أحمد زرزور
يقول   الدكتور عبد ا لرزاق جعفر : ان الحاجة الى المدهش ترتبط بالحاجة الى خلق الواقعى ، فالشخصيات والمشاهد التى تبرز فى خيال الطفل ، انما هى شخصيات ومشاهد حقيقية أيضا ، مثل الأغراض التى جرّبها تجريبا حسيا ، فلو لم يكن "بابا نويل " موجودا : لاخترعه ، كذلك الأمر فيما يتعلق بأبطال حكايات الطفولة كلها ، فالطفل حين يسبغ الحياة والمعنى على كل شىء ، انما يضفى قيمه الخاصة على كل مايكتشف ،  وذلك لكى  يعيش فى عالم مجهول يتوافق توافقا سحريا معه ، ويجعله مطابقا لارادته .

وحدة المدهش والواقعى

هذا ، بالضبط ، ماينطبق تماما على قصص الطفلة  السورية  الموهوبة  "هيا قرة "والبالغة من العمر اثنتى  عشرة عاما ،   والتى صدر  لها  فى العام المنصرم 2009 كتابها الأول " امرح ولوّن مع هيا " و يصدر لها هذا العام كتابان قصصيان جديدان ، هما " من أرسم ؟ " وهى القصة الفائزة بالجائزة الأولى لمسابقة" أجيال "لقصص الأطفال ، بينما يحمل  الكتاب الثانى اسم "اهرب قبل الفجر "  وهى القصة التى تم التنويه عنها فى وزارة الثقافة السورية ، كما تم تكريم  "هيا "  بسببها فى مجلة "قطر الندى " للأطفال فى مصر والتى أسسها ورأس تحريرها  الشاعر أحمد زرزور .

أن "هيا " وهى ابنة الكاتبة والاعلامية السورية لبنى ياسين ، وحفيدة الشاعر الكبير محمود ياسين ، تثبت لنا ، فيما قرأنا  لها من قصص : مدى تحقق ماطرحه الناقد والكاتب  والباحث المتخصص فى الكتابة للأطفال الدكتور عبد الرزاق جعفر، من مفاهيم حول : سيطرة الأطفال على شخوص وتفاصيل حكاياتهم التى تبدأ مسرودة فى أذهانهم بكل وضوح ، قبل أن يحولوها الى كلمات تتحرك أمامنا على السطور ، مثيرة فينا الدهشة والانبهار بالمدى الخيالى المنطلق الذى تدور فيه الأحداث ، بينما لايشعر الأطفال – سواء المبدعون منهم ،  أو  القارئون  – بما نشعر به نحن الكبار ، لسبب بسيط جدا ، وهو : أنهم  يتعاملون مع أبطال وأحداث حكاياتهم على أنها مجرد لعبة يضخون فيها قيمهم وأفكارهم ، ربما لكى يستطيعوا  تجميل الواقع ، أو التعايش معه .

التنوع الخلاق

ففى قصة " من أرسم " على سبيل المثال ،  والتى تتميز بالتفرد الابتكارى ،  تضع الكاتبة الصغيرة أيدينا على  أحد مستويات التنوع الخلاق  على ظهر كوكبنا الأرضى ، والذى يتسم بالجمال والجدوى فى وقت واحد ، مشيرة بذكاء ابداعى لافت الى أهمية الاختلاف فى الشكل واللون بين جميع المخلوقات ، و  التى تتشارك معا : فى حق الحياة ، وأن الوجود اذا ماافتقد هذا التنوع ، لاافتقد جاذبيته وجماله وسحره .
كما أن كاتبتنا المبدعة تستهدف قيمة أخرى ، وهى لفت  الانتباه الى مناطق الجمال التى لانراها فى أنفسنا ، بل والتى  ربما نراها أحيانا أو  غالبا على غير حقيقتها ، بالرغم من ماتتسم به من تميز و أهمية وضرورة ،  وعلينا أن نلاحظ هنا كيف مزجت الكاتبة بين الجمال والفائدة فى سياق واحد مندغم .

فالقطة " هرهر " والتى تريد أن ترسم أحد الحيوانات ، تصطدم برفض جمبع من  ذهبت اليهم من الحيوانات ، متعللين بحجج مختلفة ، فالأسد يخشى أن تخافه الحيوانات أكثر لو رأوه مرسوما على لوحة ، والظبى يعتقد  أن قرنيه غير جميلين  وهو لايحبهما ، والزرافة تظن  أن اللوحة قد لاتكفى لرسم رقبتها بسبب طولها البارز ، والسلحفاة ترى أن بيتها المحمول على ظهرها لن يبدو جميلا فى الرسم ، وهكذا يتكرر رفض بقية الحيوانات ، ماعدا التمساح الذى لايشغل باله الا التفكير بمهاجمة "هرهر " لكنها تهرب منه فى آخر لحظة .

منظومة أهداف وقيم

وتفكر القطة الفنانة فى الأمر ، وفى اليوم التالى تجد  حلا ، فتذهب الى كل حيوان من جديد وتبين له خطأ مايعتقده عن نفسه ، فتقنع الأسد مثلا بأن رسمه سيجعله مهابا بين الحيوانات ، وتشرح  للظبى  بأن قرنيه يساعدانه فى حماية أطفاله ، وتوضح للزرافة أن رقبتها الطويلة تسهل لها الوصول الى طعامها ..
وهكذا حتى تنجح فى اصطحاب  الجميع معها ،  لترسمهم ، وعندما يراهم التمساح  مجتمعين وبينهم " هرهر " يخاف منهم ويسرع بالفرار .
هكذا يتم اصابة هدف آخر ، فتجمع الحيوانات يخيف عدوهم التمساح الذى يعتقد انهم جاءوا لينتقموا منه ، ردا على محاولته الاعتداء على " هرهر "  لالتهامها .

نحن اذن ، أمام منظومة أهداف  وقيم نجحت مبدعتنا الصغيرة فى نجسيدها من خلال هذه القصة التى لاتستغرق الكثير من الصفحات ، والتى تتحرك أمامنا بمنتهى الرشاقة الأسلوبية التى لاتخلو من بعض المرح أيضا ،  بالرغم من جدية ماتستهدفه  " هيا " من ترسيخ القيم التى تؤمن بها ، فى سيطرة كاملة على الشخصيات والأحداث ، ومزج عفوى بين الخيال والواقع ، بحيث لايمكنك فصل أحدهما عن الآخر ، وهو ماأشار اليه  الدكتور جعفر كما أوضحنا  فى بداية المقالة .

الحياة كما هى

ولاتختلف قصتها الثانية " اهرب قبل الفجر " عن قصتها " من أرسم " سواء على مستوى وحدة المدهش مع الواقعى ، أو فى منظومة القيم التى تحاول تجميل  الواقع والتعايش معه  ، لكننا نلاحظ فى القصة الثانية  غياب النهاية السارة التى اعتاد عليها مبدعو الكتابة للأطفال ، والذين عوّدوا  الأطفال القراء ، ألا يتوقعوا  الا انتصار الخير على الشر بأية  طريقة ،  بحيث أصبحوا غير مستعدين لتقبل أية خاتمة بخلاف ذلك .
هنا تكسر " هيا " توقعاتنا – مبدعين وقراء صغارا – فتجعل الثعلب المكار يلتهم الأرنب المسكين الذى لم يستفد من المهلة التى منحها له الثعلب  ان هو استطاع الهرب من بيته قبل الفجر  ، لكن الأرنب الذى لم يكن ذكيا بدرجة تساعده على اكتشاف طريقة  لفتح الباب  ، يدفع ثمن غبائه ،  حيث يفشل فى الهرب قبل الفجر ، بالرغم من أنه لو جذب الباب  لانفتح ، وكأن الكاتبة تشير بوضوح الى أنه لامكان فى هذا العالم لغير الأذكياء ، ومايرتبط بذلك من عقول يقظة تتسلح بالمعرفة وشجاعة المغامرة والمدارك الواسعة
.
ان النهاية غير الاعتيادية للقصة تتفق وماكانت تدعو اليه  كاتبة الأطفال السويدية المعروفة " ليند جرين " من ضرورة التحذير من  تقديم الحياة للأطفال على أنها فردوس ، لايمتلىء الا بالخير والسعادة ، ففى هذا خداع كبير لهم  ، وعلينا أن نقدم العالم لهم على صورته الحقيقية  بما فيه من تناقضات  وتحديات ، لينمو وعى السغار على أسس واقعية  صادقة .

حسنا ، لقد أثبتت " هيا قرة كهيا " صواب رؤية الكاتبة النمساوية الكبيرة ، لتثبت لنا – فى نفس الوقت – أنها صوت  ابداعى  موهوب يتوقع له المزيد من النجاح والتفوق والتميز .

JoomShaper