تغريد السعايدة
عمان- يبحث عن وحدته؛ يحاول إخفاء رأسه أغلب الوقت بغطاء سريره وكأنه لا يريد أن يراه أحد، لا يرغب بالخروج من غرفته ولا مشاركة الآخرين في أي شيء، بل يكتفي بنفسه إلى أن يصل إلى مراحل متقدمة قد لا تحمد عقباها إن لم يجد من يمسك بيده ويساعده على التخلص مما يسمى بـ”اكتئاب الأطفال أو الاكتئاب الصامت”.
كثير من العائلات قد ترى أن بعض الأعراض الذي يعانيها الطفل بين الحين والآخر هي عابرة ولا تؤثر على حياته الآنية أو المستقبلية، بيد أن مختصين يؤكدون أهمية أن تكون هناك ملاحظة ومتابعة للطفل، وبخاصة عندما يكون هناك موقف واضح أثر على نفسية الطفل خلال هذه الفترة، إن كان موقفا سبب الحزن الشديد ومن ثم الانعزال، وصولا إلى الاكتئاب الذي يحتاج علاجاً نفسياً وسلوكياً.


أم تقوى، كتبت تتحدث عن ابنتها التي اكتشفت أنها تعاني من الاكتئاب البسيط لأسباب تمر بها يومياً في المدرسة والبيت، دون تعرضها لموقف قوي، من فقد أو تنمر أو حتى إيذاء من أحد الوالدين، ولكنها تلجأ إلى العزلة والحزن في كثير من الأوقات التي لا يمكنها فيها الحصول على ما ترغب به، أو الملل والعجز عن الدراسة والواجبات.
قد لا يرى أطباء علم النفس والتربويون أن هذا نوع واضح من الاكتئاب، بل إنها حالات عارضة يمكن أن يمر بها أي طفل، إذ إن الأطفال كما الكبار يتأثرون بكل ما يحيط بهم من أحداث داخل المنزل وخارجه، وينعكس ذلك على تصرفاتهم وأحاديثهم وطريقة تعاملهم اليومية مع الحياة الأسرية والاجتماعية.
وفي دراسات علم النفس يعرف الاكتئاب على أنه: “اضطراب نفسي يصيب الإنسان ويؤثر على حياته اليومية بشكل سلبي يتميز بالشعور بالحزن والتعب وفقدان الاهتمام والمتعة بالأنشطة المفضلة، وله الكثير من التأثيرات على نواحي الحياة وهو مرض شائع يصيب أي شخص في أي عمر وفي أي وقت”.
كما توضح الدراسات المختلفة المصادر أن اكتئاب الأطفال تحديداً حالة مرضية خطيرة تؤثر على النمو النفسي والاجتماعي للطفل، وتسبب لهم مشاعر شديدة من الحزن واليأس والانعزالية، ويمكن أن تؤثر على نمو الطفل وتطوره النفسي والاجتماعي والمدرسي.
ومن هنا، توضح اختصاصية الإرشاد النفسي والتربوي الدكتورة سعاد غيث ذلك بقولها: “إن دليل الأمراض النفسة والعقلية الصادر عن الجمعية الأميركية للطب النفسي يندرج من ضمنه ما يسمى بـ”اكتئاب الأطفال”، وهو ما يؤكد أن الأطفال مصابون بالاكتئاب وتختلف أعراضه عند الكبار والراشدين”.
ووفق غيث فإن الاكتئاب بشكل عام أعمق من الحزن وهو مرض مصحوب بمجموعة من الأعراض التي تتضمن، فقدان البهجة والاستمتاع بالحياة، ومشاعر ذنب قوية قد تصاحب الفرد، وشعور بعدم القيمة وورود أفكار انتحارية لديه، واضطرابات في النوم والأكل، وفقدان الطاقة الحركية النفسية للشخص، ولا يمتلك الدافعية للإنتاج والطاقة الإيجابية والإقبال على الحياة.
إلى ذلك، تبين غيث أن الأطفال وبسبب مرورهم بتجارب صعبة وقاسية وصدمات نفسية، قد تتعلق بخسارة أو فقد، ممكن أن تظهر لديهم أعراض الاكتئاب، والطفل هنا قد يبدأ بالانسحابات التفاعلية، ويفضل أن يبقى وحيدا وينزوي وقد يبكي، كما يظهر ذلك من خلال اللعب، بحيث يعكس حزنه وعباراته في الوقت الذي بفترض فيه أن “يلعب”.
هذه العبارات التي تصدر عن الطفل تظهر التشاؤم وعدم التفاؤل، وفق غيث، عدا عن وجود مؤشر آخر مرتبط بالتحصيل العلمي للطالب، بحيث يكون منخفضا، لأن التعلم يحتاج من الطفل أن يكون لديه جهد ودافعية لذلك، ولكن الذي يعاني من الاكتئاب لا يندفع نحو التعلم، فيكون مشتتا وضعيف التركيز وقليل الكلام، وتغيب لديه الرغبة في مغادرة فراشه أو غرفته.
ويعد الدعم النفسي للطفل في أي مرحلة من مراحل الاكتئاب هو الوسيلة الأفضل لمساعدته على الخروج من تلك الدائرة التي قد تفقده قيمة حياته، خاصة أن هناك أرقاما “متواضعة” لعدد من الأطفال الذين أقبلوا فعلياً على الانتحار، في الوقت الذي صرحت فيه بيانات دائرة الإحصاءات العامة العام 2021، بالتزامن مع جائحة “كورونا” عن ارتفاع أعداد حالات الانتحار بنسبة 10 % مقارنة مع العام 2020.
اختصاصية علم النفس والنمو الاستشارية الأسرية الدكتورة خولة السعايدة، تؤكد أن الأطفال بشكل خاص يتأثرون بما يدور حولهم من أحداث ويظهر ذلك جلياً من خلال الحزن والاكتئاب الذي قد ينتابهم لفترات متقطعة أو متواصلة.
كما ترى السعايدة أن وجود الطفل في أسرة أو محيط يتعرض فيه للصدمة بشكل متكرر من دون مساندة أو متابعة وعلاج واحتواء أسري، قد يكون سبباً كافياً لأن يتحول إلى مريض يعاني من الاكتئاب المرضي، ويحتاج إلى علاج نفسي بأكثر من شكل، وقد نرى انفعالاتهم وأسلوبهم في الحياة مؤشرا على ما يحدث معهم.
الاكتئاب يكون واضحا أو صامتا، لذلك وجود الدعم النفسي هو الخطوة الأولى لتقديم العون للطفل على اختلاف مرحلته العمرية، إذ تؤكد السعايدة أن الأطفال تماماً كما الكبار في تعاملهم مع الأحداث، ولديهم طرق التحليل والإنصات والتأثر الكبير بما يدور حولهم، ولا يجب الاستهانة بمشاعرهم خلال وجود ظرف عائلي طارئ أدى لحدوث الاكتئاب والحزن الشديد، كما يجب ملاحظة الطريقة التي يعبر بها الطفل عن حزنه ومحاولة علاجها بالدعم الأسري والعلاجي من خلال المختصين إن تطلب الأمر ذلك.
كما لا تنكر السعايدة الدور الكبير الذي يمكن أن تقوم به مواقع التواصل الاجتماعي ومتابعة الأطفال لها والجلوس لفترات طويلة على الهواتف من دون رقابة الأهل لهم، خاصة حينما يتعلق الأمر بنقل الوقائع والأحداث الدامية والحروب، عدا عن الشكل الآخر من مظاهر الاكتئاب والحزن النابع عن “المقارنة مع حياة الآخرين ويظهر من خلال السوشال ميديا على أنها حياة مثالية”.
ووفق غيث فإن الأهل عليهم أن يلاحظوا مدى تفاعل الاطفال مع مواقف الفرح، عدا عن الشهية للأكل وتقلبه، وهناك ما يسمى بـالأكل العاطفي، وتقلب الوزن ما بين انخفاض وارتفاع، والكوابيس التي يشعرون بها في الليل، ويجب على الأهل ان يكونوا متعاونين مع المعلمين، والمحيط، وفي حال زادت الأعراض عن الحد الطبيعي يجب مراجعة الطبيب المختص، ولكن إن كانت أعراضا بسيطة علينا أن نتعامل معها بطريقة سهلة ومبسطة، تراعي ظروف الطفل، والدعم العائلي.
قد تكون أساليب الدعم ميسرة من قبل الأهل، كما تبين غيث، كما في التعبير والعلاج من خلال الرسم أو اللعب، والكتابة، واللجوء للأساليب التعبيرية غير التقليدية، وأن نعطيه فرصة للكلام والتعبير عن مشاعره وإظهار المكبوت.
وتقول غيث: “إن الطفل المكتئب قد يتحول إلى راشد مكتئب، هذا أمر وارد، خاصة إذا لم يتم علاجه وتعليمه مهارات إدارة المزاج، وقد يتطور ذلك ليصبح أحد أشكال الاكتئاب المختلفة، كما في ثنائي القطب، أو الاكتئاب الموسمي، حيث أن المكتئب يشكل خطرا على نفسه أكثر مما هو على المجتمع، حيث تكمن الخطورة في الأفكار الانتحارية، بعد فقدان قيمة الشعور بالحياة.
وجدت دراسة أجريت العام 2019 ونشرتها مجلة علم النفس غير الطبيعي أنه في الفترة بين الأعوم 2009-2017 ارتفعت معدلات الاكتئاب لأكثر من 60 % لدى الأطفال بين 14-17 سنة، ووصلت النسبة إلى 47 % بين الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 12-13 عاما، وتضاعف عدد الأطفال والمراهقين الذين حاولوا الانتحار في الأعوام من 2007-2015.
تحكي الكاتبة “كيم بروكز” مؤلفة كتاب “الأبوة في زمن الخوف” في مقالها في صحيفة نيويورك تايمز كيف حاولت البحث عن السبب وراء هذه النسب المرتفعة؛ هل كانت الشاشات؟ أم الطعام؟ أم عدم وجود الهواء النقي؟ أم افتقاد الأطفال لوقت الفراغ؟ أم أنها مبالغتنا في حمايتهم وثقافة القلق والخوف الشائعة؟ وهي ترجح أن مثل هذه المشكلات لا تنتج عن تغيير واحد في بيئة الطفل وإنما عن تحول أساسي في الطريقة التي ننظر فيها إلى الأطفال وتربيتهم والطريقة التي تغيرت بها المجتمعات بشكل عام.
=====================

JoomShaper