كتبت "لاورا رودريغث كيروغا" الكاتبة والصحفية الاسبانية المسلمة في صفحة "ويب اسلام" الاسبانية ، وتحت عنوان "من استعمار إلى استعمار جديد" تقول: "زرت يعض مسلمي المكسيك الجدد الذين ظنوا باعتناقهم الاسلام أنهم خرجوا من عباءة استعمارنا الاسباني الكاثوليكي لهم ، لأجدهم غرقى في أحزانهم باستعمار عربي جديد باسم "اسلام خاص" ، فالمبشرون بالاسلام بين تلك القبائل المكسيكية لايقبلون من الناس دخولهم في دين الله وحسب ، بل يرغمونهم على التزام عاداتهم المحلية مع الاسلام، ويرغمون النساء المكسيكيات المسلمات في تلك المناطق على ارتداء جلابيات النساء المسلمات العربيات وتغطية وجوههن وأجسادهن بنفس الطريقة ، لقد عجز استعمارنا نحن الاسبان لهذه المناطق بكل وحشيته أن يفرض على القوم تغيير ملابسهم وعاداتهم ، وأتى المبشرون المسلمون العرب اليوم يريدون أن يحملوا الناس على تغيير أنماط حياتهم ،الشيء الذي لااظن أنه يرضي الله ورسوله ، الاسلام دين عالمي وليس دين العرب ، وكل قوم يطبقون مايستطيعون ضمن نطاق ثقافاتهم المحلية"! -1- .

أظن أننا في "المنطقة العربية" نحتاج كثيرا وكثيرا جدا إلى تطوير قدراتنا على الاستماع ، الاستماع إلى الآخرين ، وجهات نظرهم ، شكاواهم ، رؤيتهم إلينا وإلى الأمور التي نطرحها عليهم بقوة هائلة ، قوة انتشار هذا الدين بدفع ذاتي ، قوة الحوار العالمي الناشيء بين المسلمين والغربيين أثناء وبعد كل صدام يقع بين هاتين الكتلتين الانسانيتين الأكثر أهمية في عالم اليوم ، " المتداخلتين تداخل الحب والحرب في الحياة الانسانية المشتركة" -2- ، قوة العولمة .. الغربية تارة ، والأمريكية تارة ، والاسلامية تارة أخرى !!، قوة الدورات الحضارية التاريخة ، وقدرة البشر على تجاوز الدماء والصدامات ودائما ، قوة الاعلام الغربي الفاتك بالعالم ، قوة الوجود الإنساني الاسلامي اليوم في أوربة!!.

إننا نخطيء وبشدة إذ نظن أن الغرب فقط هو الذي غزانا بقوة سلاحه وسطوة إعلامه في عقر دورنا ، وحاول فرض سياساته ولغته وثقافته ودينه على المنطقة العربية ، وقد ارتكب هذا الغرب في أثناء ذلك خطأين تاريخيين ، يعتبران من أعجب تصرفات الأقدار، قلبا عليه ظهرالمَِّجن ، أولهما تفريغ فلسطين من سكانها لمنحها وطناً قوميا ليهود أوربة بعدما أنهكوها مقاومة ونهباً وتدخلا في سياساتها وأنهكتهم حرقا وتقتيلا وتهجيرا، وثانيهما المبالغة في رغبة وإرادة هذا المستعمر فرض أنماطه الثقافية علينا ، وقد نجح في كلتي المهمتين ، لكن نجاحه ذاك كان سيفا ذو حدين قصم أحدهما ظهر المجتمعات في المنطقة العربية ، وقطع الثاني منهما وتين الغرب نفسه  بأثر انعكاسي ، إذ تسبب في نزيف إنساني من المنطقة نحو الغرب ، فلقد نزح الفلسطينييون المطرودون من أراضيهم نحو الدول   المجاورة ، ثم وبفعل الظلم المركب من ذوي القربى هاجروا إلى الدول الغربية نفسها التي تسببت بخروجهم من ديارهم ، فحلوا إنسانيا وثقافيا وبالضبط محل اليهود الذين أخرجتهم أوربة من أرضها ومنحتهم أوطان الآخرين ليحلوا فيها!!، أما فرض الاستعمار الأوربي ثقافاته علينا ، فلقد نجح أيما نجاح في إلزامنا ثقافاته إلى درجة لايمكننا أن نعي أبعادها إلا لدى مراجعة الثقافة الأسرية والاجتماعية الفرنسية نفسها - على سبيل المثال- بحذافيرها وتطبيقاتها في بلاد الشام والمغرب ، وليس إلا أن نطلع على قوانين الأحوال الشخصية في دول المنطقة التي كانت فرنسة قد استعمرتها لنرى أنها قوانين إسلامية منحوتة من أضيق النظرات الفقهية التي تتوافق مع الرؤية الفرنسية الخالصة لقضايا الأسرة والمجتمع!.

مقابل هذا الغزو "الاستدماري" الثقافي الأوربي في المنطقة العربية ، قام التاريخ برسم الدائرة المنطقية لمسيرته ، والتي تتمثل بالهجرات العربية والاسلامية نحو منطقته ، فهو لم ينسحب عسكريا من بلادنا إلا بعد أن مكّن لمهمته الثقافية ، بحيث بدا وكأنه وبكل بساطة قد ترك لافتة بخط يده ولغته في كل مكان حلّ فيه مكتوبا عليها "الطريق من هنا فاتبعوني" !! ، فتبعته مئات الآلاف هربا من الظلم والفساد والدمار في بلادنا من جهة ، وطلبا لحياة أفضل من جهة أخرى ، فبدأت حركة غزو إنساني معاكس ، لم تكن في حسابات أوربة قط ، غزو إنساني غير مخطط له وغير مدبر وغير موجه ، غزو دون أسلحة ولاقوى عسكرية ولاسطوة إعلامية ولادراسات استراتيجية ولاخطط حربية  ولااستعدادات لوجستية.

حركة هجرة إنسانية طبيعية فرضها التاريخ وطبيعة الأشياء ، هجرة نحو بلاد لاتحب من هاجر إليها ، لأن الإنسان وحده يعتبر وفي كل قواميس السلطة والسياسة والاقتصاد والمجتمع أكبر سلاح تدمير شامل معروف على هذه الأرض !، فما بالك بإنساننا ؟! بضعفه وفقره وعجزه الإنساني ، بتفكيره وثقافته وقناعاته "العربية" ، بعقيدته وتصوراته ورؤاه الاسلامية ، بارتكاسه والشقاق النكد في حياته بين روح الاسلام وبين مظاهر التدين التي احتلت في نفسه مكان فلسفة الحضارة ، هذا الإنسان الذي يحمل في رأسه قناعات ثابتة عن حقوقه المهضومة في بلاده من قبل حكامه ، وعن النهب الدؤوب من قبل الغرب لثرواته ، وعن الحاضر الأسود الذي يحياه ويفرّ منه ، وعن المستقبل المظلم الذي ينتظره وينتظر أولاده ، هذا الإنسان بعبقريته الإنسانية الفذة التي ساعدته على الوقوف على قدميه مرة إثر مرة كلما تكالبت عليه الدنيا ليقع ، وبقدراته البسيطة ومهاراته غير المتطورة ، وبأسلوب حياته الفوضوي غير المنضبط  بشيء ، هذا الإنسان الذي يشكل لغزا حقيقيا لدى التعامل معه ، بسبب الفسيفساء الثقافية والفكرية والعلمية التي يتركها كل يوم على موائد غربته في دول أوربة التي تجد نفسها عاجزة عن التعامل معه ، لأنه يمثل بالنسبة لها مشكلة ، مشكلة حقيقية ناشئة عن هذا التنوع الهائل في صيغ السلوك التي يطرحها ، هذا الإنسان بعجره وبجره .. هو المشكلة .

عندما وقعت اضطرابات "الايخيدو" ضدّ المهاجرين في جنوب اسبانيا عام 2000 ، كانت الأحداث الأشد خطورة في تاريخ اسبانيا الديمقراطية ، خطيرة من حيث إمكانية تكرارها ، خطيرة من حيث هول ماجرى فيها، خطيرة من حيث كشفها عن عمق هوة الأحقاد بين المواطنين الاسبان وبين المهاجرين ، ومن حيث طرحها المشكلات الحقيقية لحرب الثقافات التي تمارس اليوم في العالم كله بصور شتى ، وفي أوربة على وجه الخصوص بصورة دموية خطيرة .

يعانيها الأوربيون يوما فيوما في كراهية وغيظ وصمت رنان ، ويعانيها المهاجرون ساعة فساعة في آلام وشقاء وشكاوى رنانة ، ماحدث في "الايخيدو" قبل تسعة أعوام لم يكن مجرد رد فعل لسكان تلك المنطقة على قتل مهاجر مغربي لمزارعين يعمل في أرضهما بطريقة وحشية ، وذبح آخر لفتاة اسبانية في السوق أمام مرأى ومسمع من الجمهور ، ولا رداً على تحرش وتعرض بعض هؤلاء المهاجرين لفتيات ونساء المنطقة كلما ذهبن أو رجعن من الشاطيء ، وبعض هذا التحرش لمنعهن من لبس ملابس البحر وكشف عوراتهن أمامهم!! ، ومعظم هؤلاء المهاجرين كانوا ممن دخل اسبانية بصورة مؤقتة للعمل في جني المحاصيل حين يحتاج المزارعون للكثير من اليد العاملة التي يسيمونها سوء العذاب النفسي والاهانة والاحتقار، خطورة ماحدث في "الايخيدو" لم تكن فقط  بسبب ردة فعل المواطنين الاسبان الذين قاموا بحرق أكواخ هؤلاء العمال الفصليين المهاجرين ، ولابسبب شنقهم لمواطن جورجي كان يعمل في نفس المهنة ، ولا بقيام المواطنيين بمهاجمة كل المهاجرين في المنطقة بهراوات حديدة تحطم الرؤوس وتدمر البيوت ومحلات التجارة والمساجد التي توجد في تلك المنطقة مما تسبب في هروب عشرين ألف مهاجر من كل الجنسيات والانتماآت من المنطقة خلال يومين ولجوئهم إلى الغابات والجبال فرارا بأنفسهم وأعراضهم ، معظمهم كانوا يعيشون في "الإيخيدو" منذ عشرين عاما بسلام ، آخرون يحملون الجنسية الاسبانية التي لم تنفعهم شيئا في هاتيك الساعات الحالكة ، واضطرت السلطات الاسبانية لإنزال قوات أمن غير مسبوقة الأعداد لإعادة النظام إلى المنطقة، وكانت القاصمة ، حيث كان ذلك العام الأخير من حيث استئجار اليد العاملة المغاربية ، وهبط عدد المغاربة الذين تعاقدت معهم المنطقة لجني المحاصيل العام اللاحق 500 من أصل 23000 عامل .

خطورة ماحدث نابعة من نتائج ذلك الاحتكاك المتفجر بين ثقافتين احداهما تستعلي بمبادئ الحرية والكرامة والديمقراطية وحقوق الانسان ، والاخرى تستعلي بانتمائها إلى حضارة الاسلام والخالق الأحد الذي أخرج الناس من عبادتهم بعضهم بعضا إلى عبادته وحده، ثقافة الغرب لم تصمد أمام تحدي استعلائها بقيم الحضارة الغربية ، كما أن ثقافات المهاجرين المسلمين لم تصمد أمام حقيقة استعلائها بقيم الدين ، كلتاهما سقطت في بؤرة احتقار الآخر ورفضه والشعور بالاستعلاء عليه ، كلتاهما أثبتت أنها عاجزة عن التكيف مع الإنسان الذي تدعيان الانتصار له ، وذلك على الرغم من الجهود الجبارة التي يبذلها كثيرون من الغربيين وكثيرون من المهاجرين إليه في التعامل مع هذه الحقائق .

إن الثقافات الغربية  السائدة اليوم بحاجة إلى إثبات قدراتها على إعادة النظر في سلوكيات أهلها للارتفاع إلى مستوى مايطرحه الواقع عليها من تحديات ، وماتطرحه شعاراتها عليها من واجبات ، أما ثقافات الشعوب الاسلامية فإنها تعيش مأزقا حقيقيا في شقاق خطير بين توجهاتها وبين مايفرضه عليها انتماؤها إلى واحدة من أعظم الحضارات الإنسانية التي عرفتها البشرية ، إن الثقافة التي يحملها المهاجر القادم إلى أوربة من المنطقة العربية اليوم لاتعدو كونها مجموعة من القيم الجاهلية المتوارثة والمتحدرة من عادات وتقاليد الشعوب التي حكمت هذه المنطقة خلال ألف عام ، تراكمت في الضمير الذي يدعى اليوم بالعربي ، لتبدو كل عوراتها في مرآة الآخر ، عورات ماكانت قط لتوجد لو كانت هذه الثقافة اسلامية خالصة نابعة من روح الاسلام وقيم حضارته الربانية .- يتبع-

....................................................

الفهارس:

-1- صفحة ويب اسلام الالكترونية الاسبانية /1-4-2009/ عنوان الموضوع بالاسبانية :

De colonización a colonización y tiro porque me toca/

M. Laura Rodríguez Quiroga - Fuente: Web Islam

-2- كما نقول الباحثة في جامعة الكومبليتنسة في مدريد "س.ادلبي"  في شؤون التربية ، والتي تعتقد بأنه لاوجود أصلا لهاتين الكتلتين ككيانيين منفصلين لشدة التداخل الثقافي والسياسي والانساني بينهما .

-3-راجع كل ماكتب عن هذا الموضوع في مجموعة المقالات الأكاديمية والصحفية التي كتبت عن الموضوع مابين عامي 2000-20004 بالفرنسية والاسبانية وفي بعض المواقع العربية

 

نوال السباعي / العرب القطرية/ قضايا ورأي

JoomShaper