خورشيد حرفوش
إن مظاهر السلوك والانفعالات والنشاطات التعبيرية المتعددة التي يقوم بها الإنسان تعكس سمات شخصيته إلى حد بعيد. والرسم إن كان يأتي في مقدمة النشاطات التعبيرية الإبداعية التي يقوم بها الطفل، فإنما هو يعبر من خلالها وبأسلوبه الخاص عن علاقته وإدراكه للعالم وللآخرين من حوله.
فعندما يتناول الطفل قلما ًوورقة، ويرسم خطوطاً وأشكالاً مختلفة، إنما هو يتخيل ويختار ويلوّن شخوصه وأحداثه بظلال حياته اليومية، بل إنه يريد إيصال رسالة للكبار لعلهم يفهمونها. فرسوم الأطفال أداة جيده لفهم نفسية الطفل ومشاعره واتجاهاته ودوافعه وتصوره لنفسه وللآخرين، فإذا كان الكبار يستطيعون استخدام الكلام كلغة ووسيلة للتعبير، فإن الطفل لا يستطيع أن يطوع الكلمات وفق مقصده ومايكتنفه من أحاسيس ومشاعر ورغبات كما هو الحال عندالكبار. فالطفل عادة يبدأ الرسم خلال سنته الأولى معبرا ًعنه ب"شخبطات"وخطوط عشوائية غير واضحة وغير مفهومة إلا في نفسه، ثم بعد تجاوزه سن الثالثة، تبدأ أشكاله بالتميز، إذ إنه يصل الى مستوى من النضج العقلي يؤهله لخزن بعض الصور الذهنية والحسية في دماغه، إلا أن هذه الصور لا تبقى طويلا، إذ لانجده يرسم الشكل نفسه مرتين بنفس الدقة في التفاصيل، وتمتاز بسرعة التغير وعدم الثبات في هذا العمر.
.. قد نجد أطفالاً لايستطيعون الكلام أمام الآخرين للتعبير عن عدم رضاهم، خوفاً من العقاب، لذلك يلجأ خبراء التربية الى وضع الأطفال في مرسم صغير وإعطائهم مايلزمهم من الألوان والأوراق وفسح المجال أمامهم لرسم مايرغبون، ومن ثم الاستفسار عن كل مايرسمونه من خطوط وأشكال مختلفة.إضافة الى أن الألوان تعبر عن حالة الطفل النفسية، في التعبير عن قلقه أو فرحه، فمثلا حين يختار الطفل اللون الأسود أو الرمادي للرسم، فهو تعبير عن الحزن والغضب الذي قد يشعر به تجاه الكبار الذين عاملوه بقسوة في فترة سابقة، أما إذا كان مرتاحا وقد شعر بالراحة من جراء متعة نالها في خروجه، فإنه يميل الى استخدام الألوان الهادئة الفاتحة والبراقة كالأحمر والأصفر.
وقد يتبنى الطفل اللون الذي تفضله والدته أو والده بدافع كسب محبتهم ورضاهم، فنلاحظ استخدامه للون الأزرق مثلا في رسمه للسماء والمنازل والأشجار والملابس....الخ ، وإذا ما سأل الطفل سبب انفراده في استخدام اللون الأزرق.. أجاب: "إن والدته تحب اللون الأزرق". فهو يبحث عن حب والدته من خلال محبته الى نفس اللون الذي تحبه.
إن الرسم عند الطفل، فن قائم بذاته يستمد تعبيراته وألوانه من عالم الطفل نفسه، وهو ما دعا علماء النفس إلى الانتباه بأن رسوم الأطفال الحرة يمكن أن تكشف عن جوانب متعددة في نمو الأطفال، وتعتمد هذه الفكرة باختصار على أن الخبرة الجمالية كما تبدو في رسوم الأطفال، يمكن أن تعكس في خلفيتها الخبرة العقلية والنفسية للطفل جنبا إلى جنب، فالأفكار والتعبيرات التي يتناولها الطفل في رسوماته يمكن أن تستخدم في قياس مستوى النضج العقلي له، وقد أستخدم أسلوب الرسم في تحليل شخصية الطفل والكشف عن اضطرابات نفسية معينة تدل عليها تلك الرسومات.
.. فالرسم في مجال التعليم يعد أحد أهم الوسائل المهمة في تثبيت المعارف لفئة الأطفال الصغار، إذ تحوي الأشكال المختلفة المتعة العلمية والاجتماعية التي يصعب توصيلها عن طريق الكلام المباشر في هذه السن المبكرة من العمر، فتظل راسخة في عقل الطفل مدة طويلة، إذ يستخدم هذه الأشكال في مقارناته اليومية وأثناء اكتسابه للخبرات المختلفة، فإذا ما ذهب مع والدته الى السوق مثلا، تعرف على الأشكال التي سبق وأن شاهدها أثناء تعلمه، فيربط الألوان بالأشكال التي تناسبها، وبذلك تحدث عملية تطبيق للمعلومات بشكل عملي، وبالتالي تثبيتها كحقائق راسخة، إضافة الى تعلمه القيم الأجتماعية عن طريق الأشكال التى توفرها القصص والحكايات، فمن خلال القصة الملونة ذات الأشكال المتنوعة نجد الطفل يندمج مع شخوصها وألوانها وقد يعيش أحداثها، ويميز بين شخصياتها، وبالتالي يتوصل الى أدراك أكيد وتبني للمزايا الجيدة التي تحملها بعض الشخصيات، كالشجاعة والإيثار والصداقة، عن تلك المزايا التي تحملها باقي الشخصيات والتي تتبنى سلوكيات مختلفة، فهو يختار مايتناسب مع شخصيته.
.. كما أن اللعب بالألوان يسهم في تنمية الذوق الفني والجمالي لدى الأطفال، حيث يساعدهم على إضافة لمسات أنيقة الى حياتهم المستقبلية من خلال منحهم الخبرة في تناسق الألوان واختيارها مما يسهم في رقي أنفسهم وتشذيبها.
لقد استخدم علماء النفس الرسم كوسيلة للتعرف إلى ما يدور في أذهان الأطفال ونفسياتهم تجاه ما حولهم من أشياء وأشخاص، فمن خلال الرسم يتمكن الطفل من رسم حالة قد حصلت له، لم توفر له المتعة وشعر بحالة من عدم الرضا، ولم يستطع أن يعبر عن مشاعره بحكم السلطة القائمة عليه من قبل الكبار، فإنه مثلا قد يلجأ الى رسم شخص بالغ يضرب طفلا صغيرا، وعندما يسأل عن اسم هذا الطفل يقول إن اسمه هو، على سبيل المثال "أحمد"، وإذا سألناه:"من الذي يضرب أحمد"، يقول: "بابا يضرب أحمد"، أو"المعلم يضرب أحمد". فالطفل في هذا العمر ينظر الى الصورة على أنه شخص آخر غيره، وهذا يعود الى تمركز الطفل حول ذاته في السنوات الخمس الأولى. وبذلك يمكننا أن نتعرف إلى نوع الأذى النفسي الذي قد يعاني منه الطفل من خلال رسوماته.
.. إن تشجيع الأطفال على الرسم باعتباره أحد أهم طرق التنفيس والترويح والمتعة، تقع على عاتق الوالدين، من خلال توفير الوالدين أدوات الرسم غير الضارة والمناسبة لأعمارهم، ابتداء بألوان الباستيل والخشب وحتى إتقانهم لبقية المواد الأخرى المستخدمة في الرسم، وفسح المجال أمام الأطفال لرسم مايحبونه واحترام آرائهم في التعبير من خلال الألوان التي يختارونها، ومن الجائز مناقشتهم فيما يرسمون. وإعطاء الأهمية والاهتمام لما يرسمونه وعدم السخرية من رسومهم، كي نزيد دافع الحماس والثقة في أنفسهم ودفعهم نحو التعلم والتطور والتقدم. فضلاً عن توجيه الأطفال إلى الأخطاء في الرسم بشكل غير مباشر، مراعين أعمارهم الزمنية وقدرتهم على ضبط رسم الأشكال وتناسق عضلاتهم ومهارة أناملهم في إنجاز رسوماتهم.

JoomShaper