محاسن أصرف
غزة ـ محاسن أصرف : مؤلم أن تفقد عزيزا عليك فلا تعد تراه إلا في غفلة نوم هادئة عبر رؤيا طيبة، ومحزن ألا تستطيع بسبب الحواجز أو الاجتياحات أن تودع عزيز آخر سيوارى الثرى بعد حين، بينما يدمي القلب مشهد فقد فلذات الأكباد على مرأى العيون دون أن تملك لهم أي سبيل من سبل النجاة عندها لا لسان يستطيع سرد الحكاية ولا عين تكف عن البكاء ولا قلب ينبض بغير ألم الفراق ولوعته..
في الحرب الأخيرة على غزة كثيرات هنَّ الأمهات اللاتي فقدن على مرأى عيونهنّ فلذات أكبادهنّ برصاص الاحتلال وقذائفه وصواريخه، الألم في قلوبهنّ لا تعبر عنه كلما الحزن ولو اجتمعت في قصة والمشهد في ذاكرتهنّ لا تمحيه مآسي أخرى بتوارد الأيام والسنين على مر العمر، " لها أون لاين " في التقرير التالي يعرض شهادات أمهات أبصرن بأعينهن مشهد إعدام فلذات الأكباد بدم بارد في الحرب الأخيرة على غزة، تابع معنا.
أحمد فواز صالح لم يكمل العام الخامس من عمره، وفوزية فواز صالح كانت زهرة يانعة في الثالث من عمرها، شقيقين تغنوا بالحياة لكنهما رحلا بقذيفة دبابة وصاروخين أباتشي سقطا في الغرفة التي كانا وشقيقيهما الآخرين يلعبون فيها، تقول الأم المفجوعة باستشهاد اثنين من أبنائها وإصابة الآخرين:" أحمد وأشقائه الثلاثة كانوا يلعبوا في ساحة الغرفة بينما كنت خارجها أطلب منهم اللحاق بي عند شقيقتي هرباً من القصف، لحظات فقط ولم يبق لأحد أثراً.. سقطت أول قذيفة في الغرفة وتبعها صاروخين أباتشي.. أبنائي الأربعة تناثروا في الغرفة بعد انفجار الصاروخين والقذيفة فيها"، غبار القصف كان كثيفاً لم تستطع الأم أن ترى الأبناء لكن صرخاتهم اخترقت جدار سمعها بحثت عنهم تلمست أجسادهم الغضة فوجدتها غارقة في الدماء، أحمد وفوزية استشهدا عصر السابع عشر من يناير 2009 بينما أصيب الآخرين بجروح خطيرة يقبعان في المستشفيات المصرية ويرافقهما والدهما..
حلم لم يتحقق
عن صفات الشهيدين تتحدث:"كانا الأرق قلباً بين أشقائهم.. الخوف يتملكهم سريعاً من أصوات القصف والقذائف إذا ما سمعوها التصقوا بي خوفاً وفزعاً وبحثاً عن أمن وأمان" وتضيف "كان أحمد يحلم بالذهاب إلى الروضة برفقة ابن خالته"، قال ذات مرة:"عندما أذهب إلى الروضة سأشتري بمصروفي الحاجات لك يا ماما"، قوات الاحتلال لم تمهل أحمد تحقيق أحلامه البسيطة التي هي بمثابة حقوق له.
أما فوزية فتؤكد الأم:"كانت بمثابة لعبة بين إيدين أبوها"، لم تتم الطفلة.. لم تهنئ بعد بتفاصيل طفولتها خطفت روحها الصواريخ والقذائف، ما زالت الأم تذكرها وشقيقها تلهو معها في أرجاء المنزل ما زلت تشعر باحتضانها لها والتصاقها بجسدها وقت القصف، لم تفارقها وشقيقها أحمد إلا جسداً بينما الروح ترافقها في كل حركاتها وسكناتها.
مأساة الأم وآلامها لم تقتصر على افتقادها اثنين من أبنائها الأربعة شهيدين بل تعززت بفراقها لمن تبقوا جرحى في مستشفيات مصر مع والدهم، لم يبق لها إلا ذكرى تأبى أن تقتلعها من نبضات فكرها.
شهادة بالجملة
أن تفقدي واحد من فلذات أكبادك شهيداً أمر قد يهون على فقد الاثنين فما بالك لو افتقدت مع الأبناء الأب الزوج السند والمعيل، أي حزن يغمر قلبك وأي دموع تختزنها محاجر عينك، نعمة محمد منصور بربخ في الأربعينيات من عمرها سقط ثلاثة من أبنائها أشلاءً ممزقة تحت بصرها إضافةً إلى الأب، الجميع رحلوا في لحظة شهادة واحدة بينما كانوا في ساحة المنزل، تقول المرأة وما زالت علامات الصدمة ظاهرة على تصرفاتها وكلماتها التي تعثرت على لسانها حزناً وأنينا :ً" جهزت لهم الفطور كان أبوهم يستعد للخروج للعمل بينما يوسف انشغل بمناغاة وملاطفة شقيقه الأصغر- ثلاثة أشهر- وذهب مهدي ومحمد وابن عمهما يوسف لتقطيع جذع الحطب في ساحة المنزل" الطائرات كانت تلغم المنطقة التي تقطن بها نعمة وعائلتها -الشوكة- بمدينة رفح جنوب قطاع غزة ولم تمهل أحداً بأن ينجز ما بين يديه، وتضيف: "كنت أستعد لطهي الخبز على الفرن الطيني وإذا بي أسمع صوت صاروخ، خرجت من بيتي سريعاً إلى الشارع ولساني يدعو لمن أصابهم الصاروخ، لم أجد أحد وعدت مجدداً إلى البيت" أي فاجعة تلك التي كانت تنتظرها وأي ألم يستوطن قلبها من هول المشهد عادت فوجدت يوسف ووالده وشقيقيه محمد ومهدي وابن عمهم موسى تناثروا على امتداد ساحة المنزل.. كانوا الهدف الذي أصابه الصاروخ الثاني " ، تلملم أحزانها تحتضن ما تبقى من ذكرياتهم وتدعو بالرحمة لهم جميعاً تقول:"فوجئت بزوجي معهم شهيد وقد ودعني قبل حين خارجاً إلى العمل، لكنه لم يذهب سريعاً وذهب يساعد الأبناء في تقطيع جذع الحطب لأشعل النار وأطهي الخبز على الفرن الطيني بعد أن نفذ الغاز والكهرباء من البيت" تزيد حسرتها كانت تنتظر أن ترى أبنائها بثياب العرس فشهدتهم بالكفن.
على خاصرتها الجريح والشهيد بين ذراعيها
مسعودة السموني لحكايتها مع مشهد افتقاد فلذات الأكباد وجعاً آخر، حملت في أحشائها طفلاً والتصق بها موسى وإبراهيم بينما حلقت بذراعيها على المعتصم بالله في شهره التاسعة لتحميه من شظايا القذيفة التي أسقطها جنود الاحتلال في غرفة نومها، لم تستطع حمايته فأصابته الشظايا في جسمه وغرق في دمه، تقول الأم بصوت اختنق ألماً وبكاء :" كنا محاصرين في البيت وجميع نساء ورجال عائلة السموني، أخرجنا الرايات البيضاء لجنود الاحتلال بأننا مدنيين ولا يوجد إلا أطفال ونساء" لكن أحد من الجنود سمح لهم بالخروج سالمين على مرأى عيونهم هدموا بيوتهم وأصابوا صغارهم برصاصات قاتلة، تقول مسعودة :"زوجي قال لهم أن الموجودين أطفال فلم يسمعوه أعدموه أمامنا برصاصة قاتلة ثم ضربوا قذيفة في غرفتي" وتتابع "خرجنا من البيت على وقع القذائف أصيب ابني بجروح وأصبت معه بينما لم يتحمل جسد صغيري المعتصم بالله الشظايا فاستشهد بين ذراعي" ..
أي قوة تلك التي ملكتها مسعودة فتصر على حمل صغيرها الشهيد بين ذراعيها لتكرمه بالدفن فلا تعلم متى ستعود إليه تشير:" حملت ابني المصاب على كتف والشهيد المعتصم بالله على الآخر ورحت أجري بهم تحت القصف ووقع القذائف" المرأة كانت تحمل في أحشائها طفلاً رابع كرمها الله بأن بقيَّ حياً في رحمها رغم حالة النزيف التي عانت منها، تعافى جرح ابنها المصاب لكن مشهد المعتصم بالله بين ذراعيها ما زال يدمي قلبها..
لها أون لاين