محمد السيد عبد الرازق
ليست الهمة المتعلقة بمعالي الأمور شعلة تضئ درب النجاح والتميز، بل هي همة لا تحدها الأرض باتساعها، ولا السماء بامتدادها، فهي ناطحة تزاحم السحاب في السماء بحثًا لها عن موضع قدم.
تمامًا كما كان ذلك القائد الداهية أبو مسلم الخراساني، الذي أسقط دولة بني أمية ووطَّد أركان الدولة العباسية، كانت له طموحات عظيمة تدفعه إليها همته العالية، حتى أنه عندما كان صغيرًا كانت أمه تراه يتقلب على فراشه فتقول له: (أي بني ما بك؟)، فيقول: (همة يا أمي تناطح الجبال) [وننبه هنا أنه رغم كون أبي مسلم كان سفَّاكًا للدماء، إلا أنه ما يعنينا هنا من سيرته هو علو همته].
ومعالي الأمور لا يقدر عليها إلا من رزقه الله علو الهمة، تلك الهمة التي يصفها الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيقول: (علو الهمة من الإيمان) [مرقاة المفاتيح شرح المفاتيح، (8/79)].
وها هو الجنيد رحمه الله يسير على خطى أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فيصف لنا طريق الفلاح في الدنيا والآخرة، ويجلي مراحله، ويرسم صورة القائد لهذا الطريق وتلك المراحل، فينصحنا قائلًا: (عليكم بحفظ الهمة؛ فإن حفظ الهمة مقدمة الأشياء)[حلية الأولياء، أبو نعيم، (4/380)].
شعلة لا تنطفئ:
بل إن الهمة في طلب معالي الأمور والترفع عن سفاسفها لهي الشعلة التي لا تنطفئ، فكما يقول ابن قتيبة: (ذو الهمة إن حطَّ فنفسه تأبى إلا علوًّا، كالشُّعلة من النار يصوِّبها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعًا)[عيون الأخبار، ابن قتيبة، (1/51)] فالهمة العالية والسعي في معالي الأمور هي القادرة على جعل طاقة الإنسان كتلك الشعلة، تأبى إلا أن تشرئب إلى عظائم الأمور، وتتشبث بكرام الأخلاق.
ليست كنزًا على الدوام:
كثير من المسلمين تقعد بهم هممهم ويقصـر طموحهم عن طلب معالي الأمور ومَثَلُهم في الحياة: (القناعة كنز لا يفنى)!
ومع اعتقادنا بأن الطمع والجشع خلقان ذميمان ولا شك، إلا أن علو الهمة في طلب الكمال وقوة العزيمة في تحقيق الأهداف من أهم أخلاق المؤمن الصادق، يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله:
(من أعمل فكره الصافي دله على طلب أشرف المقامات ونهاه عن الرضا بالنقص في كل حال، وقد قال أبو الطيب المتنبي:
ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا كنقص القادرين على التمام
فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه، فلو كان يُتصور للآدمي صعود السماوات لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض)[صيد الخاطر، ابن الجوزي، (1/51)].
علامات على الطريق:
ولكن لصاحب الهمة التواقة إلى معالي الأمور صفات وعلامات تُؤثَر عنه ويعرف بها، فتعالوا نتعرف عليها:
1.شعاره:
قول الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: ١٣٣]، فقد عرف أن دين الإسلام (لا يقبل من أتباعه الكسل والخمول، والعجز والسكون، والفتور والتأني، والاسترخاء وضعف الهمة) [هذه أخلاقنا حين نكون مسلمين حقًّا، محمد الخازندار، ص(130)].
فهو كما يصفه ابن القيم: (كلما سكنت نفسه من كلال السير ومواصلة الشد والرحيل، وعدها قرب التلاقي، وبرد العيش عند الوصول، فيحدث لها ذلك نشاطًا وفرحًا وهمة)[طريق الهجرتين ودار السعادتين، ابن القيم، (1/285)].
2.هواياته:
أن يتعب نفسه في نقل عظيم المقال، واكتساب كريم الخلال، والمسارعة في حميد الأفعال، فيصبح التعب لَهوُ هذه النفس وهوايتها المحببة، قدوته في ذلك زيد بن ثابت رضي الله عنه حين رشحه أبو بكر رضي الله عنه لجمع القرآن، فقام بأداء ما طلب منه، مع أنه قال: (فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به)[رواه البخاري]، وأدى ما عليه من غير توانٍ ولا كسل.
3. عدوه:
التأخير والتسويف، ولعل ذلك أشد ما آلم قلب كعب بن مالك رضي الله عنه لما فاته الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يحكي عن ذلك فيقول: (فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقضِ من جهازي شيئًا، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين... فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت...) [رواه البخاري].
فتأمل قوله (وليتني فعلت)، فهي كلمات من صاحب همة عالية، تقطر بالندم على فوات ذلك المشهد العظيم؛ نتيجة التسويف.
منارت الهمة العالية:
ولنا على مدار الزمان منارات تضئ الطريق لكل صاحب همة، فيقتفي أثرها ويسير على هديها، ويقتدي بها:
1. همة لا تبخل بالدارهم: إنها همة الصديق أبو بكر رضي الله عنه، يوم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بماله كله يوم العسرة، فيسأله سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟)، فأجابت همته قبل لسانه: (أبقيت لهم الله ورسوله) [حسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (3675)].
2. همة لا تعرف النوم: ولأن كان المرء على دين خليله، فها هي المنارة الثانية، بطلها خليل لبطل المنارة الأولى، إنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذو الهمة التي تأبى أن تدع النوم يعرف طريقًا إليها، فكثيرًا ما كان يُرى عليه أثر التعب والتثاؤب من قلة النوم، حتى يقال له: ألا تنام؟ فيقول: (إن نمت بالنهار ضيعت رعيتي، وإن نمت بالليل ضيعت حظي من ربي، فكيف بالنوم بين هذين؟!) [الزهد، الإمام أحمد، (2/172)].
3. همة طِبَّية: إنه محمد بن زكريا الرازي، تلك المنارة التي سبقت العلم الحديث في إنارة العلم بكشوفه ومؤلفاته، فكان باحثًا علميًّا، فهو أول مبتكر لخيوط الجراحة الطبية، كما كان معلمًا يدرس الكتب الطبية، ويلقي المحاضرات ويعلم الطلبة فيما يشبه كليات الطب الآن [الصناعة الطبية، سامي حمارنة، ص(303)].
ولم يكتفي الرازي بالتدريس والتعليم فقط، بل دوَّن ما توصل إليه في كتب عديدة، أحصاها ابن النديم في 113 كتابًا و28 رسالة، وهذا عدد هائل خاصة أنها جميعًا في مجال الطب.
هل من مشمر؟
وإليك ـ أخي الشاب ـ بعضًا من الواجبات العملية؛ من أجل الاستفادة من هذا الحديث الشريف، ومن أهم تلك الواجبات ما يلي:
1. اقرأ في سير أصحاب الهمم العالية، والطموحات الكبير، واجعل بجوارك قلمًا وورقة، واكتب أهم الأمور التي تحب أن تقتدي بهم فيها.
2. ضع لنفسك أهدافًا طموحة في دراستك أو عملك، كأن تحصل على نسبة 95% في امتحانات العام الحالي أن كنت طالبًا، أو أن تنجز المهام الموكلة إليك في عملك خلال الأسبوع القادم كلها بكفاءة عالية.
3. تمرين الهمة العالية:
أ. سجِّل أربعة أفعال يجب عليك اتخاذها، وكنت تؤجلها دائمًا من قبل كإنقاص الوزن، أوالمحافظة على صلاة الفجر، أوترك معصية كنت مصرًا عليها كالتدخين مثلًا، أوفعل شيء إيجابي كتعلم لغة جديدة مثلًا.
ب سجِّل تحت كل من هذه الأفعال الإجابة علي الأسئلةالآتية:
· لماذا لم تتخذ الإجراء المناسب من قبل بشكل فعال وسريع؟
· ما هو الألم الذي كنت تربطه في الماضي باتخاذ هذه الإجراءات؟
الإجابة علي هذه الأسئلة ستساعدكلتدرك بأن ما منعك من القيام بهذا الفعل هو أنك ربطت بينه وبين التعرض لألمأكبر إذا قمت بهذا الفعل.
ت. سجِّل المتع التي استمتعت بهافي الماضي نتيجة للانغماس في هذا الموقف السلبي.
· كنت أتمتع بأكل أي شيء كنت أتمناه.
· يصبح نومي متواصلًا فلا أقطعه بالقيام لصلاة الفجر.
· أشعر بهدوء أعصابي كلما تناولت سيجارة.
ث. سجِّل الثمن الذي سيكون عليك أن تدفعه إن لم تحدث هذه التغيرات الآن:
· سوف يتسبب الوزن الزائد في إصابتي بكثير من الأمراض.
· التدخين قد يؤدي لإصابتي بالسرطان.
· ترك صلاة الفجر سيكون سبب في غضب الله وعذابه لي يوم القيامة.
ج. سجِّل كل المتع التي ستنعم بها بعد قيامك بكل هذه الأفعال اعتبارًا من هذه اللحظة:
· أشعر بالراحة النفسية عندما أحقق ما كنت أسعى إليه.
أشعر بالقوة بامتلاكي للإرادة القوية.
وأخيرًا تأمل في خالد بن الوليد رضي الله عنه، الذي كان صاحب الهمة العالية، وظل يقاتل في سبيل الله عز وجل ولكن الله قدر له أن يموت على فراشه، فانظر إليه وهو يرثي نفسي فيقول:
(لقد شهدت مئة زحف أو زهاءها، وما في بدني موضع شبر، إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي، كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء).
المصادر:
· مرقاة المفاتيح شرح المفاتيح.
· حلية الأولياء، أبو نعيم.
· عيون الأخبار، ابن قتيبة.
· صيد الخاطر، ابن الجوزي.
· طريق الهجرتين ودار السعادتين، ابن القيم.
· طريق الهجرتين ودار السعادتين، ابن القيم.
· الصناعة الطبية، سامي حمارنة.
همة تناطح الجبال
- التفاصيل