رشا كناكرية
عمان- اعتقدت سوسن (33 عاما)، أن التأخر الملحوظ في النطق لدى طفلها ذي الأربع سنوات أمر طبيعي يحدث لبعض الأطفال، ولكن مراقبتها لسلوكه الذي يختلف عن أشقائه، أثار الخوف في داخلها، وجعلها تلجأ للبحث عن الأسباب لتفهّم سلوكه ولكي تتخلص أيضا من شكوكها.
وتشير سوسن إلى أن قراءتها المستمرة عن الإعاقة الذهنية والتوحد والاضطرابات السلوكية أدخلها في دوامة من الأسئلة والقلق خوفا على طفلها، ما قادها للبحث عن مكان يقدم الإجابة الشافية.
وتعترف سوسن أنها بالبداية لم تعلم من أين تبدأ والعقبة الأولى التي واجهتها هي إقناع زوجها بأن طفلهما يعاني من أمر ما، وهذا الذي احتاج منها وقتا طويلا حتى يقتنع. بعدها بدأت بزيارة عدة مراكز لتجد إجابات مختلفة، الأمر الذي أوقعها في حيرة من أمرها وتقول "كل مرة كان ينحكى سبب مختلف، مرة فرط حركة، ومرة عدم تركيز.. ومرة يعطوه أدوية.. وهون أنا خفت".
خوف سوسن من الحصول على تشخيص خاطئ دفعها لتقرأ أكثر وتثقف نفسها علّها تساعد طفلها، وبالبداية تأكدت أنه لا وجود لأعراض التوحد عند طفلها بعد مراقبته.
وبعد بحث طويل وجدت سوسن أحد المراكز التي تساعد في تشخيص الأطفال بالطريقة الصحيحة وبالفعل كان المكان المنشود، فبعد تشخيص تصرفات طفلها والقيام بالفحوصات تبين أن لديه بطئا في التعلم، ويحتاج لتعديل سلوك من خلال جلسات بحضورهم ليتم فيها تدريب الطفل وتتعلم الأم كيفية التعامل معه في المنزل لتساعده في مرحلة التطور.
واليوم طفل سوسن ينطق كلماته جيدا واختلف سلوكه بعد عدة جلسات، مؤكدة بذلك أن حرصها على معرفة التشخيص الصحيح مكنها من مساعدة ابنها.
بينما زينب (29 عاما) فبعد معاناة مع التشخيص الخاطئ من مركز ما، فقد اكتشفت مؤخرا أن تأخر طفلها في النطق والسلوك سببه مشكلة في السمع، وهذا بفضل مركز آخر توجهت له طلب منها أن تقوم بفحص السمع لديه.
هنالك العديد من الأطفال الذين قد يكونوا ضحية التشخيص الخاطئ لاضطرابات النمو التي قد تقودهم لدوامة من العلاجات وتأخر في تطور سلوكهم.. ويبقى السؤال: أين الوجهة الصحيحة للحصول على التشخيص السليم؟
خبير وعالم بطيف التوحد واضطراب النمو الدكتور نور الدين الديري يبين لـ "الغد" أنه يفضل استخدام كلمة "تقييم" بدلا من "تشخيص"، مشيرا إلى أنه واجه العديد من الحالات التي تم تشخيصها بشكل خاطئ نظرا لتداخل وتشابه مظاهر وخصائص السلوك، ومثال على ذلك حالات من ذوي صعوبات التعلم يتم تشخيصهم بـإعاقة ذهنية أو توحد وهذه المشكلة تواجه الكثير من الأسر.
بينما الحقيقة أننا قد نكتشف أن الطفل لديه مشاكل عضوية أو سمعية أو بالدم أو الجهاز الهضمي أو مشاكل في أخرى وهي السبب في الأعراض التي جعلت الطفل يحصل على تقييم أو تشخيص خاطئ لذلك الأفضل توعية الأهالي بأن كلمة "تشخيص" المفترض ألا تكون نهائية، إذ إن التشخيص الخاطئ يفقد الطفل مستقبله ويؤخر من تحسنه.
ويشير الديري إلى أن نسبة التشخيص الخاطئ قد تصل لـ30 % في اختبار (ADOS) الذي يستخدم في تشخيص التوحد وهنالك طرق أخرى تصل فيه لـ70 %، وهذه النسب مخيفة إذا افترضنا أنه من كل عشرة أطفال سبعة منهم تم تشخيصهم بشكل خاطئ.
ومن جهة أخرى فإن الطفل الذي تم تشخيصه بشكل خاطئ سوف يتلقى علاجات وأدوية وفي بعض الأحيان يحرم من المدرسة ويتم وضعه بمراكز خاصة، والمشكلة تكمن بأن المراكز حاليا تقوم بوضع الأطفال مع بعضهم البعض رغم عدم وضوح التشخيص للجميع.
والمشكلة الحقيقة أن التشخيص الخاطئ قد يصل ليصبح تشخيص حقيقي وفق الديري، بمعنى أن الطفل يكتسب التوحد والاضطرابات النمائية بسبب أنه حصل على تشخيص خاطئ وتعاملوا معه على هذا الأساس وهنا ندخل من اشتباه لحقيقة.
ويؤكد الديري أن الطريقة الأفضل والأكثر فاعلية لتجنب حدوث تشخيص خاطئ هي التعامل مع أطباء اختصاصهم هو التوحد والاضطرابات النمائية ولديهم الأدوات والتكنولوجيا والتقنية المناسبة للحصول على التشخيص الصحيح.
ويلفت إلى أنه حاليا يتم اللجوء لاستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل وتقييم الحالة، وهذا يقدم تقييما دقيقا ونسبة الخطأ به تصل لـ0.5 % وبهذا يوجه الأسر للطريق الصحيح بطريقة علمية بحتة، بمعنى هذا الطفل لديه خطر بسيط أو عال أو متوسط.
ويبين أن منهجية التقيم تضم "تقييما طبيا وعضويا ونفسيا وسلوكيا وتقييما للتطور والاستيعاب" عن طريق أجهزة الذكاء الاصطناعي.
ويلفت الديري إلى أنه أصبح هنالك فحوصات دقيقة وبروتوكولات علمية معترف بها عالميًا يستطيع من خلالها الأهل أن يتدخلوا بأسرع وقت لذلك يجب التعامل مع مختص بهذا المجال لاتباع البروتوكولات والاستفادة منها وبهذا يستطيع الأهل تجنب حدوث تشخيص خاطئ لطفلها.
ووفق الديري الدور الأهم للعائلة عدم تأجيل معالجة الطفل، والتوجه للجهة المختصة لتجنب المشكلات لاحقا، لافتا إلى أن هنالك تقييمات للتطور يجب أن يمر بها الطفل بعمر السنة والسنتين وهي متبعة عالميا ولكن للأسف هذه الثقافة غائبة.
ويؤكد الديري أن الحصول على التشخيص أو التقييم المبكر يوجه الأسرة إلى الطريق الصحيح وفي معرفة درجة الخطورة، "كلما كان الطفل أصغر عمرا العلاج يكون أسرع".
ومن جهة أخرى ينوه الديري إلى أن هنالك كثيرا من الأشخاص يدعون بأنهم قادرون على معالجة التوحد عن طريق الأدوية وهي بالحقيقة أدوية عادية وليس لها نتيجة، بالعكس تجعل الطفل يدمن عليها، ويقول "التوحد ليس مرضا ولا نستطيع أن نعالجه، والأدوية تكون لمعالجة الأعراض السلوكية عند الطفل ولكن للأسف هنالك أشخاص يحاولون أن يستغلوا هؤلاء الأهالي عاطفيا".
ويشدد أنه من الضروري أن يكون الوالدان متابعين لما يحدث مع طفلهم داخل الجلسات وحاضرين لها بشكل شخصي لتعلم الطرق الصحيحة والتحسن بطريقة أسرع.
مستشار أول طب نفسي ودكتوراه سريرية طب نفسي أطفال وأحداث الدكتور أمجد جميعان يبين لـ "الغد" أن الضحية في التشخيص الخاطئ هو الطفل وعائلته.
ويذكر جميعان أنه واجه العديد من الحالات التي شخصت خطأ نظرا لتداخل وتشابه مظاهر وخصائص السلوك، وبذلك يتفاجأ الأهل بعد عدة سنوات بأن الطفل لديه مشكلة وهم لا يعلمون ومثال لذلك حالات لأطفال أعمارهم وصلت لـ10 سنوات تعاني من التوحد بالرغم من توجهم لعدة أماكن لم يخبروهم بذلك.
ويقول جميعان "إن التشخيص الخاطئ جزء من أسبابه أن العائلة لا تتوجه للمختص الذي يجب التوجه له"، منوها إلى أن هنالك من يقدم تشخيصا خاطئا مراعاة لمشاعر الأهل، بمعنى أن بعض الأطباء لا يشخص الحالة بشكل صحيح، وبعضهم الآخر يعلم ما هو التشخيص الصحيح ولا يريد أن يخبر الأهل خوفا على مشاعرهم.
ووفقا لقوله هنالك من يطلق على طيف التوحد أسماء كثيرة ومختلفة للأهالي ومن أجل التخفيف عنهم يقولون فرط حركة أو صعوبة تعلم أو نطق ولا يقتربون من التوحد.
ويؤكد جميعان أن من واجب الطبيب قول الحقيقة فالمصداقية والمهنية هي الخيار الصحيح ولكن للأسف البعض يفتقر للمصداقية بحد قوله.
"وعي الأهل غير كامل للأسف" يقول جميعان، إذ إن بعض الأهالي لا يريدون أن يسمعوا بأن طفلهم مصاب بالتوحد، لذلك يجب التركيز على الوعي.
ومن جهة أخرى، بعض المراكز لا تضم أطباء اختصاص بحسب جميعان، ويقول "هنالك منافسة ما بين الأطباء والعاملين في القطاع النفسي من الأخصائيين النفسيين والسلوكيين، ومنهم من يقول لا تراجع الطبيب إذا فعلت ذلك قد يقدم لك دواء قد يدمن عليه طفلك، فهذه قضية معقدة نوعا ما والضحية في هذا الأمر هو الطفل وعائلته".
ويؤكد جميعان أن "التشخيص الخاطئ" مشكلة وظاهرة يجب الحذر منها، وللحصول على التشخيص السليم وجب التوجه للمختص الصحيح وليس للمراكز إنما الطبيب المختص.
ومن الجانب التربوي يبين الدكتور عايش نوايسة أنه كلما كان الأهل قريبين من أبنائهم كانوا قادرين على فهم التصرفات والسلوكيات التي تصدر منهم، وإذا كانوا يعانون من خطب ما أو بعمر صغير، موضحا أن الجانب السلوكي من الممكن ملاحظته، وإذا تم ذلك مبكرا نكون قادرين على أن نعدل السلوك وما يرتبط به من تصرفات لاحقا.
ويؤكد ذلك بقوله "لا نستطيع أن نتعامل مع الطفل ونوجهه ما لم نفهم السلوك ضمن الإطار الزمني الصحيح الذي نجري فيه التعديل الممكن".
ويلفت نوايسة إلى أن سلوك الطفل المختلف قد يكون خطرا على مسلكه وشخصيته وتفكيره واندماجه الاجتماعي وتفاعله ضمن المجتمع المحيط به، ولذلك الأهم أن يكون الأهل على درجة كبيرة من الوعي.
ويؤكد نوايسة أن علم النفس السلوكي تطور بشكل كبير وأصبح يضم أدوات واختبارات رصد تستطيع من خلالها الكشف عن السلوك من خلال تطبيق لمجموعة من الملاحظات وأدوات الرصد.
ومن جهة أخرى يؤكد نوايسة أن الكشف المبكر مناط بالأهل بالدرجة الأولى وبالمؤسسات التربوية كذلك وبالذات أننا نعلم أن أغلب الأمهات هن موظفات ويتم وضع الأطفال في حضانة ورياض الأطفال، والطفل يعيش فيها فترة زمنية كبيرة، والأصل أن يكون بها شخص مختص يراقب هذا السلوك ويتعاون مع الأهل ويرشدهم ويساعدهم لتخطي المشكلة وصولا للحل.