نجيب كيالي
بعد المادة الأولية يذهب الكاتب إلى الخطوة الثانية
قد تكون الشخصية أقوى عناصر القصة تأثيراً في الطفل، فهي صانعةُ الحدث والتشويق، بطلةُ الصراع، مثيرةٌ بحركاتها، وظلالها، ولباسها، وكلامها. إنها واجهةُ القصة الحية، ومن خلالها تتراءى الأفكار، ويظهر الهدف.
مصادر شخصيات القصة الطفلية
لا توجد في الحياة من حولنا شخصيات جاهزة لقصص الأطفال يقبض عليها الكاتب، ويسوّقها بمنتهى السهولة إلى ورقة الكتابة. ربما يجد الكتَّابُ أحياناً شخصياتٍ شبه جاهزة لقصص الكبار. الشخصية التي ستدخل إلى قصة الطفل تحتاج إلى إضافات كبيرة من الخيال والحيوية والمرح، فهي دوماً تنتظر عمل الكاتب. لهذا فأغلب ما يجده الكتَّاب شظايا شخصيات، أو شخصيات ناقصة بنسبة النصف أو أكثر من النصف، وهذا كلُّه يمكن أن نسميه: مادة أولية للشخصية. هذه المادة الأولية يحصل عليها الكاتب من الواقع، فهو زاخر، تتحرك فيه نماذج شتى: صيادون، أبطال رياضة، رجال فضاء، أطفال، آباء، أمهات، عاملون في السيرك أو في المهن المختلفة، وقد يستمدها من ثقافته: فرسان من الماضي، سحرة، حكماء، شهداء من أجل الحق، مغامرون كـ«الشاطر حسن، سندباد، علاء الدين»، ظرفاء كـ«جحا».
وقد يلجأ الكاتب إلى عالم الطبيعة، فيختار منه كائنات، يقوم بأنسنتها: أرانب، نمور، فراشات، حمائم، أزهار، أنهار، غيوم.
تكوين الشخصية في ذات الكاتب
بعد أن تتوافر للكاتب المادة الأولية لشخصياته يجد نفسه على مشارف الخطوة الثانية، وهي بناؤها بناء فنياً، أو إكمال ما فيها من نقص لتكون مؤَهَّلةً لأداء دورها في القصة، والشخصيات الناجحة التي نجدها في طائفة من قصص الأطفال هي حصيلة عمل مركَّب دقيق يتم في المعمل الإبداعي للكاتب، حيث تجرى عدة عمليات واعية ولا واعية تسير وفق الآلية الموضَّحة في الجدول الآتي:
إدخالات من العالم الخارجي «صهر في معمل الكاتب» شخصيات فنية جديدة
تتم الإدخالات من العالم الخارجي من دون أن يشعر بها الكاتب أحياناً، فتشكِّل في داخله تراكماتٍ بدائية، يعمل فيها لا وعيه، ثم لا يلبث الكاتب أن ينتبه إلى ما يجري في أعماقه، فيشترك بوعيه في عملية التكوين، أو (الصهر الإبداعي).
بعض الكتَّاب يستكثرون كلمة: (صهر)، بما تحمله من دلالة واضحة على إعادة تكوين الشخصية في ذات الكاتب، وقد يوافقون عليها موافقة شكلية، إلا أنهم في تجاربهم مع الشخصيات التي يختارونها يجرون لها إمَّا تعديلاتٍ طفيفةً من قبيل: «القصقصة واللصق»، وإمَّا تزويقاً خارجياً من قبيل: «التلاعبات المكياجية»، وهؤلاء يفوتهم الانتباه إلى أنَّ الشخصية في صميمها مادة حية، وإدخال التغييرات إليها لا ينجح إلا إذا طال بنيتَها العميقة، فهو يشبه مسألةَ الصهر كما أشرتُ، أو يشبه عمليةَ التعديل الجيني في النبات، فلا بد من أن يُراعى في الجين الوافد ملاءمته لمجمل الجينات الأساسية في النبتة المراد تعديلها، مع قدرته على تحسين مواصفاتها.
والمأمول في المحصلة أن تكونَ الشخصية متوازنةً، فاعلة، صالحة حقاً للقصة التي ستتحرك في عالمها.
رسم الشخصية على الورق
مثلما يمسك الرسامُ الريشة ويضع خطوطَ شخصياته على لوحة الرسم، ويعاود النظرَ إليها ليتأكدَ من دقة عمله، كذلك يلتقط القاصُّ القلم، ويرسم بالكلمات ملامحَ شخصياته على الورق، وبعد أن يقوم بذلك يتأكد من صحة عمله أكثرَ من مرة.
يهتم قاصّ الأطفال بتحديد الأبعاد الخارجية والداخلية للشخصيات، ولكنْ من غير إسهاب، وللصفات الخارجية أثرها في الصغار، فالحمامة البيضاء مثلاً ذاتُ الجناح المكسور المغطى ببقعة من الدم تظفر بتعاطفهم أكثر من (حمامة مكسورة الجناح) أي لم يُشر الكاتب إلى لونها وإلى بقعة الدم التي لحقتها، ويستجيب الصغار أيضاً للصفات الداخلية، فالفارسُ الأزرق المملوءُ بحب الحيوانات المائية، المدافعُ عنها بنُبل ضد التجار ولصوص البحر يستأثر بلهفتهم ومحبتهم، وتتم عملية رسم الشخصيات عادة بأحد الأسلوبين التاليين:
أولاً- أسلوب التحليل: وفيه يقوم الكاتب بوصف الشخصية، ورسم حالاتها النفسية في المواقف المختلفة، ليفهم الأطفالُ الأفعالَ التي تصدر منها، والكاتبُ هنا يستعمل ضمير الغائب، وإذا جاء رسمه لشخصياته ناجحاً ارتفعتْ درجة التفاعل لدى القرَّاء الصغار، فإذا بهم يفكرون في ما ستقوم به، أو يتوقعون جانباً منه، وقد يندمجون مع الشخصية الإيجابية إلى حد التماهي، فتصبح أفعالها وكأنها أفعالهم، وقد يقدِّم الكاتب للأطفال شخصيةً جذابة لديهم، تستطيع من خلال جاذبيتها أن تؤثر في اقتناعاتهم، وأن تسهم في حل مشكلاتهم.
في قصة: «يوم واحد» (1) يرسم القاص نورالدين الهاشمي بأسلوب التحليل الذي نتحدث عنه أبعادَ شخصياته، ولاسيما الملك (حسُّون)، فيذكر أنه محبوب من الناس، وله علاقة طيبة بالأطفال، فهو يحبهم ويحب اللعبَ والمرح والعزفَ بالمزمار. يشكو الأطفال للملك كثرةَ أوامر الكبار، فيقوم الملك بأخذ هؤلاء الكبار إلى جزيرة قريبة لإراحة الصغار من أوامرهم، وبعد يوم واحد فقط يكتشف الصغار أنهم لا يقدرون على العيش من دونهم.
ثانياً- أسلوب التمثيل: وفيه يتنحَّى الكاتب تاركاً للشخصية أن تصف نفسَـها من خلال كلامها ومُجمل أفعالها وردود أفعالها في النص.
أما الضمير الأكثر استعمالاً في هذا الأسلوب فهو ضمير المتكلم، ومعه يشعر الطفل القارئ بأن الشخصية تحادثه مباشرة، وهي شديدة القرب منه.
في قصة «الصديقة» (2) لصاحب المقال، تتحدث الغيمة للأطفال قائلة عن نفسها: (أنا صديقةُ النبات، ارفعوا رؤوسكم تروني كالبساط الأبيض)، ثم تضيف: (أنا جميلة كما يقول الشعراء، والفلاحون ينتظرون حضوري بلهفة). بعد هذا تكشف مجرياتُ القصة عن نبل الغيمة التي طلبتْ من الريح أن تدفعها لتنهمر على سكان مدينة فلسطينية محاصَرة محتاجة إلى الماء.
رغم الفوارق الواضحة بين الأسلوبين السابقين، نجد أن كثيراً من القاصين يقوم بالجمع بينهما في نص واحد، وهو الأفضل في بناء الشخصية القصصية الجيدة.
والمهم أخيراً أن يقدِّمَ الكاتب لقرائه الصغار بأي أسلوب شاء شخصيات غنية بالحياة، جذابة أو فائقة الجاذبية تستطيع الوصولَ إلى قلوبهم وعقولهم لتساعدهم في فَهْمِ العالم من حولهم، وتفتحَ لهم نوافذَ على دنيا الجَمال والخير.
{ { {
هوامش:
(1) مجموعة أزهار الصداقة -نور الدين الهاشمي- اتحاد الكتّاب العرب في سورية- 2003
(2) مجموعة الطبل المثقوب- نجيب كيالي- دار الينابيع- سورية 1992
صحيفة أوان