في بداية الفقرات التالية كلمات كانت بقلم أحمد منصور عندما كان مديرا لتحرير مجلة "المجتمع" الكويتية، يعبّر فيها عن مشاعره حول رسالة وصلته مترجمة، وأصلها بالأسبانية، بل جعلها لاحقا واحدا من بضعة وعشرين نموذجا شكّلت فصول كتابه "سقوط الحضارة الغربية-رؤية من الداخل"، الصادر عن دار القلم بدمشق عام 1418هـ و1998م. وتناقلت الرسالةَ منذ ذلك الحين أقلام عديدة أخرى، فانتشرت في المنتديات الشبكية، وهذا إلى ما قبل بضعة شهور فقط -في حدود ما رأيت- أي رغم مضيّ عشرة أعوام على كتابة سطورها، إذ أنّها رسالة معبّرة ببساطةِ عمق مشاعر صادقة متدفقة من قلم فتاة في سنّ
المدرسة، عن وضعٍ كان قائما من قبلِ ما قيل إنّه بداية تأريخ أمريكي جديد، يوم وقعت انفجارات واشنطون ومدريد، وما يزال قائماً أو اشتدّ حدّة وتأثيرا من بعدِ كلّ ما مضى من حروب "إرهابية استباقية" وأشعل من حرائق في أنحاء الدنيا وكشف عن همجيّة لا تضاهيها أيّ همجية بشرية أو غير بشرية أخرى.
هي رسالة أو مشهد "توثيقي" لصورة تتكرّر في حياة كثير من الفتيات المسلمات من أهل البلدان الغربية. وعندما انسكبت سطورها بالأسبانية من قلمِ يمان قبل عشرة أعوام، كانت من براعم الصبا الناشئات في الغرب، إذ ولدت ونشأت وما تزال تعيش في أسبانيا. أمّا أن تجد هذه الكلمات "التوثيقية" طريقها اليوم إلى (مداد القلم) فليس بسبب لتداولها بريديا من جديد، إنّما هو نتيجة ما تركه في النفس لقاءٌ جديد مع يمان قبل فترة وجيزة، وقد أصبحت شابّة في مقتبل العمر، وكان ذلك اللقاء القصير بها وبمَن معها فرصة أخرى لمعايشة ما كان يعرفه عنها وعن أسرتها من قبل، وقد وجد فيها مجدّدا نموذجا يُحتذى، إيمانا وعلما ووعيا وخلقا. وجدها طاقة متحرّكة تصنع على أرض الواقع عبر عطائها ذاك "التعايشَ" الذي يتغنّّى بذكره كثيرون شعارا، فقد أصبح حيّا مشهودا في محور ما تمارسه مع مثيلاتها وأمثالها من جيل الشبيبة في بلدها، من أنشطة وفعاليات، يمكن وصفها بجولاتِ جهادٍ حقّ، ووقفاتِ صدق، ضدّ الحقد، والكراهية، وعداء الآخر، ضدّ الأحكام المسبقة والتصوّرات المختلقة والممارسات المعوجّة.
هذا العطاء، في هذا الاتجاه بالذات، يثير إعجابا مضاعفا، أن يصدر عمّن عايشت بنفسها ما تذكره السطور التالية، فمن يطّلع على عطائها الآن ويستحضر إلى جانبه ما تعنيه تلك المعايشة اليومية في حياتها وهي فتاة ناشئة، يستشعر قيمة تلك الطاقة الصادقة مبهورا، ويغمره إحساسٌ بالرهبة إجلالا لعظمةِ عقيدةٍ تحرّكها وتضبطها، فلا تسمح لنوازع الانتقام والغضب، ولا رغبات الردّ على التعامل السلبي بمثله، أن تستولي على قلب المؤمن أو فعله، بل على النقيض من ذلك، رغم وجود الأسباب والدواعي، تتحوّل تلك المشاعر إلى عطاء عملي إيجابي متواصل، يتركّز على نقاط الالتقاء مع الآخر، بل ينطوي على إيجادها وتنميتها إذا ما ران على النفوس من دونها وعلى الأبصار دون رؤيتها بعضُ أثقال ما تصنعه الأحداث، أو تصطنعه الأحقاد. ولعَمري إنّ ذاك هو العطاء الحقيقي التطبيقي العملي لِما توجّه إليه الكلمة المعجِزة (لتعارفوا) وتجعله المنهاج الأقوم للعلاقات ما بين البشر على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وتصوّراتهم.
نبيل شبيب
مقدّمة أحمد منصور
هذه الصفحة اليوم من حقّها هي، تلك الفتاة المسلمة التي لم تتجاوز ربيعها الخامس عشر، والتي هزّت كياني كلّه برسالتها تلك، حتى أني حِرت في أي موضع من المجلة أضعها، وفي أي موقع أنشرها، ولكني بعد تفكير طويل لم أجد سوى صفحتي، فهذا أقصى تكريم يمكنني تقديمه للفتاة الإسبانية المسلمة "يمان أيمن إدلبي" التي تدرس في إحدى المدارس المتوسطة في العاصمة الإسبانية مدريد، ففي إحدى المسابقات الدورية التي تقيمها وزارة التعليم في إسبانيا طُلب من طلاب المرحلة المتوسطة أن يكتبوا موضوعا تحت عنوان "من أنا؟" يتحدّث فيه كل منهم عن نفسه، وعن كيانه، وعن ماهيته، ومشاعره وأحاسيسه في المجتمع الذي يعيش فيه، وكتبت يمان قصتها التي عبرت فيها عن نفسها ومشاعرها وأحاسيسها، كفتاة مسلمة تعيش في المجتمع الإسباني، وتقدمت بها مثل غيرها من الطلاب المشاركين إلى وزارة التعليم في العاصمة الإسبانية مدريد، لكن المسؤولين حينما اطلعوا على قصة يمان رفضوا استلامها أو إدراجها ضمن المسابقة، وحينما سألتهم عن سبب الرفض أخبروها بأن مثل هذه الموضوعات سوف تثير مشكلات لا يحبون التعرض لها، فقالت لهم: أي مشكلات، وأنتم مجتمع يرعى الحرية، كما أني أعبر عن حقيقة نفسي ومشاعري، وهذا هو موضوع المسابقة الذي طلبتموه. إلا أن يمان عادت حزينة إلى بيتها بعدما أصروا على رفض موضوعها، ثم أرسلت لي رسالتها وقصتها التي أنشرها دون تعليق، تاركا لكل قارئ أن يشعر بما شعرتُ به بعد قراءة هذه الرسالة، وأن يضع وساما على صدر يمان تكريما لها، وعوضا عن رفض وزارة التربية الإسبانية استلام قصتها ومكافأتها على صدق مشاعرها، وأن يدعو لها ولكل مسلمة تعيش في هذه البلاد بالصبر والثبات.
بقلم يمان
بعض الناس ينظرون إلي وأنا أمضي في الشارع، بشفقة ورأفة، وبعضهم الآخر في احتقار وازدراء، إلا أن هناك من ينظر إلي وإلى كل فتاة مسلمة محجبة تسير بينهم بشيء من التعاطف والمشاركة الوجدانية، أولئك الذين ينظرون بشيء من الشفقة هم الذين يظنون أنني أُجبرت على وضع الحجاب، أما الذين تملأ نظراتِهم مشاعرُ الاحتقار فهم الذين يكرهون المسلمين وما أكثرهم هنا.
معظم أولئك الذين لا يؤمنون بالإسلام، يتحدّثون عن أشياء لا يعلمون حقائقها، ويروون حكايات عن المسلمين لا أساس لها من علم أو حقيقة، فأنا فتاة مسلمة كعشرات المسلمين والمسلمات الذين يعيشون في مدريد، لقد ولدت ونشأت وقضيت سنوات عمري الخمس عشرة في إسبانيا. وعندما كنت صغيرة، كان الناس يبدون لطفا شديدا في معاملتهم معي، ويوجد دائما استثناء، فبعضهم كانوا على غاية من الفظاظة في معاملتهم حتى مع طفل عمره سبعة أعوام، مادام ينتمي إلى أسرة غريبة. بعض جيراننا كانوا يعاملوننا وكأننا أهل وأقرباء، وعلى الرغم من ذلك فإنهم لم يقبلوا قط ديننا، ولا إسلامنا، كانوا ما يفتؤون يردّدون مازحين: "إياك أن تلبسي هذه الملابس الشنيعة التي ترتديها أمك"، وآخرون: "لا تكوني مغفلة.. وتصومي رمضان.. إن هذا شيء مريع!!
وعلى الرغم من أنني كنت طفلة ولم أكن في ذلك الوقت محجّبة، ولا أحمل أي صفات عرقية تميزني عن الإسبان في شيء، وعلى الرغم من أنني مولودة في إسبانيا، وأذهب إلى المدارس الإسبانية، فلقد كان زملائي في المدرسة لا يدعونني إلا (مورا) ولا يكفّون عن تقريعي بكوني مسلمة، شأن كل الأطفال، يعيّرون كل واحد بما يؤلمه، فهذا سمين، وهذا قبيح، وهذا كسول، وأنا (مورا) أي مسلمة.
لقد بذلتُ جهودا دائمة للانضمام إليهم، أو الاندماج في العالم الذي يعيشونه في إطار المدرسة، ولكن نيتي الحسنة لم تشفع لديهم لتقبّلي بينهم كفتاة عادية، لأن التزامي بأوامر الإسلام، كعدم أكل لحم الخنزير، وعدم المشاركة في احتفالات رأس السنة، والابتعاد عن المجموعات التي تمارس ألعابا غير بريئة، جعلهم لا يقبلون قط أن أكون فردا في تجمعهم المدرسي ذاك.
لقد اجتهدوا جميعا على الرغم من صغر سنهم في إبعادي، وإقصائي، وتعميق مشاعر الغربة والاختلاف عنهم. نشأت وكبرت.. وأخذت أرى الأمور بطريقة مختلفة، ولم يعد يهمني على الإطلاق قبول الإسبان أو رفضهم لوجودي، فمنهم من كان على غاية من اللطف، ولدي مجموعة لا بأس بها من الصديقات اللواتي يحدّ من نمو صداقتي معهنّ فقط التزامي بديني، وعلى الرغم من ذلك فقد حاول البعض منهنّ تفهم الأمر، واحترام الطريق الذي أسير فيه، وهن لا يتورعن عن سؤالي في هدوء ودون إلحاح عن سبب هذا الأمر أو ذاك، أو معنى هذا السلوك أو هذه العبارة أو تلك.
لم تعد لي أي رغبة في أن أكون جزءا من هذا المجتمع، بل لقد بدأت أبحث عن جذوري في رغبة وإصرار، إنني أريد أن أعرف كل شيء عن الإسلام. لقد صمّمتُ على وضع الحجاب، لأنني أصبحت على ثقة بأنه من الواجب علي وضعه، ولقد واجهني أبواي بداية بالرفض، لا لأنهما لا يريدان لي وضع الحجاب، ولكن لأنهما يريدان لي أن أضعه عن رضا واقتناع وفهم، لكي لا تكون خطواتي غير ثابتة في مجتمع يضيّق علينا جميع السبل.
لقد أردت أن أعود إلى الإسلام، وألتزم بديني، وقد فهمت حقيقة واضحة وهي أن هذا المجتمع الغربي الذي أعيش فيه، لا يمكن أن يقبلني، ولو ذبتُ فيه، وتعلّمت عاداته، والتزمت تقاليده، وحتى لو اعتنقت -لا قدر الله- دينه، ولو لبست ملابس القوم، وأكلت طعامهم، وشربت شرابهم، وحتى لو دخلت في جلودهم، وخرجت من جلدي، فلن أكون بالنسبة إليهم إلا مسلمة أو "مورا"، كما يحبّون أن يسمّوا كل مسلمة، فلماذا لا أكون مسلمة ملتزمة يكرهونها ويحترمونها، ولا أكون مسلمة منحرفة يكرهونها ويحتقرونها؟
أحيانا أشعر بالمرارة كلما خرجت إلى الشارع وواجهتُ نظرات الناس، ولكنني أعود إلى نفسي وأقول: لا ينبغي أن يحزنني ذلك، يجب أن أشعر بالفخر بما أنا عليه، فأنا واثقة من هذا الدرب الذي أسير فيه، ولا يهمّني أحد إلا الله.
إنني أشعر بالعزة والكرامة، بل بالسعادة المطلقة لأنني لبست الحجاب، كما أنني فخورة بكل مسلم يعيش في أوروبا ويحافظ على دينه وأصوله.
يمان إدلبي
مداد القلم