كان عائداً من مدرسة المتنبي الابتدائية في مدينة الخليل عندما وجد أرتالاً من الجنود الإسرائيليين في انتظاره، لينقضّوا عليه ويضعوا الحديد في يديه ويقتادوه بوحشية إلى سجن عوفر العسكري بعد أن أوسعوه ضرباً وشتماً ومزّقوا حقيبته المدرسية وبعّثروا قرطاسيته تحت بساطيرهم.
إنه أصغر أسير فلسطيني، كرم خالد دعنا، 12 عاماً، إبن الصف الخامس الابتدائي، من سكان وادي النصارى في الخليل، اعتقل يوم 22-9-2010، حيث كان ملاحقاً ليل نهار كغيره من الأطفال من قبل مستوطني "كريات أربع" الذين يصطادون أطفال المدارس ويعتدون عليهم ويعربدون في المكان تحت حراسة الجنود حتى حوّلوا حياة السكان هناك إلى جحيم لا يطاق. أطفال الخليل هدف دائم لقوات الاحتلال خاصة في البلدة القديمة ومحيطها بعد أن تحوّلت إلى قفص حديدي واستولى المستوطنون على الأرض والمنازل والأشجار وأفرغوها من معالمها التاريخية والدينية وجففوا كل مظاهر الحياة فيها.ولم يفلت أي طفل من الضرب والاعتقال والاستجواب في معسكر "جعبرة" العسكري، الواقع بالقرب من مستوطنة "كريات أربع"، وعندما يفرج عن الأطفال الأسرى بعد رحلة قاسية في التحقيق يعودون وفي أرواحهم حكايات صادمة، وعلى أجسادهم آثار رعب قاسية.
المحقق الإسرائيلي يسأل الطفل كرم دعنا: لماذا تكره المستوطنين وتلقي الحجارة عليهم؟ أجابه الطفل بهدوء وشجاعة: لأنهم جاءوا ليسلبوني حقي في الطفولة والحياة، ولأنهم يزحفون يومياً حتى حاصروا بيتي وغرفة نومي وأخذوا أرضي، فلم يعد هناك ملعباً ألعب فيها ولا شارعاً أمر منه، لا حديقة ولا أشجار ولا طيور ولا هواء.
أكرههم لأني أرى أهلي وجيراني لا ينامون طوال الليل، يحرسون بيوتهم خوفاً من اعتداءات المستوطنين، يغلقون النوافذ ويضعون الشبك الحديدي فوق الباحات والساحات والطرق كي يتّقوا حجارة وقاذورات المستوطنين المتساقطة عليهم.
أكرههم لأنهم استولوا على المنازل والتلال وأضاءوا نجمتهم السداسية فوق أحلامي حتى بدأت أشعر أن مكاني مفقود، وزماني مفقود، وممنوعٌ أن أخطو إلى عمري القادم، أو أحفظ درس الجغرافيا وهو يتعثر في ذاكرتي بالمجهول والغامض من التاريخ بعد أن صار المكان مصيدةً للمحتلين.
في سجن عوفر العسكري لم يجد الطفل كرم دعنا وسادة ينام عليها، ولا غطاءاً يتدثّر به في الليل البارد، ويقول: كنت شديد الاشتياق لأمي وأبي وجدي وجدتي وأخوتي وأصدقائي وزملائي في المدرسة، وشعرت أني كبرت كثيراً وسط آلاف الأسرى المحشورين المحرومين من نشيد آخر يضع ختاماً لهذه النهاية المأساوية.
المحقق الإسرائيلي يعترف أن دولته اعتقلت أكثر من 8000 طفل فلسطيني من العام 2000، وأن دولته تشن حرباً على الصغار لأنهم حسب اعتقاده "مشروع مخربين"، ويعترف أن دولته قلقة وخائفة من المستقبل والحياة، ولهذا تمارس بحق الأطفال التعذيب والضرب، وتنتزع منهم اعترافات تحت التهديد ويحاكموا في محاكم عسكرية كالبالغين، وتفرض عليهم أحكاماً قاسية وغرامات مالية باهظة.
ويعترف المحقق الإسرائيلي أن أطفال فلسطين رغم كل ذلك لا يتوبون عن الاستمرار في الطيران واللعب مع الفراشات ورسم الألوان الأربعة في السماء، ولا يكفون عن مواصلة أحلامهم وركوب البحر والخيل وقطف الورد والبحث عن ينابيع الحياة في رائحة الصيف ومواجع الحب في ضباب الشتاء.
في قاعة محكمة سجن عوفر وقف الطفل كرم دعنا والقيود في يديه خائفاً أن يجف حليب الطفل في جسده الصغير، وخائفاً أن يقرع جرس المدرسة ويدوّن اسمه في سجل الغياب، وخائفاً أن ينجح القنّاصة المستوطنون في إصابة أهدافهم بامتياز، وأن يستولوا مجدداً على الدوالي وأعشاش العصافير.
أدلى الأسير كرم دعنا بإفادته وسط ارتباك القضاة وحيرة المحامين ومؤسسات حقوق الإنسان مخاطباً قاضي المحكمة: لا أريد أن أتحدث عن اتفاقية حقوق الطفل التي لا تعترفون بها، ولا أن أسرد لكم أسماء آلاف الأطفال الذين استشهدوا واعتقلوا وعذّبوا على أيديكم، ولا أريد أن أبرز شهادات الكثير من الأطفال الذين مورس بحقهم التنكيل والتعذيب بوخز السجائر وبالكلاب المتوحشة وبالشبح في البرد وبأساليب لا أخلاقية بهدف تدمير الطفل وابتزازه.
لا أريد عطفاً ولا عدلاً من قوانينكم الجائرة، ولا رأفةً من أوامركم العسكرية الخارجة عن أي سياق قانوني وإنساني، لا أريد سوى أن أخرج من ليلكم الداكن وتخرجوا من حقيبة مدرستي وأناشيدي البريئة، أريد أن أكبر دونكم وأن أموت وأحيا دونكم محمولاً على السلام الوطني الفلسطيني وزخات المطر.
أريد أن أبكي دون أن يسمع جنودكم بكائي، وأن أنام دون أن توقظني دبابة أو طائرة أو قذيفة، أريد أن لا أرى حولي أي مستوطن طردته كل براهين الدنيا فجاء ليحتلّ جسدي بمزاميره وخرافاته البائدة.
ارتبك القاضي العسكري وتصبب عرقاً وهو يرى هذا الطفل المتدفّق كالماء، الناجي من مطاردة مستوطن أو صياد، القادم إلى المستقبل ليقول أن عمر الاحتلال قصير، يتسع فيه صوت الضحايا المفقودين حتى تحوّلت لائحة الاتهام إلى أسئلةٍ لم تستطع دولة إسرائيل الإجابة عليها، لتواجه مأزقاً وجودياً على الأرض هنا وفي الأبدية هناك يوم تستمع القيامة لهذا الطفل وهو يحلّق ملاكاً فوق العالمين.