عبدالله الكديوي
قد يستغرب الواحد ممن يقرأ هذا المنشور، ويقول: كيف له أن يتذكر هذه التفاصيل التي مر عليها عقدان من الزمن؟ أجيبك أولًا، ثم أقص عليك قصتي:
كان هذا اليوم بالنسبة لي يومًا مميزًا؛ فقد تعرفتُ على بيئة جديدة، وحظيتُ بتشجيعٍ هو ما جعل هذه الذكرى تبقى راسخة، ولا ريب في أن التشجيع والتحفيز له دور هام في تربية الطفل والدفع به نحو القمم.
بعد أن أجبتك عن الإشكال الذي قد يتبادر إلى ذهنك أقول لك قاصًّا عليك الذي حدث:

ان عمِّي العربي الكديوي قد وعدني منذ أمس أنه سيصطحبني إلى المدرسة لكي يسجلني، فقد كان عمري ست سنوات أو أشرفتُ عليها، فبِتُّ وأنا طائش بالفرح، مغمور بالسعادة، أنتظر الصباح الذي لا يريد أن يصل، أشرقت الشمس بنورها معلنة بداية يوم جديد، يوم حافل بالسرور، تناولت وجبة الفطور، وارتديت لباسي الجميل، ثم جلست أنتظر عمي متى يأتي، تمر الدقائق مرور الساعات، وفجأة يُطرق الباب، فأسرعت نحوه فإذا عمِّي قد جاء، عانقته بشدة كما عانقني، وسألته: عمِّي، هل سنذهب للمدرسة؟
أجابني: نعم، سنذهب.
لا يمكن أن أترجم لكم السرور الذي غمرني.
دخل إلى البيت وغيَّر ملابس عمله ثم انطلقنا، لم تكن المدرسة الابتدائية تبعد عنا إلا دقائق معدودة أظنها خمسًا لا أكثر، دخلنا المدرسة، وبدأت أجول بعيني أنظر هنا وهناك، باب المدرسة الصغير ذو اللون الرمادي، والأزهار المغروسة عن يميني وشمالي مغطية المكان، ثم تقدمنا قليلًا، فبدت لي الساحة التي يلعب فيها التلاميذ وقت الاستراحة، كانت الاستراحة قريبة جدًّا من الإدارة حيث مكتب المدير.
لا بد أن أذكركم هنا أني في صغري كنت مقدامًا وجريئًا، وهذا ما ساعدني في مواقف كثيرة أحكي لكم عن بعضها في تدوينة ما، الذي حدث أننا ذهبنا إلى السيد المدير، طرقنا الباب ثم دخلنا:
عمي: السلام عليكم.
المدير: وعليكم السلام.
سلم عمي على المدير وسلمت أنا أيضًا، ثم دخلت في دوامة من الانبهار بما رأيت في قاعة المدير، مكتبه الرائع الذي كان ممتلئًا بالأوراق وبأنواع من الأقلام وبغيرها مما لا أذكره، فجأة رأيت شيئًا لم أستطع معرفته،
فسألت عمي: ما هذه الكرة المعلقة؟
أجابني: هذه هي الكرة الأرضية.
بدا لي وكأن عمي يمزح معي، فكيف لي أن أقف على قدمي ولا أسقط، إن كانت هذه التي رأيتها هي الكرة الأرضية؟ ثم كيف للشارع أن يكون مبسوطًا والكرة الأرضية على هذا الشكل؟ لم أستطع استيعاب ذلك.
أدرت رأسي إلى جهة أخرى، فبدا لي شيء آخر لم أره في حياتي، فقلت ببراءة مرة أخرى:
عمِّي عمِّي، ما هذا الشيء الذي وُضع فوق الخزانة؟
أجابني: تلك ميداليات يحصل عليها فريق الكرة الذي استطاع أن يفوز، أو المتسابق الذي حصل على المرتبة الأولى في سباق العَدْوِ.
كانت هذه الإجابة شافية عكس الإجابة الأولى.
أذكر أنني سألت عن شيء آخر وشيء آخر، حتى ظنَّ عمِّي أنني أزعجت المدير، لكن المدير قال كلمته التشجيعية: "هذه هي الحالة الطبيعية، والحالة التي يجب أن تكون، على الطفل أن يسأل ويسأل ويسأل"، فرحت عندما سمعت هذا، وبدأت أسأل وأسأل وأسأل.
وأختم لكم اليوم بطرفة حول السؤال:
ذهبتُ أنا وعمِّي ذات يوم للمسجد لأداء صلاة الجمعة، وجلسنا بمكان حيث لا يظهر لنا الإمام، بعد قليل دخل الإمام وأذن المؤذن، ثم بدأ الخطيب يخطب، فسمعت صوته يأتي من شيء قد علق بالحائط بالقرب منا، فسألت عمي عن مصدر الصوت وأني لا أرى غير هذا الصندوق يتكلم، فابتسم عمي، وبعد أن خرجنا شرح لي الأمر على التمام.. أرجو ألَّا يخبرني أحد منكم أنه لم يقع في هذا الفخ مع المذياع أو التلفاز أو مكبر الصوت مثلي..
ثم انقضتْ تلك السنون وأهلُها *** فكأنها وكأنهم أحـــلامُ
أقول أخيرًا: اسألوا واسألوا واسألوا، وأجيبوا عن سؤالات إخوانكم وأبنائكم؛ لأنها تبني شخصيتهم وتغني معرفتهم.

JoomShaper