو حذو أُمّه ويتبعها في حركتها أينما اتّجهت، وهكذا سائر صغار الحيوانات.
(2) لقد حدث مثل هذا الأمر ذات مرّة في الهند، حيث جرفت المياه طفلنين صغيرين سمِّيا (كمالا) و(تماشا) وقد عثر عليهما بعد مدّة طويلة وهما يقلدان الحيوانات في الكثير من الأفعال والأصوات.
(3) هذه المقولة ومثلها "مَنْ شبّ على شيء شاب عليه" تدلّل على خطورة المنحى السلبي في التربية والإقتداء، لأن رواسب وشوائب الماضي لا تمحى بسهولة، كما أنّها تعني الجانب الإيجابي في مدى أهمية إكتساب الفضائل في وقت مبكر، لكن ذلك ليس شيئاً نهائياً، فقدرة الإنسان على التغيير كبيرة حتى في مراحل متقدّمة من العمر، لكنّ التغيير في الطفولة والشباب أيسر بكثير.
www.balagh.com

JoomShaper