في مقال نشِر في موقع «فيري ويل مايند»، تتعمق الكاتبة كيندرا تشيري في تصرفاتنا وأنماط التعلق التي تظهر في علاقاتنا بالأشخاص الآخرين، وتقدِم تفسيرًا لها عن طريق التأمل في تجاربنا الأولى منذ كنا أطفالًا.
ما هو التعلق وكيف نفهمه؟
بحسب كيندرا، تتسم أساليب التعلق بأنها طرق التصرف والتفاعل المختلفة في العلاقات. في مرحلة الطفولة المبكرة، تتمحور هذه الأساليب حول علاقة الوالدين بأطفالهم، أما في مرحلة البلوغ فعادةً ما تستخدم في وصف أنماط التعلق في العلاقات العاطفية. وانبثق مفهوم «أساليب التعلق» من نظرية التعلق، والأبحاث التي ظهرت خلال فترتي الستينيات والسبعينيات.
واليوم يسلِم علماء النفس بوجود أربعة أساليب تعلق رئيسية، لكن قبل أن نستعرضها، دعونا أولًا نتعرف على مفهوم «التعلق» حسبما أوضحته الكاتبة.


تشرح كيندرا أن التعلق هو نوع خاص من العلاقات الوجدانية، ينطوي على عملية تبادل لمشاعر الراحة والاهتمام والسعادة. وكانت نظريات العالم النفسي سيجموند فرويد عن الحب هي الشرارة الأولى التي انطلقت منها الأبحاث اللاحقة عن التعلق، بيد أنه عادةً ما ينسب الفضل لباحث آخر بوصفه الأب لـ«نظرية التعلق»، وهو جون بولبي.
إذ كرس بولبي جهده لإجراء دراسات مستفيضة عن مفهوم التعلق، واصفًا إياه بكونه «رابطًا نفسيًا دائمًا بين البشر». وانطوى تحليله النفسي على أن تجارب الطفولة الأولى ذات تأثير مهم على سلوك الإنسان وتطوره لاحقًا في الحياة. فأساليب التعلق المبكرة الخاصة بنا تتأسس في مرحلة الطفولة من خلال العلاقة القائمة بين الطفل والقائمين على رعايته.
وعلاوةً على ذلك، كان بولبي يعتقد بأن التعلق ينطوي على سمة تطورية، فهو يساهم في عملية البقاء على قيد الحياة. واستفاض في شرح ذلك فقال: «النزعة لخلق روابط عاطفية قوية مع أفراد بعينهم هي مكون أساسي للطبيعة الإنسانية».
خصائص تميز التعلق
بحسب التقرير، اعتقد بولبي بوجود أربع خصائص مميزة للتعلق.
أول هذه الخصائص «الحفاظ على القرب»، ويعبر هذا المصطلح عن الرغبة في أن نكون قريبين ممن نتعلق بهم. وثاني هذه الخصائص هو اعتبار من نتعلق به «ملاذًا آمنًا»، أي العودة إليه كلما واجهنا تهديدًا أو شعرنا بالخوف. والخاصية الثالثة هي اعتباره «قاعدةً آمنة»، أي أن يمثل الشخص المتعلق به قاعدة الأمان للطفل، التي يستطيع من خلالها اكتشاف البيئة المحيطة به. وآخرها «ألم الفراق»، أي شعورنا بالضيق عندما ننفصل عمن نتعلق به.
قدم بولبي إلى جانب ذلك ثلاثة افتراضات تخص نظرية التعلق. أشار في أولها إلى أن الأطفال الذين نشأوا ولديهم ثقة في أن عائلهم الرئيسي سيكون متاحًا لهم، يصبحون أقل عرضةً للشعور بالخوف من نظرائهم ممن نشأوا دون ذلك اليقين.
وجادل في ثاني هذه الافتراضات بأن الثقة بالنفس تتشكل في مرحلة حاسمة من مراحل النمو، في سنوات الطفولة الأولى وسنوات المراهقة، وأن التوقعات التي تتكون في تلك المرحلة لا تتغير لاحقًا، بل تلازم الإنسان لبقية حياته.
وفي آخر افتراضاته، أشار بولبي إلى أن هذه التوقعات التي تتشكل في تلك السنوات ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالتجارب الحياتية. بمعنى أن الأطفال يتوقعون تلبية ذويهم لاحتياجاتهم لأنهم اختبروا ذلك من قبل.
تقييم اينسورث للوضع الغريب
أشارت كيندرا إلى جهود عالمة النفس ماري اينسورث في شرح عمل بولبي الريادي في منتصف السبعينيات، في دراسة بعنوان «وضع غريب» ذاع صيتها مؤخرًا. اشتملت هذه الدراسة على رصد لردود أفعال أطفال تتراوح أعمارهم بين الثانية عشر والثامنة عشر شهرًا، ترِكوا وحدهم لفترة قصيرة قبل أن يجمع شملهم مع أمهاتهم.
اتبعت ماري في تقييمها تسلسلًا رئيسيًا قوامه النقاط التالية:
في البداية يترك ولي الأمر مع طفله في إحدى الغرف، ثم يبدأ الطفل في استكشاف الغرفة تحت إشراف ولي أمره. يدخل شخص غريب إلى الغرفة يتحدث مع الأب أو الأم، ثم يقترب من الطفل، وفي تلك الأثناء يخرج ولي الأمر سريعًا من الغرفة. وأخيرًا يعود ولي الأمر إلى الغرفة ويواسي طفله.
استنتجت اينسورث، استنادًا إلى هذه الملاحظات، أن هناك ثلاثة أنماط أساسية للتعلق، وهي «التعلق الآمن»، و«التعلق المتردد غير الآمن»، و«التعلق الاجتنابي المتزعزع». وأضافت الباحثتان ماري ماين وجوديث سولومون نمطًا رابعًا لهذه الأنماط الثلاثة، يعرف باسم «التعلق الفوضوي غير الآمن».
ودعمت دراسات عدة استنتاجات اينسورث، وبينت أبحاث أخرى أن بإمكان هذه الأنماط المبكرة للتعلق أن تتنبأ بسلوك الناس في وقت لاحق من حياتهم.
حياتك مسؤوليتك.. مشاعرك مسؤوليتهم
تنصح كيندرا بأنه قبل أن تلوم والديك على إخفاقاتك العاطفية، لاحِظ أن أنماط التعلق التي نكونها في مرحلة مبكرة من الطفولة لا تتطابق بالضرورة مع أنماط التعلق في العلاقات العاطفية للبالغين، لأن وقتًا طويلًا يفصل بين مرحلتي الطفولة والنضج، وعليه، تضطلع كثير من التجارب الحياتية الفاصلة بدور كبير في تشكيل أنماط التعلق لدى البالغين.
وهؤلاء ممن وصِفوا بالتردد أو بأنهم شخصيات اجتنابية في مرحلة الطفولة يمكن أن يختبروا «التعلق الآمن» كبالغين، في حين أن هؤلاء ممن يرتبطون بمن حولهم بنمط «التعلق الآمن» في طفولتهم قد يبدون أنماطًا من التعلق غير الآمن في مرحلة النضج. ويعتقد أن طباع الإنسان الشخصية تلعب دورًا جزئيًا في نمط التعلق الذي يكونه.
أما عن الدور الذي تلعبه عوامل كالطلاق وخلافات الوالدين في تكوين أنماط التعلق، فتشير كيندرا إلى عمل الباحثين هازان وشايفر. ففي دراسة أجرياها اكتشفا أن طلاق الوالدين لا علاقة له بنمط التعلق الذي يكونه الأبناء، لكن أوضحت دراستهما أن المؤشر الأفضل لنوع التعلق الذي يكونه البالغون هو تصوراتهم عن جودة علاقاتهم مع والديهم، وكذلك جودة علاقة والديهم ببعضهم.
غير أن أبحاثًا أخرى في نفس المجال تشير إلى أن الأنماط التي تتأسس في طفولتنا لها تأثير واسع المدى على علاقاتنا اللاحقة. ووجد هازان وشايفر أيضًا أن البالغين الذين يكونون أنماطًا مختلفة من التعلق لديهم قناعات متباينة حول مفهوم العلاقات.
فنجد أن من تقوم علاقاتهم على نمط «التعلق الآمن» يميلون إلى الإيمان بدوام الحب الرومانسي، أما البالغون من أصحاب «التعلق المتزعزع» فغالبًا ما يقعون في الحب، وأصحاب «التعلق الاجتنابي» يصفون الحب بأنه نادر ومؤقت.
وصحيح أننا لا يمكننا الجزم بأن أنماط التعلق المبكرة تطابق أنماط التعلق العاطفي لدى البالغين، لكن تشير كيندرا إلى أن الأبحاث قد بينت أن تلك الأنماط قد تتنبأ بتصرفاتنا المستقبلية.
سمات التعلق الآمن
بحسب كيندرا، تظهر علامات الغضب والاستياء بصورة واضحة في الأطفال الذين كونوا تعلقًا آمنًا حين يغادر ذووهم، ويشعرون بالسعادة حين يعودون. وعندما يشعر هؤلاء الأطفال بالخوف، نجدهم يلتمسون السلوى من الوالدين أو من القائمين على رعايتهم.
وتلقى مبادرة الوالدين بالتواصل قبولًا فوريًا لدى الأطفال الذين يكونون هذا النوع من التعلق، ويبدون سلوكًا إيجابيًا لدى عودة والديهم إلى المنزل. صحيح أن أناسًا آخرين قد يطمئنونهم بدرجة ما في حال غاب والداهم أو القائمون على رعايتهم، إلا أن تفضيلهم لوالديهم عن الغرباء لا شك فيه، لأن آباء وأمهات هذا النوع من الأطفال يميلون إلى مشاركتهم اللعب، بالإضافة لاستجابتهم السريعة لاحتياجات أبنائهم، وهم بشكل عام أكثر تجاوبًا مع أطفالهم من ذوي الأطفال أصحاب التعلق المتزعزع.
وأوضحت الدراسات أن الأطفال ذوي التعلق الآمن يتسمون بالتعاطف خلال المراحل اللاحقة من طفولتهم. ويوصف هؤلاء الأطفال عادةً بأنهم أقل اضطرابًا وعدوانية، وأكثر نضجًا من الأطفال الذين كونوا تعلقًا مترددًا أو تعلقًا اجتنابيًا.
وتوضح كيندرا أنه لا ضير في التعلق الآمن الذي يظهره الأطفال تجاه ذويهم، فهو عادي ومتوقع، إلا أن هازان وشايفر أشارا إلى أن هذا لا يحدث في كل الحالات. إذ تتدخل عوامل أخرى كثيرة في تطور التعلق الآمن أو عدمه، ولعل أهم هذه العوامل هو مدى تجاوب الأم مع احتياجات طفلها خلال عامه الأول.
فالأمهات اللاتي يتدخلن باستمرار في نشاطات أطفالهن ولا يستجبن لاحتياجاتهن بانتظام يربين أطفالًا قليلي الاستكشاف، كثيري البكاء، يعانون قدرًا أكبر من التوتر. أما الأمهات اللاتي ينبذن أو يتجاهلن احتياجات أطفالهن يربين أطفالًا يتفادون ويتجنبون التواصل.
وحين يكبر هؤلاء الأطفال أصحاب «التعلق الآمن»، سيتمكنون من تكوين علاقات مستمرة تقوم على الثقة المتبادلة، وسيحترمون ذواتهم ويعتدون بها، ولن يجدوا صعوبةً في مشاركة مشاعرهم مع شركائهم وأصدقائهم، وسيلتمسون الدعم الاجتماعي.
فبحسب التقرير، وجد الباحثون في إحدى الدراسات أن النساء اللاتي كون تعلقًا آمنًا في مرحلة الطفولة صارت لديهن مشاعر إيجابية حيال علاقاتهن العاطفية في مرحلة البلوغ تفوق نظيراتهن ممن كون تعلقًا غير آمن. وفي إحدى دراسات هازان وشافر الكلاسيكية، صنف 65% من الناس أنفسهم باعتبارهم متعلقين آمنين، و25% اجتنابيين، و19% مترددين.
خصائص التعلق المتردد
وفقًا لكيندرا، يرتاب هذا النوع من الأطفال من الغرباء إلى حد كبير، ويشعرون بدرجة هائلة من الأسى عندما ينفصلون عن والديهم أو أحد القائمين على رعايتهم، ومع ذلك لا تطمئنهم أو تواسيهم عودة ذويهم. وفي بعض الحالات قد ينبذ الطفل والديه أو يتعامل مع طمأنتهم له بشكل سلبي، بل وقد يظهر صراحةً عِدائيةً مباشرة تجاههم.
ووفقًا للباحثين كاسيدي وبرلين، هذا النوع من التعلق غير شائع نسبيًا، وتتراوح نسبته من 7% إلى 15% من مجمل الأطفال في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي مراجعة للدراسات حول التعلق الاجتنابي، وجد كل من كاسيدي وبرلين أن الأبحاث القائمة على الملاحظة دائمًا ما تربط بين التعلق المتردد غير الآمن وقلة وجود الأم. ومع تقدم هذا النوع من الأطفال في العمر، غالبًا ما يصفهم مدرسوهم بأنهم اعتماديون وشديدو التعلق.
وعندما يبلغ هؤلاء الأطفال سن الرشد، يترددون في التقرب من الآخرين، ويخشون ألا يبادلهم شركاؤهم نفس المشاعر التي يشعرون بها تجاههم، ويؤدي ذلك إلى انفصالهم بشكل مستمر عمن يحبون، إذ تتسم علاقاتهم بالعزلة وبرودة المشاعر.
يشعر هؤلاء الأشخاص على وجه الخصوص باضطراب شديد عقب انتهاء إحدى علاقاتهِم العاطفية. ووصف كاسيدي وبرلين نمطًا مرضيًا آخر، يميل فيه أصحاب هذا النوع من التعلق إلى الوجود حول الأطفال كمصدر للأمان.
خصائص التعلق الاجتنابي
بحسب كيندرا، يميل الأطفال الذين يكوِنون تعلقًا اجتنابيًا إلى تجنب الوالدين أو القائمين على رعايتهم. قد يبرز هذا التحاشي بشكل خاص بعد فترة من غياب الوالدين أو أحدهما. قد لا ينبذ هؤلاء الأطفال اهتمام والديهم، هم فقط لا يتلمسون المواساة منهم أو يرغبون في التواصل معهم. ولا يظهِر هؤلاء الأطفال تفضيلًا لوالديهم عن الغرباء، فهم سواء بالنسبة إليهم.
ويعاني هذا النوع الافتقار للحميمية وصعوبةً في خلق علاقات عاطفية وثيقة، فهم لا يولون العاطفة اهتمامًا كبيرًا في علاقاتهم، بل ولا يضيقون كثيرًا بانتهاء إحدى علاقاتهم.
ويتفادى هؤلاء الأشخاص الحميمية عن طريق اختلاق الأعذار، كساعات العمل الطويلة، بل وقد يتخيلون أشخاصًا آخرين أثناء ممارسة الحب مع شركائهم. ومن أكثر خصائصهم شيوعًا هو إخفاقهم في مساندة شركائهم في أوقاتهم العصيبة، وعجزهم عن مشاركة مشاعرهم وأفكارهم وعواطفهم معهم.
خصائص التعلق الفوضوي
يوضح التقرير أن الأطفال الذين يكونون تعلقًا فوضويًا غير آمن لا تظهر عليهم مظاهر واضحة لهذا التعلق؛ فتصرفاتهم واستجاباتهم لذويهم متباينة، تتراوح بين التجنب والممانعة. يتصرف هؤلاء الأطفال وكأنهم مصابون بالدوار أو كأنهم في حالة من الهذيان، وقد يبدو عليهم أحيانًًا القلق والارتباك في حضرة ذويهم.
ويرجِع الباحثان ماين وسولومون هذا السلوك إلى تصرفات الوالدين المتناقضة، التي قد تكون عاملًا مساهمًا في خلق هذا النمط من التعلق لديهم. ويرى كل من ماين وهِسه أن الآباء والأمهات الذين يتجسد في شخوصِهم الخوف والطمأنينة في الوقت نفسه بالنسبة للطفل، يساهمون في خلق نمط من التعلق الفوضوي لديه. فعندما يشعر الطفل بالخوف والاطمئنان إلى ذويه في آن واحد، ينتج عن ذلك الخلط والالتباس.
وتختتم الكاتبة مقالها بالتأكيد على دور تجاربنا الحياتية المبكرة في تكوين شخصياتنا، والتأثير على مسارنا المستقبلي في الحياة فتقول: «عندما تفهم دور التعلق بصورة أكبر، يمكنك تقدير الدور الذي تلعبه أنماط التعلق المبكرة في حياة الناس، وما يمكن أن تحدثه من تأثير على علاقاتهم الشخصية».

JoomShaper