الدوحة – رشيد يلوح
حديث كتاب الطفل هو بالضرورة حديث المستقبل، وكأن الطفل وجود مستقبلي تم استعجال حضوره، لذلك عادة ما يتقاسم المحيطون بهذا الكائن البريء الشعور بالمسؤولية تجاهه، لذلك أوجدوا له عالمه الخاص، وداخل هذا العالم الصغير صغرت كل أشياء عالمنا الكبير، من هذا المنطلق يمكن فهم كتاب الطفل، أولا باعتباره تجسيدا لأفكار وتصورات معينة، وثانيا لأنه إحالة سريعة على المستقبل، بكل ما يحمله هذا المستقبل من تحديات مادية ومعنوية.
ولا بد أن القائمين على معرض الدوحة الدولي للكتاب استحضروا هذه المكانة المصيرية لكتاب الطفل عندما أفردوا له مجالا واسعا من فضاء المعرض، مما أتاح للأحباب أن يستمتعوا بكامل طاقة فضولهم، متنقلين بين اختيار واختيار، مما أضفى على المكان جمالية مفعمة بالبراءة.
هذا الواقع الفارق دفع «العرب» إلى القيام بجولة بين أروقة المعرض والالتقاء بناشرين ومهتمين ومتخصصين في مجال كتاب الطفل، تأليفا وترجمة ونشرا، فسجلت أولا اتفاق أغلب المستجوبين بالطبع على الاهتمام الذي أولاه معرض الدوحة لكتاب الطفل، وثانيا تشديدهم على ضرورة وأهمية كتاب الطفل لمستقبل المجتمع، بينما تباينت زاوية نظرهم إلى الأزمة التي تهدد مستقبل هذا الكتاب في العالم العربي، باختلاف مواقعهم ومجالات اشتغالهم.
بداية يرى الكاتب سامر جاموس أن معرض الدوحة للكتاب في دورته الـ20 أظهر نقلة نوعية بخصوص أدب وأنشطة الطفل الثقافية مقارنة بالعام الماضي، وأضاف جاموس المتخصص في الكتابة للطفل أن من الأفكار التي ميزت معرض هذا العام فكرة الكتاب البشري، «والجميل فيها أن الطفل هو متلقٍ وهو أيضا صاحب الفكرة، على خلاف مع اعتدنا عليه من أعمال يغلب عليها جانب التلقين والموعظة والتوجيه المباشر من قبل الكبار، فالطفل يكتب قصته ويتقمص الشخصية الرئيسية في القصة ويرويها لغيره من الأطفال»، ثم عبر المهندس جاموس عن سعادته بهذا المنجز الثقافي المتميز، وأكد «لكن سأكون أسعد لو اختفت من الرفوف كتب الأبراج والكتب التي تستخف بعقل القارئ، والتي للأسف الشديد ما زال لها جمهورها. ولكن الصورة ليست قاتمة، فالحمد لله شهد هذا العام عموما عددا من الأنشطة والأبحاث المتعلقة بالقراءة عموما وأدب الطفل خصوصا»، وفي هذا السياق نوه سامر جاموس بتجربة المركز الثقافي للطفولة، حيث قال: «شهدنا هذا العام نشاطا بارزا للمركز الثقافي للطفولة في قطر، وتدشين نادي الكتاب للأطفال بشعاره الجميل «تنزه معنا في عقول الناس»، وهو يوصل رسالة أن القراءة كالنزهة كلاهما متعة، وهي مقولة للمأمون حين سئل عن ألذ الأشياء فقال: التنزه في عقول الناس، يقصد القراءة، وأتمنى أن يكتب لهذا النادي التوفيق والنجاح»، وعن الجهود المبذولة في قطر لخدمة كتاب الطفل ذكر قصاص الطفولة سامر جاموس: «في قطر تم تدشين مشروع تنمية القراءة وهو مشروع طموح جدا يمتد عبر عدة سنوات، وفي مجال الدراسات أجريت العديد من الدراسات التطبيقية لأدب الطفل في عدد من الدول، خاصة الأردن ومصر ولبنان وسوريا وفلسطين. وهذه الدراسات رغم أنها أكدت وجود الفجوة الكبيرة بيننا وبين الغرب في مجال القراءة فإن إجراء هذه الدراسات التطبيقية والناقدة للأعمال الأدبية الصادرة في العالم العربي هو بادرة طيبة ومشجعة على إنتاج الأعمال الأدبية للطفولة، وبالكم والجودة العالية».
وبخصوص أهمية ومكانة أدب الطفل، صرح كاتب الأطفال سامر جاموس قائلا: «هو أدب في غاية الأهمية والخطورة، لأنه يبني شخصية الطفل وفهمه لنفسه وللعالم من حوله، فعندما تحتضن الأم طفلها وتروي له قصة، فهي تنمي عنده مهارات الاتصال بالآخرين وفهمهم، وكثير من المشاكل بين الآباء وأبنائهم يمكن معالجتها بقصة، وهذا يتطلب معرفة الطفل وعالمه»، ثم يسوق كاتب قصة «رانيا تصاحب الغيمة» مثالا من الغرب، قائلا: «في بولندا مثلا أنشأت جمعية اسمها (ليقرأ الوطن للطفل) وقامت بحملة كبيرة جدا في وسائل الإعلام والمدارس، وجلبت شخصيات مشهورة من أدباء وفنانين ورجال سياسة، وكان من أهداف الحملة قراءة 20 دقيقة للطفل في اليوم، وفي المدارس كان المدرسون يسألون تلاميذهم: هل قرأ لكم آباؤكم أمس في البيت؟ وهناك من يظن أن القراءة للطفل تكون فقط عندما يأتي لعالمنا، بينما يمكننا القراءة له وهو لا يزال جنينا في بطن أمه»..
وعن واقع كتاب الطفل في الوطن العربي يقول سامر جاموس: «إننا نعاني من مشكلتين حقيقيتين، وهما مشكلة الكم ومشكلة النوع، فمن ناحية الكم لو أخذنا دولة مثل الأردن على سبيل المثال، وهي دولة تنتج الكثير من الأعمال الموجهة للأطفال مقارنة بدول عربية أخرى، نجد مثلا أنه منذ عام 2000م إلى الآن نشر حوالي 158 كتابا فقط في أدب الطفل، ما بين قصة وشعر ومسرح ورواية، أي ما معدله 17.5 كتاب في السنة تقريبا (بحسب دائرة المكتبة الوطنية)، بينما يبلغ «نصيب الطفل الإنجليزي وحده من الكتب 3838 كتابا في السنة، أما من ناحية النوع فإن الدراسات التي أجريت في خمس دول عربية تبين أن الأعمال الموجهة للأطفال تتسم بالارتجال وأسلوب الموعظة، وتفتقد إلى الإبداع، كما أنها تتميز في معظمها بضعف من الناحية الفنية، ومع ذلك فأزعم أن الوضع في تحسن والناس تزداد إقبالا على الكتاب والقراءة والتنزه في عقول الآخرين».
وإلى حد ما تشاطر المترجمة منى هنينغ الكاتب سامر جاموس الرأي بخصوص واقع كتاب الطفل في العالم العربي، إذ تؤكد هذه الناشرة الأردنية المقيمة في السويد والتي بدأت تجربة النشر لطفل قبل 25 عاما، أنه ظهر أخيرا في العالم العربي الكثير من المؤسسات التي اختصت في النشر للطفل، بحيث ساهم في خروجها إلى المجتمع قانون العرض والطلب، وكذلك وعي الحكومات والمؤسسات بالكتابة للطفل. ثم أقرت صاحبة دار منى للنشر أنه «ليس هناك للأسف نقاد لكتاب الطفل في العالم العربي، نظرا لعدم وجود أي تخصص أكاديمي عربي في أدب الطفل»، لكن منى هنينغ تحمل الصحافة العربية جزءا من المسؤولية تجاه ما يجري في مجال كتاب الطفل، وهنا أشارت إلى إحدى التجارب المعينة بقولها: «قبل فترة أخذ كتاب عربي للطفل جائزة مالية كبيرة في معرض كتاب الشارقة، وللإشارة مبلغ الجائزة يفوق ما هو مخصص لجائزة البوكر، ولكن لم تعلق أي جريدة عربية على هذا الكتاب الفائز، مضمونا أو شكلا.. وفي هذا ظلم للكتاب نفسه.»..
وفي هذا السياق أضافت منى هنينغ أنه «في عالمنا العربي نحن في حاجة إلى دراسة ونقد واهتمام من الصحافة بكتاب الطفل.. بل ينقصنا النظر إلى أدب الطفل كجنس جمالي مستقل».. وتعليقا عن التجاوزات التي ترتكبها الكثير من دور النشر في مجال الكتابة للطفل، تتساءل منى هنينغ: «كيف يمكن لكاتب في فترة قصيرة لا تتجاوز 5 أو 6 سنوات أن يكتب مثلا 15 أو 30 قصة، بينما استريد لينغريد أكبر كاتبة عالمية في أدب الطفل عاشت 95 سنة، ولم تكتب سوى 110 كتب، أو الكاتبة بونيلا بيكستروم صاحبة كتاب (برهان) التي لا تكتب أكثر من كتاب أو كتابين في عام أو عامين، حقيقة هذا يدل على وجود شيء غير سليم.. من خلال تجربتي في مجال الترجمة للطفل العربي، مثلا كتاب من 30 صفحة قد يتطلب مني أربعة أشهر إلى عام من العمل المتواصل»..
أما مسألة اختيار كتاب الطفل فترجو الناشرة هنينغ: «أن يكون هناك وعي باختيار الكتاب، وألا يكون شراء كتب الأطفال مجرد ثقل يتم التخلص منه.. وإذا كانت الأم غير واعية بالأمر سيكون الأمر صعبا للغاية»..
هذا الرأي الأخير للسيدة منى هنينغ يوافقها عليه مصطفى محمد كامل وهو ممثل لمؤسسة البشائر من مصر، إذ يؤكد بدوره على أن اختيار كتاب الطفل مسألة هامة، ثم يتساءل: «هل سنترك الاختيار للطفل أم سنتدخل بتوجيهه؟»، ويضيف مصطفى كامل «حسب تجربتي لاحظت أن بعض الأطفال يختارون كتبا أو وسائل تعليمية أكبر منهم، وفي مثل هذه الحالات عادة ما نتدخل لتقديم النصح»..
وفي سؤال عن ظاهرة الترجمة التي طغت على كتب الطفل العربي، يقول ممثل مؤسسة البشائر: «ليست هناك خطورة من الترجمة للطفل، ولو كانت الترجمة عن الغرب، خاصة في المرحلة الأولى التي يتفق عليها الجميع، وإذا خضعت الترجمة لثقافتنا وخصوصياتنا فسيكون أفضل، خاصة بعض الكلمات والمصطلحات».
يلتقي يمان خوجة ممثل دار المنهل الأردنية المتخصصة في كتاب الطفل مع زميله مصطفى كامل، إذ صرح لـ «العرب» بأن كتاب الطفل المترجم «إخراجه ممتاز، رسومه ممتازة، أفكاره رائعة، لكن ثقافته مختلفة.. وهذا النوع من الكتب مهم للمكتبة العربية من أجل إطلاع الطفل على ثقافات أخرى، ولكن تحت إشراف المربين والآباء»، ثم أضاف يمان خوجة «هناك دور نشر كاملة للطفل قائمة على فكرة الكتاب المترجم، أما في مجال العلوم العامة فأنا من مؤيدي الكتاب المترجم بسبب الأسلوب البسيط والسهل الذي تقدم فيه المعلومات للطفل».
وحول دار المنهل المتخصصة في كتاب الطفل يقول يمان خوجة: «الحقيقة أن مؤسستنا متخصصة في كتب الطفل المنهجية وغير المنهجية بشكل عام، ونحن نعمل في هذا المجال منذ العام 1991م، وهناك تطور قوي وملحوظ في مجال الكتابة لدى مؤلفينا، ويعود هذا بشكل عام إلى اهتمامنا الكبير بالتخصص، أي أنه لا يمكن لمؤلف واحد (كما هي عليه الحال في كثير من دور النشر) أن يكتب في شتى المجالات، لذلك فإننا نعمل ومن باب أداء الرسالة التي نؤمن بها، وهي أن الأطفال أمانة في أعناقنا على استقطاب الكتاب في كل المجالات، حتى نعطي الموضوع الذي نريد الكتابة فيه حقه الكامل».
وعن أهمية كتاب الطفل ذكر ممثل دار المنهل أن كتاب الطفل ينبغي له أن يكون النواة والمؤسس لمكتبة عربية واعدة، «لأنك إن أعددت كتابا جيدا للطفل فأنت تبني أساسا متينا وقويا لجيل يمكن أن يكون محبا للكتاب والقراءة، وبالتالي يمكنه أن يرفع مستوى الكتاب العربي وكتاب الطفل خاصة»، وأضاف هذا المتخصص في كتاب الطفل «هناك تقدم في هذا المجال في السنوات الأخيرة، ولكن الموضوع بحاجة إلى دعم وتبني مؤسسات حكومية لكتاب الطفل حتى توفر الدعم المناسب للكاتب والكتاب، وهذا لا يتأتى إلا من خلال إدراك أهمية كتاب الطفل وتأثيره الحقيقي».
وبخصوص واقع الكتابة للطفل في الوطن العربي يتفق يمان خوجة مع باقي المستجوبين في هذا التحقيق، إذ يقر بوجود مشكلة حقيقة في هذا المجال، موضحا «على سبيل المثال أن أقل ميزانية في البيت العربي تكون دائما للكتاب إن وجد، وأقلها لكتاب الطفل، مع أن الحقيقة هي أن كتاب الطفل إن أنجز بالشكل المناسب والصحيح هو أهم من الكتاب العادي، إذن النظرة لحد الآن لم ترق إلى المستوى المطلوب، وإن كانت هناك استثناءات تشكل بدايات جيدة، وهذا يمكن أن يلاحظ من خلال المعارض العربية».
هذه الاستثناءات ربما هي المقصودة بكلام محمد هشام الحسن ممثل دار الجديد السورية، الذي قال فيه: «كتاب الطفل هو من أكثر الكتب إقبالا في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة، فالأهل يقدمون دائما أبناءهم على أي شيء آخر.. وفي العالم العربي هناك تفاوت بين الدول في التعامل مع كتاب الطفل، مثلا في دول الخليج هناك اهتمام بكتاب الطفل أكثر من الدول الأخرى»، بينما لم ينف محمد وجود أزمة كتاب الطفل العربي، الذي يعاني من هزالة المضمون، والضعف في التأليف والنقد، والإخراج الذي يركز على الصور والألوان، والسبب برأي محمد الحسن هو طغيان الهدف التجاري.
وختاما ذكر محمد أن الدار التي يمثلها في المعرض اتجهت نحو كتاب الطفل منذ حوالي خمس سنوات بعد تراجع الكتاب العادي، وأضاف أن الدار تختص في الكتب والوسائل الداعمة لتعليم الطفل وتنمية قدراته العقلية والذهنية.
ويعتقد محمد سليمان علي الذي اصطحب طفليه إلى معرض الكتاب أن الكتاب حق أساسي من حقوق الطفل، «يمكن تقديمه حتى عن أمور نظن أنها ضرورية لأطفالنا»، وعن حضور هذا الكتاب في معرض الدوحة الـ20 يقول محمد: «شعرت بسعادة كبيرة عندما رأيت هذا الحضور المتميز والجيد لكتاب الطفل في المعرض، وهذا عمل يستحق الذكر والشكر، خاصة أننا ألفنا من المسؤولين القطريين مثل هذه المبادرات الطيبة والمباركة التي يصعب أن تجد مثلها في بلد عربي آخر»، بينما علق هذا الأب على طبيعة كتب الطفل المعروضة قائلا: «بصراحة هناك كتب جيدة وممتازة تستحق الإشادة، بينما للأسف هناك بعض دور النشر التي للأسف يظهر من بضاعتها أنها تقدم الهم التجاري على الهم التربوي والتعليمي»، وختاما يوجه محمد دعوة إلى كافة المشتغلين بعالم كتاب الطفل، يقول فيها: «أقول للإخوة الكتاب والناشرين أن يستحضروا دائما أنهم يعملون في مجال حساس للغاية، لذلك ينبغي لهم أن يقدموا الأهداف الفاضلة والتربوية على غيرها، لأن أي خلل أو فساد في ما ينتجونه من كتب لا محالة سيتسرب إلى نفوس وعقول أبنائنا جميعا».
صحيفة العرب القطرية