القاهرة: أحمد الغمراوي
تضحك نور ذات السنوات الثلاث وتصفق بيديها وهي تجلس بالمقعد الخلفي في سيارة والديها، قائلة في مرح طفولي: «أنا بحبك قوي يا مامي وأنت كمان يا بابي، وبحب الحضانة علشان أنتم الاثنين بتوصلوني الصبح». تصمت للحظة، ثم تردف قائلة: «أنا بعرف أقول واحد لعشرة، وألف باء، وأعرفهم بالإنجليش (اللغة الانجليزية) كمان، أقولهم لك يا بابي؟». يومئ إليها والدها موافقا في فرح، فتبدأ في السرد المنغم: «وان، تو، ثري،....». وعند بوابة الحضانة، يتوقف الأب بالسيارة، فتقبله قبلة منغمة على جبينه وهي تقول: «ياللا روح الشغل، بس مش تتأخر عليا». وبينما تنزل الأم لتعبر بها إلى البوابة، تصك الأسماع صرخات طفل آتية من خلف الأسوار، وشيئا فشيئا يتضح المشهد، فإذا بطفل صغير يتمسك بملابس والده الذي يحمله بكل ما أوتي من قوة ويرفض النزول إلى الأرض، وبعد عدة محاولات فاشلة لإقناعه بالنزول، تجذبه المربية برفق مدروس وتشير إلى الأب من طرف خفي أن يذهب، فيغادر الأب ناظرا خلفه بين حين وآخر وهو يتمتم بينما تترقرق عيناه بالدموع: «معلش يا حبيبي، غصب عني، كله علشان مصلحتك». وبين المشهدين، تتنوع المشاهد والوسائل والمآرب ولكن الكل أجمع على أهمية دور حضانة (رياض) الأطفال.
تلعب دور حضانة الأطفال في سن ما قبل الدراسة دورا هاما ومؤثرا في حياة الأسرة المصرية على وجه العموم، والأسر العاملة بالمدن الكبرى على وجه الخصوص.
فطبقا لبيانات هيئة التضامن الاجتماعي، فإن عدد دور الحضانة المسجلة بالقاهرة وحدها يناهز الألف وخمسمائة دار، تخدم كل منها ما بين خمسين إلى مائتي طفل، إلي جانب العديد من دور الحضانة الملحقة بالهيئات، كالمستشفيات والمصانع، والتي تقوم بخدمة أطفال العاملين بها، ودور الحضانة المتخصصة في رعاية الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، كما أن هناك العديد من الحضانات غير المسجلة بالمناطق العشوائية، وحضانات أخرى في مرحلة توفيق الأوضاع والتسجيل الرسمي، ولا نغفل أن العديد من المدارس تحتضن فصولا خاصة بالأطفال في سن ما قبل الدراسة.
وفي المجمل، تخدم دور الحضانة بالقاهرة ما يناهز النصف مليون أسرة، تمثل حوالي 15 في المائة من إجمالي عدد السكان في العاصمة المصرية. ولا تبتعد النسبة عن ذلك كثيرا في المجتمعات المدنية الأخرى بمصر، ولكنها قد تقل في المجتمعات الريفية، حيث تقوم الأسر ـ كبيرة العدد غالبا ـ بدور تطوعي متبادل في رعاية أطفال الغير أثناء غياب الأبوين. وتتنوع الأسباب التي تدعو الأهل إلى إرسال أطفالهم إلى الحضانات الخاصة، وعن ذلك تقول مها ـ إحدى الأمهات ـ : «أقوم بإرسال ابنتي ذات السنوات الثلاث إلى دار حضانة، حيث إنني أعمل طوال فترة النهار، وتوفر لي الحضانة بديلا متاحا وقريبا وآمنا لترك ابنتي، فوالدتي تسكن بعيدا جدا، كما أن سنها لا تسمح بتحمل (شقاوة) ابنتي».
أما سها فلها سبب مختلف، فهي تقول: «أرسل ابني إلى الحضانة لأنني أفهم في أصول التربية، فأنا مدرسة في الأساس. والتربية الصحيحة للطفل تستوجب وضعه في وسط اجتماعي منذ مرحلة مبكرة حتى يتعلم أصول المشاركة الجماعية ويتخلص من الأنانية التي ترتبط غالبا بمرحلة الطفولة في سن ما قبل الدراسة». رأي مقارب تخبرنا به سلوى: «قضيت جزءا كبيرا من عمري بالخارج، وأعلم تماما دور الحضانة في تكوين شخصية الطفل، إلى جانب أن الدور التعليمي في هذه المرحلة هام جدا، ويعود الطفل على الالتزام لاحقا في الدراسة».
وعن تلك الأسباب تقول الدكتورة سمية عبد المحسن، خبيرة التربية: «تمثل مرحلة ما قبل الدراسة أحد أهم مراحل التكوين في الطفل، وفيها تكون طاقته الاستيعابية في قمتها، فيتعلم الكثير من المعلومات عن العالم الذي يحيطه. كما أن تلقين الطفل المعلومات في هذه المرحلة قد يكون لطيفا له ولذويه معا، فالطفل غير مطالب بالاستذكار ولا يوضع تحت ضغط عصبي بسبب الامتحانات كما يحدث له لاحقا، ولذلك فإن الأمر يكون في صورة لهو ولعب وبعيد كل البعد عن الجدية، رغم كونه في واقع الأمر شديد الجدية». وتضيف سمية: «أما عن أهمية مثل هذه الدور بالنسبة للأبوين، فأول فوائدها هو أنها تخدم قطاعا كبيرا من السيدات العاملات، كما أنها قد تريح الأبوين قليلا من عناء تربية الأبناء، ولو أن دور التربية والتعليم يعتمد بالأساس على المنزل وليس على دور الحضانة».
ومن هذا المنطلق تقول دينا: «أرسلت ابنتي للحضانة في الأساس لأنني رزقت بطفل آخر، وبقاء الطفلين في المنزل لفترات طويلة يجعلني عصبية جدا، لأنني يجب أن أظل متيقظة طوال الوقت. وذهاب الطفلة إلى الحضانة يعطيني مهلة للاستراحة قليلا، وأعتبرها فترة هدنة صباحية كل يوم. ولا يعني ذلك إطلاقا إنني لا أحب ابنتي، بل على العكس، أنا أحبها لدرجة الجنون، ولكن طفلي حديث الولادة يحتاج إلى حقه الكافي من الرعاية، وهو الأمر الذي لا أستطيع تقديمه إليه بصورة كافية في وجود ابنتي التي قد تشعر بالغيرة، ولا يسمح سنها بتفهم الوضع بصورة جيدة».
الجانب الآخر من الصورة يحمل الكثير من التفاصيل. فالزوجان المصري نهاد غالي، والبريطانية شِرن ماك والترز، يديران أحد الحضانات الخاصة بمنطقة مصر الجديدة الراقية. لديهما خبرة تمتد لنحو 20 عاما، في إنجلترا ومصر، في مجال رعاية الأطفال. يقول غالي: «إن إنشاء حضانة في مصر أمر مكلف ومرهق جدا، فهي تحتاج إلي حوالي ثلاث سنوات و100 ألف جنيه (نحو20 ألف دولار) للحصول على تراخيص إقامة الحضانة». وعن أصول العمل بالحضانة تقول شِرِن: «هذا العمل غاية في الصعوبة والمتعة في آن واحد، فنحن نتعامل مع الأطفال بما يحتاجونه من أشياء متضادة في نفس الوقت. يحتاجون الحنان الشديد والحزم المتزن، الصبر الطويل والعقاب المناسب، الاهتمام البالغ وعدم التدليل المبالغ فيه».
شيرين أحمد، مربية بأحد الحضانات، تخبرنا عن شعورها عند التعامل مع الأطفال قائلة: «أجمل مشاعر الحياة أن تتعامل مع كل هذا الكم من الملائكة الصغار، متعة لا نهاية لها إلا بحلول موعد الانصراف، عندها فقط أشعر كم أنا مرهقة ومستنزفة بدنيا ونفسيا، ولا حاجة لي بعدها إلا إلى وجبة سريعة ودش دافئ وسرير مريح، لأتأهب لجولة جديدة ويوم جديد».
جريدة الشرق الأوسط