شاكر النابلسي
بدون تغيير النظرة الاجتماعية للمهن اليدوية، وأصحاب هذه المهن، فإن الإقبال المتزايد على الالتحاق بالكليات النظرية والعلمية سوف يتزايد، نظراً لإجلال وإكبار وتقدير المجتمعات العربية لخريجي مثل هذه الكليات
-1-لم تعد البطالة في العصر الحاضر داءً قطرياً قاصراً على بلد واحد فقط، ولكنها أصبحت كالفيروس الذي يصيب ويضرب مختلف المجتمعات، نتيجة لزيادة عدد سكان المعمورة، وما يترتب على ذلك من زيادة في أعداد الخريجين من المعاهد والجامعات ومراكز التأهيل المهني. وكذلك نتيجة لكثرة وتتابع موجات الكساد العالمي.كما أن هذا، نتيجة أخيرة لاحتكار بعض الدول منجزات التكنولوجيا والصناعة، بحيث وفَّرت لمواطنيها دون غيرهم، فرص العمل التي ظلت رغم ذلك محدودة، مما دفع للقيام بالإضرابات والاحتجاجات. ودفع بالتالي، بعض السياسيين إلى كراسي الحكم، ممن وعد ناخبيه بتوفير فرص عمل للعاطلين، وتخفيض نسبة البطالة في البلاد. وبذا، اتخذت البطالة في هذه الحالة طابعها السياسي، وأصبحت تُباع وتُشترى في سوق السياسة، كأية ظاهرة أخرى اقتصادية واجتماعية وثقافية. وراح السياسيون يتسابقون على إعطاء الوعود لناخبيهم بإيجاد فرص عمل للعاطلين، الذين بدؤوا يشكِّلون نسبة لا بأس بها من المقترعين المرجِحين لنجاح هذا المرشح أو ذاك. وهذا ما تمَّ في حملة الانتخابات التي خاضها أوباما 2008، وساركوزي، وميركل، وغيرهم. -2-نواقيس كثيرة قُرعت في العالم العربي، تحذرنا من تزايد نسبة البطالة في البلدان العربية، وأثرها السيئ على كيان الدول، وتهدديها للمجتمعات المدنية. ومنها "تقارير التنمية البشرية" للأمم المتحدة التي بدأ صدورها منذ عام 2002 واستمرت تصدر في كل سنة إلى الآن، وكان آخرها التقرير الذي صدر بداية هذا العام عن عام 2009، والذي حذَّر من تزايد نسب البطالة في بلدان العالم العربي إلى درجة أن بعض هذه البلدان العربية، شهدت نسب بطالة وصلت إلى 20-25%. وبذا، عُدت بعض البلدان العربية من ضمن البلدان ذات الأدنى مشاركة في نسب قوة العمل الدولية. ولعل من ضمن أسباب ذلك عزل المرأة، وعدم مشاركتها -كنصف للمجتمع - في الحياة العملية لأسباب كثيرة. وهو ما ينذر بشرور خطيرة. ويجعل المسؤولين في العالم العربي يبحثون بجدية وبعمق عن أسباب هذه البطالة، ويجدون المخارج لها، قبل أن تتحول إلى كارثة يصعب التصدي لها.

-3-يظن كثير من المراقبين أن أسباب البطالة تعود فقط إلى:
1- تزايد عدد الخريجين، ممن لا يحتاجهم سوق العمل العربي.
2- قلة فرص العمل.
3- تخلف التعليم. وتدريس الطلبة مناهج عفا عليها الزمان، ولا حاجة لسوق العمل بها.
في حين أن هناك أسباباً أخرى للبطالة، تُضاف إلى هذه الأسباب، وهي أسباب اجتماعية وسياسية. وهذا ما يؤكده سمير العيطة رئيس تحرير النشرة الشهرية العربية، لـ "اللوموند ديبلوماتيك" (فبراير، 2010) في مقاله: "هل البطالة مؤشر له معنى في مجتمعاتنا؟" وقوله من أنه "بدل مساءلة الحكومات العربية عن معدلات البطالة، يجب مساءلتهم عن مؤشرات أخرى لها دلالة أكبر عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية".
فمعظم المجتمعات العربية، تنظر إلى كثير من المهن اليدوية نظرة دونية. وأن حظَّ أصحاب هذه المهن في الزواج قليلة، كما يشير عالم الاجتماع السوري/الأمريكي حليم بركات في كتابه "المجتمع العربي في القرن العشرين". وبدون تغيير هذه النظرة الاجتماعية للمهن اليدوية، وأصحاب هذه المهن، فإن الإقبال المتزايد على الالتحاق بالكليات النظرية والعلمية سوف يتزايد، نظراً لإجلال وإكبار وتقدير المجتمعات العربية لخريجي مثل هذه الكليات. وهناك من يقول، إن بعض الأنظمة العربية سعيدة بنسب البطالة التي تتحقق فيها، نظراً لأن هذه النسب تدفع الشباب إلى الهجرة خارج أوطانهم. وبذا، تتخلص السلطات منهم، ومن احتمال قيامهم باضطرابات، وإثارتهم للشارع العربي. كما أن هذه السلطات تدفع الشباب للهجرة والعمل في الخارج، لكي تستفيد من تحويلاتهم المالية، وتحسين مخزونها من العملات الصعبة، لتغطية عملتها المحلية، وعدم تخفيضها مستقبلاً أمام العملات الأخرى.
فهل أصبحت البطالة نعمة لبعض البلدان، ونقمة - كما هي - للبعض الآخر؟
-4-الكاتب التنويري محمد عبد اللطيف آل الشيخ أثار في مقاله (طيب.. ولين تخرجوا وين بيشتغلون؟) (صحيفة "الجزيرة"، 14 /10 /2010) مشكلة البطالة ونسبها المتزايدة في السعودية، نتيجة لوجود أكثر من ثلاثين جامعة حكومية وأهلية، ونتيجة لوجود أكثر من 80 ألف طالب في بعثات خارجية.
وكان سؤاله القلق هو: هل تستطيع الأسواق السعودية استيعاب كل هذا العدد من طالبي العمل في المستقبل القريب؟
ويجيب بقوله:
"إن مستقبل سوق العمل بالنسبة للسعوديين لا يُطمئن البتة؛ بل إن الشهادة العلمية، التي كانت في السابق أماناً من الفقر، ستصبح مجرد (وريقة) لا تُسمن ولا تُغني من جوع".
ويرى آل الشيخ، أن حلَّ مشكلة البطالة في السعودية – وفي ظني أن هذا ينطبق أيضاً على كافة البلدان العربية، التي تشكو من ضيق فرص العمل، وارتفاع نسبة البطالة لديها – لن تتأتى إلا بتأهيل الخريجين عملياً، لكي يُلبوا حاجة سوق العمل، والإحلال محل الأجانب العاملين. لكن المشكلة في السعودية، وفي كثير من بلدان العالم، أن هؤلاء الأجانب، يعملون في مجالات عمل متدنية الأجر، ولا يرى المواطن أنها تليق به. ومعظم دول العالم تعاني من هذه النقطة، ومنها أمريكا التي يوجد بها حوالي عشرة ملايين عامل من أمريكا اللاتينية، ومعظمهم غير شرعيين. وتبقى النقطة الأهم، وهي توجيه الطالبات والطلبة إلى الدراسة في تخصصات تحتاجها أسواق العمل. والكفِّ عن اعتبار التعليم رفاهية في المجتمعات الريعية خاصة. ودون ذلك، سوف تتضخم مشكلة البطالة، التي يقرع آل الشيخ ناقوسها بقوة، حين يقول:
" إن قضية البطالة ستشهد في السنوات القادمة تفاقماً خطيراً حسب الأرقام الإحصائية. وما لم نعمل بكل ما أوتينا من قوة وجهد على (حلحلتها) على أمل حلها، فإن العواقب ستكون وخيمة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. نعم ليس ثمة حل سحري على طريقة كُن فيكون؛ إنما لا بُدَّ من أن نعمل منذ الآن، على وضع (برنامج) عملي وحازم، لاحتواء هذه المشكلة، حتى وإن كلفنا تطبيقه بعض التنازلات، والآلام على المدى القصير".
وفي ظني أن هذا التفاقم الذي يتحدث عنه آل الشيخ، ليس مقصوراً على السعودية وحدها، ولكنه سيشمل كل بلد عربي يعاني ما تعانيه السعودية، من تزايد عدد الخريجات والخريجين، مقابل ضيق شديد في فرص العمل المتاحة.


JoomShaper