د. رقية بنت محمد المحارب
اختلفت وجهات الباحثين في تحديد مفهوم العولمة وآثارها على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وكثرت الكتابات والتوجيهات النظرية المحذرة من العولمة بمفهومها الغربي، سواء كانت كتباً أو تحقيقات صحفية أو ندوات ومؤتمرات، إلا أن كل ذلك يظل دون المستوى المطلوب لمواجهة هذا الخطر القادم، ولا يقارن بحال من الأحوال بالجهد الضخم الذي يُبذل من أجل فرض مبدأ العولمة وإقناع الشعوب بحتميتها.
وكلنا يعلم أنّ خلاصة القول في العولمة هو في فرض النموذج الثقافي القيمي الغربي على شعوب الأرض، لا سيما ذات الديانة المسلمة، وذلك لاستعماره استعماراً خفياً لا يقاوم ولا يتنبه إليه بعد أن فشلت المواجهات العسكرية مع المسلمين في القضاء على الإسلام.
ومن هنا نشأ ما يسمى النظام العالمي الجديد ليكون العالم الإسلامي بأسره تحت مظلة ونظرة واحدة هي مظلة الثقافة الغربية من الناحية السياسية والثقافية والاقتصادية، مستخدمين في ذلك ما سيطروا عليه من وسائل النفوذ الإعلامي والإرهاب السياسي والسلطة الأممية والفجوات داخل المجتمعات المسلمة المتمثلة بعدد ممن تشرب هذا الفكر ممن لا أخلاق لهم ولا عقيدة راسخة ولا فكر ناضج، لا سيما الذين فصلوا الدين عن الحياة.
لقد ذكر فرانسيس فوكايا في كتابه المشهور "نهاية التاريخ" أنّ العلمانية سوف تكون آخر فكرة يقتنع بها كل الناس، ولن تأتي فكرة أخرى تنافسها، وذكر بكل وضوح أنّ المعركة لفرض الثقافة الغربية وتعميمها على العالم ستكون في العالم الإسلامي، ذلك لأنها تصادم المبادئ الأساسية في الشريعة الإسلامية، وأنّ أبرز القضايا حساسية هي ما يتعلق بالمرأة. ما وراء العولمة:
إنّ العولمة تهدف إلى إزالة الحواجز الثقافية وتذويب الفوارق بين المجتمعات الإنسانية المختلفة لسيادة آلية رأس المال التي يُراد ألا تقيد، وآلية المعلومات التي يُراد ألا تُراقب، لأنها الوعاء الذي يحمل معظم أنماط الفكر الغربي، وكذلك إشاعة وفرض القيم اللأخلاقية.
وسنخص في مجال تناولنا للعولمة مجالاً واحداً خطيراً، وهو المرأة والأسرة، وذلك لأن المرأة هي ركيزة المجتمع والعامل المؤثر، وفي تغريبها وتشريبها فكرة العولمة خطراً كبيراً على المجتمع، وسبب آخر يدفعنا لهذا التناول، وهو أنّه لا يمكن للرجال الوصول إلى شهواتهم إلا عندما يكون الوصول إلى المرأة متاحاً ميسراً، والله عزّ وجل يقول: "والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلواً ميلاً عظيماً"، والسبب الأخير لأنّ المرأة عندما تقتنع أنها مستهدفة، تكون في حصانة، وينعكس هذا على المجتمع بأكمله. هل يمكن أن يكون العالم واحداً؟
إنّ الذي يقرأ كتاب الله فإنه لن يصدق أن يكون العالم كله يدين بفكرة واحدة مهما سخّر لها من إمكانات، لأنّ الله تعالى يقول: "ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم".
ورغم أنّ الإسلام دين الفطرة قد جاء للناس كافة كما قال تعالى: "وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً"، إلا أنه لم يكره أحد من أصحاب الملل على اعتناقه، بل قال تعالى: "لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي" قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، بل جاءت الشريعة بالحث على نشر القيم الإسلامية في كل مكان، وبذل كل جهد ممكن وحسب الطاقة وباعتبار المصالح والمفاسد لإزالة العقبات التي تعترض وصول الدين إلى شعوب الأرض.
ومهما يكن من شيء فإنّ الصراع بين الحق والباطل باقٍ إلى قيام الساعة، والعولمة تريد أن تطمس الإسلام أو تبقيه مشوهاً كحال اليهودية والنصرانية، فما لا يتنافى مع الهوى تُرك، وما يتنافى معه ردّ، وتلك ردة ممقوتة "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض"، وحال الطائفة الباقية على دين الله على خلاف ذلك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خافهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" (أخرجه البخاري). ومن يعمل مخلصاً من أجل الدفاع عن دين الله في الأرض متبعاً في ذلك المنهج النبوي، فهو من الطائفة المنصورة، ولا يسأل عن النتائج، بل عليه بذل غاية الوسع كما قال تعالى: "إنّ عليك إلا البلاغ". كيف نتعامل مع "العولمة":
انقسم الناس إلى ثلاث فئات:
فئة متقلبة الفكر، فتارة مع الماركسية وثانية مع الوطنية، وثالثة مع القومية ورابعة مع العلمانية، يحاولون من خلال المرأة والحرية بث أفكارهم الشهوانية والظهور بمظهر المصلحين! واستطاعت هذه الفئة السيطرة على بعض المنظمات الأهلية ومراكز البحث العلمي والخدمات الاجتماعية، وعلى رغم أنهم يعملون عبر منظمات غير حكومية، إلا أن لهم تأثيراً قوياً على الحكومات، وذلك عبر التحالف القوي مع المنظمات الدولية، وتجد فيهم هذه المنظمات الدولية خير سند لتمرير وتطبيق القرارات الدولية ذات العلاقة بالمرأة والأسرة.
وكما هو معلوم فإنه يتم دعم الحكومات التي توافق على تنفيذ التوصيات الدولية وتعدل من أنظمتها، بقروض وتسهيلات من صناديق أعدت لهذا الغرض، مثل الصندوق الدولي للسكان، كما أنّ البلد التي تتردد في الاستجابة فإنها تُحرم من القروض، وتُمارس ضغوط كبيرة متنوعة عليها بغرض الوصول إلى النتيجة المرجوة.
وفئة ثانية هم من جمع بين العلم الشرعي والتأصيل، وبين الانفتاح على الثقافات المختلفة تعلماً واطلاعاً برؤية ناقدة ممحصة، فقبلت الصالح منها ورفضت ما يتعارض مع دينها وأخلاقها وأعرافها، ولم تتقوقع على ذاتها، بل حاولت من خلال وسائل الاتصالات أن تبين للعالم الدين الحق والفكر الذي يسعد البشرية وينقذها من شقائها الذي أورد الأمم الضالة المهالك. كما تؤدي هذه الفئة رسالة عظيمة في التوعية وفضح مخططات أعداء الأمة.
وفئة ثالثة لم تجد من يبصرها بحقيقة العولمة ومقاصدها وكيفية التعامل معها وهي الأكثرية، وبحسب القوة الإعلامية لإحدى الفئتين المذكورتين آنفاً، فإنها تنحاز إليها، وهذا هو حال أغلب الناس.
ولا بد لخطر فرض القيم الغربية على المجتمعات المسلمة باسم العولمة من مواجهة قوية على المستوى الفردي، وعلى مستوى الدولة، وعلى مستوى المنظمات غير الأهلية المتمثل في الجمعيات الخيرية ومراكز البحوث وغيرها لحماية الهوية الثقافية.
ويأتي استشعار خطر الأفكار المضادة للقيم الراشدة كأول خطوة نحو التحصين، ثم تأتي البرامج المدروسة المنطلقة من وعي وإدراك ومتابعة لما يجري في العالم. والتاريخ مليء بالعبر، فكم من حضارات سادت ثم بادت حينما لم تحافظ على أصالتها واستعارت ثوب غيرها، فضاعت هويتها التي هي عماد سيادتها وتميزها وعزها.
والمرأة مدعوة إلى ما يكفل لها حياة طيبة وفق شرع الله، وهو الذي خلقها وأعلم بما يصلحها، وإذا أضاع المسلمون حقاً مشروعاً للمرأة؛ فعليها أن تطالب به بكلمة الله وشرعه، ومن يريد أن يحفظ لها حقوقها فيمكنه أن يطبق الشريعة الإسلامية ويحميها ويلزم بها، وهي ـ أي الشريعة بمنهجها الكامل الشامل ـ كفيلة بأن تسعد المرأة وتحفظ للمجتمع الأمن وللأسرة الاستقرار دون الحاجة إلى استيراد أنظمة وأفكار ثبت فشلها وأغلقت الجمعيات المرجوة لها.
ومن يريد أن يأخذ للمرأة حقها بزعمه بالقانون على غرار القانون الوضعي فلينظر للمرأة الغربية هل نالت حقها فعلاً؟ وهل نجح القانون في حمايتها من العنف؟ وهل يمكن لقوانين مكتوبة أن ترفع عنها ظلم المجتمع والجشع المادي الذي يسخر إنسانية المرأة ويجعلها سلعة يتاجر بجسدها؟ وأكبر شاهد على معاناة المرأة ملاجيء النساء في الولايات المتحدة، حيث بلغ عددها 1500 ملجأ للنساء المضروبات أو الهاربات من أزواجهن، وهي في ازدياد رغم كل ما نسمع من مؤتمرات ولقاءات!
وقد سجلت في أمريكا حالة اغتصاب بين كل 5 نساء، وفي كندا 150 مركزاً لمساعدة المغتصبات غير الراضيات، أما الراضيات فحدث ولا حرج.. إنه الضياع والتمزق الذي يراد أن يُصدّر لنا باسم العولمة!
إن إعطاء المرأة حق المساواة بالطريقة الغربية كما نصّت عليه اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة يجعل الحياة مستحيلة، إذ لا يمكن أن تسير السفينة بربانين لهما نفس السلطة في التحكم، فإن سارت حين اتفاقهما فكيف تسير حين اختلافهما.
إضافة لما تحويه الاتفاقية من تقنين للشذوذ وإلغاء أي قيد يحد من الفساد الأخلاقي. وإن كان في هذه الاتفاقية وغيرها من توصيات المؤتمر من مواد في صالح المرأة؛ فإنّ في الشريعة ما هو أكمل وأشمل.
ومن الضروري أن ندرك أن الدعوات إلى السفور وتقديم الرموز المتحررة واختلاط البنين والبنات في سنوات الدراسة الأولى؛ إنما هي خطوة من خطوات كثيرة لتغريب المرأة وجعلها نسخة مشوهة من المرأة الغربية الهائمة على وجهها.
وبالنسبة للحضارة الإسلامية، فلا يزال الدين الإسلامي يمثل مرجعية للناس ونظاماً لحياتهم، خاصة في مسائل الأسرة والأحوال الشخصية وفي مسائل الفكر والثقافة والاعتقاد، وهو ما يزعج الأمم المتحدة والغرب؛ إذ إنّ المسلمين يمثلون أكثر من مليار ونصف نسمة، والعالم الإسلامي بإمكاناته وثرواته وأهله يهدد النظام العالمي الجديد بفقدان سيطرته عليه ما بقي الإسلام حاكماً للجوانب الاجتماعية والثقافية وللهوية.
ولذا لا بد من تسديد ضربات إلى الصميم للقضاء على الهوية الإسلامية وعلى النظم الاجتماعية التي أثبتت أنها القلعة التي حمت العالم الإسلامي من السقوط والانهيار، ولذا فإنّ الصراع مع الغرب انتقل من السياسي والاقتصادي إلى الديني والثقافي والاجتماعي المتصل بالهوية والوجود؛ وهو ما يتطلب وعياً جديداً وأدوات جديدة؛ كما يتطلب يقظة ومقاومة.
إنّ الإنسان: الرجل، والمرأة، والأطفال، والأسرة، هم المقصودون بالهجمة العالمية الجديدة، وهم المقصودون بالمرجعية الكونية البديلة للنظام العالمي الجديد؛ وعلى عالمنا الإسلامي أن ينتفض ويستيقظ؛ فإنّ وجودنا مرتبط بمدى ارتباطنا بكلمة: "مسلمين" اسماً وفعلاً؛ وإلا فالاستبدال كما قال تعالى: "وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم".
لها أون لاين