أم عبد الرحمن محمد يوسف
قصة وعبرة
سارة فتاة جامعية في إحدى الكليات النظرية، وقد أقبلت أيام الامتحانات وطرقت الأبواب عليها، فتحفزت سارة للمذاكرة والمراجعة، وزادها نشاطًا ما سمعته في أحد الدروس من أهمية النجاح وصناعة الحياة، وأن المؤمن هو صاحب أثر على كل من حوله.
فحرصت سارة على الاستعداد لأيام الامتحانات والمذاكرة فيها، فاشترت أوراقًا وأقلامًا، وهيئت غرفتها ومكتبها، واشترت جميع الكتب التي ستحتاج إليها، ولم يفتها أن تشتري منبهًا ليعينها على الاستيقاظ فهي بحاجة شديدة إلى إنفاق الوقت في المذاكرة ... الخلاصة؛ هيئت سارة جميع الظروف من حولها للمذاكرة.
ولكن ... الذي حدث أن سارة لم تنفق من الوقت إلا أسبوع، ولم تبذل من المجهود إلا القليل، ثم جاء الملل والفتور، والكسل والخمول، واكتفت سارة بالقليل من المذاكرة، واليسير من التعب والكد، وكانت النتيجة ... مقبول!
تُرى لماذا تقاعست سارة؟! ألم تهيئ الظروف؟! ألم تستعد بالكتب والأقلام؟! ألم تعلم أن النجاح شيء جميل؟!
اقصدي البحر وخلي القنوات:
أخيتي ...
من مِن البشر لا يعلم أن النجاح شيء جميل؟! فكلنا يأمل أن يكون من الناجحين، ولكن تُرى كم هو عدد الناجحين؟!
مَن مِن الناس لا يريد الفردوس الأعلى؟! ولكن تُرى كم هو عدد من يدخلها؟!
مَن مِن المذنبين لا يبغي التوبة؟! ولكن كم منهم قد تاب؟!
كل الناس يطمح، ولكن ليس كلهم يصل إلى ما يطمح إليه، وكل الناس يطلب ولكن ليس كلهم ينال ما يطلبه، أتدرين لماذا؟!
إنها معادلة التميز والنجاح، التي من حققها فما دونها أيسر وأسهل، وأما من فقدها تباعد عنه النجاح مهما فعل؛ فسارة قد اهتمت بظاهر أسباب النجاح، ولكنها لم تهتم بالسبب الحقيقي للنجاح، لم تفتش بداخل نفسها عن معادلة النجاح والتميز.
وإليك عزيزتي معادلة التميز التي تنص على أن (همة تناطح السحاب + مثابرة وثبات = نجاحًا متميزًا)، فتعالي بنا يا صانعة الحياة نفند هذه المعادلة، وننظر في أطرافها، فكلنا يأمل أن يكون ذلك المؤمن الفعال.
أولًا ـ همة تناطح السحاب
علو الهمة هو (استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وطلب المراتب السامية، واستحقار ما يجود به الإنسان عند العطية، والاستخفاف بأوساط الأمور، وطلبُ الغايات) [تهذيب الأخلاق، الجاحظ، ص(28)].
وحينما ربَّى نبينا الصحابة الكرام ومن بعدهم من المؤمنين، كان يريدهم أن يسودوا العالم في كل المجالات، ويحوزوا السبق في كل الميادين، فأهاب بهم قائلًا صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفاسفها) [صححه الألباني]، فلا يمكن لأمة أن تصنع الحياة، وأن تسود العالم إلا إن كانت في المقدمة في كل شيء.
وإن سألتِ أخيتي: لماذا الهمة العالية سبب للنجاح؟ فاعلمي أن صاحب الهمة العالية ما يمر بطريق إلا ويترك أثره، ولا يصادق أحدًا إلا ويجود عليه من نجاحه، ولا يطلب إلا الأهداف الكبار، وحينما يخوض سباقًا فلا يرنو بصره إلا إلى السبق، فحينما تبلغ الهمم مبلغًا عظيمًا؛ لا يسعها حدود يسيرة، فتصبح الغايات ضخمة، والثقة بالنفس عظيمة، ويسهل أمامها كل هدف؛ لذلك قال الشاعر:
إذا كانت النفوس كبارًا      تعبت في مرادها الأجسام
(ولقد جرت سنة الله في خلقه ألا ينهض بالمقاصد الجليلة، ويرمي إلى الغايات البعيدة، غيرُ النفوس التي عظم حجمها، وكبرت هممها، فلم تتعلق إرادتها بسفاسف الآمال، ولا محقرات الأعمال) [الهمة العالية ... معوقاتها ومقوماتها، محمد بن إبراهيم الحمد، ص(109)].
ودائمًا وأبدًا (الأهداف السطحية تقود لنتائج سطحية ... فيجب دومًا الرمي نحو الأهداف العليا، والسعي وراء ما يحدث التغيير الملموس، بدل مجرد السعي في الطرق السهلة الآمنة) [أسرار القيادة، واس روبرت، ص(106)].
فالهمة العالية كالنفس اللوامة، لا تترك صاحبها في موطن ذل، فإذا يأس عنفته، وإذا أُحبط قومته؛ فهكذا (الهمة العالية لا تزال بصاحبها تضربه بسياط التأنيب واللوم، وتزجره عن مواقف الذل، وترفعه من درجات الحضيض، حتى يصل إلى أعلى مقامات المجد والسؤدد، ولاشك في أن هذا الخُلُق يورد صاحبه موارد التعب والعناء، ولكنه سبيل الوصول إلى معالي الأمور، فهو الدواء المر، الذي يستسيغه المريض لكي يبرأ من مرضه) [الهمة العالية، محمد بن إبراهيم الحمد، ص(107)].
وإن كانت القناعة بالقليل من الرزق شيء ممدوح، فالقناعة بالقليل من النجاح شيء مذموم، فطريقك إلى علو الهمة يا صانعة الحياة ألا ترضي أبدًا بالقليل من النجاح؛ (فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه، فلو كان يُتصور للآدمي صعود السماوات لرأيت من أقبح النقص رضاه بالأرض، ولو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد رأيت المقصر في تحصيلها في حضيض، غير إنه إذا لم يمكن ذلك فينبغي أن يُطلب الممكن، والسيرة الجميلة عند الحكماء خروج النفس إلى غاية كمالها، والممكن لها في العلم والعمل) [صيد الخاطر، ابن الجوزي، (2/224)]، و(من علامة كمال العقل علو الهمة، والراضي بالدون دني) [صيد الخاطر، ابن الجوزي، (1/39)].
ولقد عد الإمام الشوكاني رحمه الله علو الهمة شيئًا مركوزًا في فطرة الإنسان، فهي الأصل في كل إنسان ذي فطرة نقية، فـ(ينبغي لمن كان صادق الطبع، عالي الهمة، سامي الغريزة، ألَّا يرضى لنفسه بالدون، ولا يقنع بما دون الغاية، ولا يقعد عن الجد والاجتهاد المبلغين له إلى أعلا ما يُراد، وأرفع ما يُستفاد، فإن النفوس الأبية والهمم العلية لا ترضى بما دون الغاية في المطالب الدنيوية من جاه، أو مال، أو رئاسة، أو صناعة، أو حرف) [الهمة العالية، محمد بن إبراهيم الحمد، ص(111)].
وقف قائد الهمة، صاحب العزيمة والإرادة، القائد المنتصر، صلاح الدين الأيوبي يومًا على البحر قرب عكا وقال: (في نفسي أنه متى ما يسر الله تعالى فتح بقية الساحل، قسمت البلاد وأوصيت وودعت، وركبت هذا البحر جزائرهم أتتبعهم فيها، حتى لا أُبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت) [بين القيادة والعقيدة، محمود شيت الخطيب، ص(311)].
سهام دنو الهمة:
السهم الأول ـ البكاء على اللبن المسكوب: أن يتعلم الإنسان من أخطائه في الماضي فذلك شيء جميل، أما أن يعيش في تأنيب طويل على هذه الأخطاء، ويغرق في بحر الندم؛ فذلك يعطل وبشدة عن تحقيق الأهداف، لأنه يكسر في الإنسان إنسانيته، ويكسر في القلب همته، (فإن الندم على ما فات لا يحقق العلياء، بل يضيع الحاضر كما ضاع الماضي) [خالد الجريسي، ص(397)].
السهم الثاني ـ ضعف الإرادة: فكل ضعف يصيب الإنسان من غيره، ويناله من ظاهره، قريب شفاؤه يسير إزالته، أما إذا نبع الضعف من النفس، وانبثق من القلب؛ فهو الداء الدوي والموت الخفي؛ فكل مشكلة تهون إلا أن يصيب الإنسان اليأس والإحباط وضعف الإرادة.
ذلك أن الإرادة هي أصل الأشياء، (فجميع ملكات الإنسان وقواه تكون في سبات عميق حتى توقظها الإرادة؛ فمهارة الصانع، وقوة عقل المفكر، وذكاء العامل، وقوة العضلات، والشعور بالواجب، ومعرفة ما ينبغي وما لا ينبغي، كل هذه لا أثر لها في الحياة ما لم تدفعها قوة الإرادة، وكلها لا قيمة لها ما لم تحولها الإرادة إلى عمل) [الأخلاق، أحمد أمين، ص(69)].
السهم الثالث ـ عدم تقدير قيمة الوقت: (حيث أن الفرد الذي لا يدرك نفاسة الوقت لن يبالي بأن تكون أيامه مليئة بالكسل والخمول، فالوقت هو المادة الخام للإنسان؛ كالخشب في يد النجار والحديد في يد الحداد، فكلٌّ يستطيع أن يصوغ من وقته ـ بتوفيق الله ـ حياة طيبة بالجد وجلائل الأعمال، كما أنه يستطيع أن يصوغ من زمنه حياة سيئة، مليئة بالكسل، والخمول وسيء الأعمال) [الأخلاق، أحمد أمين، ص(236)].
السهم الرابع ـ التوسع في الراحة: سواء بكثرة الطعام والشراب، أو كثرة النوم؛ فذلك مما يورث الخمول والكسل، ويصيب الإنسان بالفتور؛ قال لقمان لابنه: (يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء) [الأدب النبوي، الخولي، ص(212)]، وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (من كثر نومه؛ لم يجد في عمره بركة) [الأدب النبوي، الخولي، ص(212)].
ثانيًا: المثابرة والثبات
طريق النجاح والتميز به شيئان؛ الأول: تحقيق الأهداف وتلك تتحقق بعلو الهمة، والشيء الثاني: التغلب على العوائق والعقبات؛ وتلك تتحقق بالمثابرة والثبات.
فـ(لا تجعلي أي شيء يثنيك أو يثبطك عن هدفك مهما وجدتيه معقدًا، بل يجب أن تتساءلي عن كيفية تخطي تلك العقبات والمشاكل، وإن البحث عن الحلول فور ظهور تلك العقبات دلالة على التفكير الإيجابي) [خالد الجريسي، إدارة الوقت من المنظور الإداري والإسلامي، ص(398)].
ولا يأتي هذا الصبر وهذا الثبات إلا حينما تعلمي (أن بلوغ أهدافك هي مسئوليتك الشخصية، ذلك لأننا مسئولون عن فشلنا وعن نجاحنا) [خالد الجريسي، ص(398)]، فـ(لاريب أن تحملك لمسئولية القيام بهدف أو مشروع ما له تبعاته من تحمل مسئولية الأخطاء وتخطي العقبات؛ لأننا عندما نختار فعل شيء ما نختار معه تبعاته ونتائجه) [خالد الجريسي، ص(399)].
وكما يقول المثل الأمريكي المشهور: إذا أمسكت بطرف العصا فهذا يعني تحملك مسئولية الطرف الآخر، فسالك طريق النجاح لابد وأن يعبر على أشواك الفشل، يقول واتسون مؤسس شركة الكمبيوتر المشهورة "آي بي إم": (النجاح يتأتى من جهة الفشل) [العادات السبع، ستيفن كوفي، ص(91)].
تعالي بنا أيتها الأخت العزيزة، لنقوم بجولة سريعة عبر الزمان، نطوف فيها بحياة الرئيس الأمريكي السابق أبراهام لنكولن؛ فهو قد حقق نجاحًا نعم، ولكنه مر على الكثير من أشواك الفشل، فصبر وثبت حتى بلغ النجاح بعدها.
1-  (عام 1831م فشل في عمله الخاص.
2- عام 1832م خسر في ترشيحه كعضو الهيئة التشريعية.
3- 1833م فشل ثانية في عمله.
4- عام 1836م أصيب بانهيار عصبي.
5- عام 1838م خسر في ترشيحه للكونجرس.
6- عام 1840م خسر في ترشيحه مرة أخرى.
7- عام 1843م خسر في ترشيحه لعضوية الكونجرس.
8- عام 1855م خسر في ترشيحه لعضوية مجلس الشيوخ.
9- عام 1856م خسر في ترشيحه كنائب لرئيس الجمهورية.
10- عام 1858م خسر في ترشيحه لعضوية مجلس الشيوخ.
11- عام 1860م انتُخِب رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية) [كل ما تستطيع عمله، آرثر ويليامز، ص(34)].
كان لهنري فورد صاحب مصنع فورد الشهير نظرة إيجابية تجاه الفشل، يُروى أن أحد مديري مصنعه نال ميزانية لمشروع ما قدرها 20 مليون دولارًا، لكن نتيجة عمل ذاك المدير كانت خسارة كامل المبلغ، قال المدير بكل أسى وحزن لفورد: (إنني أعتقد أن عملي قد انتهى في المصنع)، فأجابه فورد قائلًا: (لا! لا شيء من هذا)، ثم أضاف: (إننا صرفنا الكثير جدًّا لتثقيفك لدرجة أننا لا نحلم أبدًا أن نخسرك!)؛ فكان الملبغ الضائع في نظر فورد ما هو إلا تكلفة تثقيف هذا المدير [وقت النجاح، ماكنزي، ص(12)].
وقد أجرت أحد الشركات الاستشارية في نيويورك دراسة حول استراتيجية النجاح؛ جاء فيها: (النجاح عبارة عن رحلة ليس مجرد موضع ما نقصده، وإنه ليس مختصًّا ببعض الناس دون غيرهم، بل هو استراتيجية معيشية تستطيع من خلالها تخطي الفشل إلى النجاح) [كيف تكتشف الفرص، إلايما زوكر، ص(11)].
خير الختام:
وفي النهاية عزيزتي؛ يهدينا ابن القيم رحمه الله مفتاح السعادة في كتابه مفتاح دار السعادة، فقد أدرك الحاجة إلى همة وثابة تناطح السحاب، وتنال الثريا، فعبَّر ببلاغته وعبارته يرشدنا إلى هذه الحقيقة قائلًا: (فالمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يُعبر إليها إلا على جسر المشقة، فلا تُقطَع مسافتها إلا في سفينة الجد والاجتهاد) [مفتاح دار السعادة، ابن القيم، (1/109)].

 

أهم المراجع:
1.   الهمة العالية ... معوقاتها ومقوماتها، محمد بن إبراهيم الحمد.
2.   بين القيادة والعقيدة، محمود شيت الخطيب.
3.   أسرار القيادة، واس روبرت.
4.   مفتاح دار السعادة، ابن القيم.
5.   صيد الخاطر، ابن الجوزي.
6.   تهذيب الأخلاق، الجاحظ.
7.   الأدب النبوي، الخولي.
8.   الأخلاق، أحمد أمين.
9.   إدارة الوقت، ريتشارد وينوود.
10.   إدارة الوقت من المنظور الإسلامي والإداري، خالد الجريسي.
11.   العادات السبع، ستيفن كوفي.
12.   وقت النجاح، ماكنزي.
13.   الحفر، هوندا.
14.   كيف تكتشف الفرص، إلايما زوكر.

 

نقلا عن مفكرة الاسلام

JoomShaper