تشكل ظاهرة النراجيل أو الأراكيل في الوسط الشبابي إحدى مكونات الثقافة، وباتت سلوكاً فردياً يومياً. تنتشر في كل مكان، في المقاهي وعلى الطرقات العامة وبين الشباب والشابات وحتى الصغار خلسة، فهي المحور الذي يجمع الضيوف في السهرات الليلية والجلسات العامة، وأنيس للمستوحد حول نفَس تنباك معسلاً كان أو عجمياً، يحلو معها التأمل على وقع قرقعة مائها ورائحة دخانها!
هذا المشهد اكدته دراسة احصائية أجراها قسم طب الأسرة والمجتمع في جامعة القديس يوسف، وشملت 1097 تلميذاً موزعين على 95 صفاً من مستوى الشهادة المتوسطة (البريڤيه). وينقسم التلامذة بين المدارس الرسمية (65٪) والمدارس الخاصة (35٪). كما توزعت العينة على 54٪ من الفتيات، و46٪ من الذكور، وتراوحت أعمار الذين شملتهم الدراسة بين 12 و19 سنة.
النتائج أظهرت أن 64٪ من الطلبة يعيشون في أسر من مدخني النرجيلة، واكثر من 52٪ من هؤلاء حاولوا تدخين النرجيلة في سن الرابعة عشرة بشكل عام! وبلغ معدل استخدام النرجيلة بشكل متكرر 18٪، وسجل الجنوب اللبناني أعلى نسبة انتشار بلغت 24٪. كما بينت الدراسة أن مستخدمي النرجيلة بشكل مزمن هم أكثر عرضة لتدخين السجائر بشكل متكرر ايضاً. كما ساهم القبول الاجتماعي بتدخين النرجيلة في زيادة انتشارها بين الأطفال والمراهقين، مع ملاحظة أن تدخين السجائر والنرجيلة هما أكثر شيوعاً لدى الشبان من الشابات.
دلع ... فولع
تختلف الأسباب الدافعة لتدخين النرجيلة بين شخص وآخر، ولكن هناك العديد من الأسباب المشتركة الدافعة إلى هذا السلوك خصوصاً لدى المراهقين أو الشباب، لعل أهمها التغييرات الفيزيولوجية لدى المراهق التي تجعله يعتقد أنه اصبح يملك قراره ما يدفعه لتجربة كل ما هو جديد محاولاً التمرد على القيم المجتمعية، فيبدأ بالسيجارة أو النرجيلة، وبعضهم ربما يلجأ إلى المخدرات, تبدأ القصة كما يقول المثل الشعبي "أولته دلع وآخرته ولع". ثم إن الأهل قد يعتقدون أنها افضل من غيرها وفق ما يقول حسين أحد مدخني النرجيلة.
أحمد كانت تجربته الأولى للنرجيلة عندما كان في الثانية عشرة من عمره وخلال سفر أهله قبل خمس سنوات وعندما عادوا لم يعارضوه على الرغم من علمهم.
ويورد الاختصاصي في علم الاجتماع الدكتور غسان طه عدة اسباب لهذه الظاهرة منها ضعف سيطرة الأهل وتغير منظومة القيم ويقول: "إن تقدم وسائل الإعلام ساهم في إضعاف سلطة الأهل، وكانت منظومة القيم قبل عقد ونصف ترى أنه من المعيب والمحرم جلوس الفتاة في المقهى أو على الرصيف، أما الآن فنرى الشبان والشابات يتناوبون على نفس النرجيلة بشكل عادي"!.
ويتابع "هذا السلوك يتناسب مع الفراغ الاجتماعي الناتج عن البطالة المنتشرة بنسبة كبيرة، ما يضطر الشباب إلى القضاء عليه عبر "آخر نفس" وفق تعبير البعض، وذلك هروباً من المشاكل الحياتية المتنوعة آخذا بعين الاعتبار النظرية العلمية لعملية التنفس "الشهيق والزفير" كرهان وحيد على التعبير عن مكنونات قلبه الحبيسة دون التلفت لمضارها الصحية والنفسية"!
نكهات ومذاقات مختلفة ومتنوعة، واسعار في متناول الجميع، شكلت دافعاً آخر للاقبال على تدخين النرجيلة وكأنها وجبة يومية لا بد منها! وهنا يقول الاختصاصي في الجراحة العامة الطبيب موسى عمار: "لقد اصبح السؤال عن تكاليف النرجيلة أمراً بديهياً... عندما ننزل إلى القهاوي نجدها تقدم سعراً مقبولاً وبعضها قد يكون أغلى لكن في متناول اليد، سواء كان الراتب قليلاً أو كان من مصروف الأهل، فأسهل ما في الأمر الدخول إلى المقهى لشراء النرجيلة فهي تقريباً أرخص من فنجان الشاي أو القهوة".
ويتابع عمار: "هذه الثقافة بدأت تُستثمر بإدخال النكهات المختلفة المدسوس فيها السم باسم العسل. هذه المقاهي منتشرة كالفطريات... بين المقهى والمقهى آخر، وبين نرجيلة وأخرى نرجيلة صباحا وظهرا وعشاء. على الأرصفة وأمام كل بيت وفي كل مكان!
مضار النرجيلة
الدراسات العلمية أكدت مضار تدخين النرجيلة وخطورتها، وبينت دراسة حديثة لجامعة "فرجينيا كومنولث" الأمريكية أن مضار النرجيلة تفوق مخاطر تدخين السجائر على صحة الانسان. وقد شملت الدراسة 31 متطوعا تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 50 عاما استخدموا النرجيلة وسيجارة واحدة، وقام الباحثون بقياس مستويات النيكوتين وأول أوكسيد الكربون في دم المشاركين ومعدل ضربات القلب، بالإضافة لعدد النفخات وحجمها. وأظهرت النتائج ارتفاع معدلات أول وثاني أوكسيد الكربون بعد تدخين النرجيلة، كما وجدوا أن معدل استنشاق الدخان كان أكثر بنحو 48 مرة عند تدخين النرجيلة مقارنة بالسجائر، علما أنه مع اختلاف شكل التدخين إلا أنهما يؤديان لإمداد الجسم بالنيكوتين.
وقال البروفيسور "توماس أيزنبيرغ": إن نتائج هذه الدراسة توفر أدلة ملموسة وعملية تناقض الخرافة المتكررة من أن تدخين النرجيلة لا يؤدي لاستنشاق المدخن نفس كمية المواد الكيميائية الضارة كما عند تدخين السجائر".
حملات وقائية وتثقيفية
وقد سجلت العديد من النشاطات الرسمية والأهلية للحد من تفاقم هذه الظاهرة، إذ وقع المجلس الدستوري بشخص رئيسه د. عصام سليمان وأعضائه كافة على العريضة التي أطلقتها جمعية «حياة حرة بلا تدخين» مع مركز الأبحاث المتخصص في الجامعة الأميركية وجمعية إنديآكت، والتي تطالب بعدم المماطلة في اقرار قانون يمنع التدخين في الأماكن العامة المغلقة في لبنان. كما تطالب العريضة بمنع الاعلانات والرعاية الاعلانية لمنتجات التبغ كافة، ووضع التحاذير المصورة على 40% من مساحة علب منتجات التبغ.
وقد حصدت هذه العريضة خلال اسبوع تواقيع نقابات الأطباء والصيادلة وأصحاب المستشفيات ومستوردي الأدوية والمعالجين الفيزيائيين والامانة العامة للمدارس الكاثوليكة اضافة الى 70 جمعية أهلية ومنظمات محلية ودولية ومؤسسات المجتمع الأهلي.
كما تقوم الهيئة الصحية الإسلامية بحملات تساهم في الحد من انتشار هذه الآفة تحت عنوان "مكافحة المخدرات" باعتبارها جزءا منه، ويقوم برنامجها على قيام اختصاصيين بإلقاء محاضرتين عن مضار تدخين النرجيلة والسجائر في أحد الاحياء، وتتناولان معالجة جوانب متعددة بشكل اسبوعي. ولوسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة دور في في التحذير من مخاطر هذه الظاهرة حيث تبث حلقات خاصة في بعض من فتراتها الصباحية أو بعض الاعلانات، إضافة إلى قيام المستشفيات باصدار ملصقات ومنشورات تحذر من التدخين.
النرجيلة تجتاح الشباب ... ومنظومة القيم المجتمعية
- التفاصيل