الكلام هنا عن نموذج على جانب سلبي لواقع الحرية وممارستها في الغرب، عن حكاية "إيفا هيرمان"، ولعل القراء يذكرون هذا الاسم من خلال التعريف بكتابها (مبدأ حواء.. من أجل أنوثة جديدة )عند صدوره عام 2006م، وقد أحدث في ألمانيا -وخارجها- ضجة كبيرة، وعبّأ ضدّها أقطاب "الحركة النسوية"، عبر مقالات صحفية لا تنقطع، بل وكتب تكيل لها اتهامات غوغائية بمعنى الكلمة، تجاوزت جميع ما أوردته من حجج وإحصاءات لتلصق بها وصمة "المتخلفة"، مع تأويل نظرتها إلى المرأة ودورها وأخطاء الحركة النسوية بحقها في الغرب وإعادة سائر ما كتبت إلى أسباب شخصية محضة وشذوذ مرفوض، مع أنها هي التي كانت في الصدارة اجتماعيًّا عند نشر كتابها، وفي أوج تألقها مهنيًا في عملها الإعلامي، في أشهر نشرات التلفاز الإخبارية، وعبر تقديم برامج ناجحة تستقطب المشاهدين على نطاق واسع، وقد حازت بسبب نجاحها فيها على العديد من ألوان التكريم والجوائز، وسبق أن نشرت العديد من الكتب عن الطفولة والأسرة والمرأة، إلى أن نشرت كتابها ذاك الذي أحدث تلك الضجة، وسبّب لها التضييق في مكان عملها أيضًا.
غضب الحركة النسوية
إيفا هيرمان نشرت لتوِّها في سبتمبر 2007 كتابًا آخر بعنوان "مبدأ سفينة نوح" الذي يعني سفينة إنقاذ المجتمع من الطوفان، فوضعت فيه مزيدًا من النقاط على الحروف، وتحوّلت من الانتقاد إلى طرح الحلول والبدائل، مؤكدة على ضرورة التمسك بما تنعته الحركة النسوية الغربية بأنه "أدوار تقليدية" مرفوضة ما بين المرأة والرجل، بمعنى تحميل الرجل مسئولية تأمين دخل الأسرة والمرأة مسئولية رعايتها، واعتبار ذلك ضروريًّا -دون حظر العمل على المرأة- من أجل استعادة نواة المجتمع الأولى بعد أن تفككت عراها، وتؤكد أن هذا ما لا غنى عنه لمواجهة الأمراض الاجتماعية الخطيرة المنتشرة، كالمخدرات، والجريمة على مستوى الشباب، وانخفاض منسوب الإنجاب، وانتشار ظواهر العنف في المدارس، فضلاً عن الإباحية الجنسية وما يترتب عليها.
كان من الممكن أن تستمر "المعركة كلاميًّا" بين إيفا هيرمان وخصومها، كما كان الحال مع الكتاب السابق، وكما هو الحال مع كل من يتعرّض بالنقد للأسس التي قامت عليها "الحركة النسوية" وبلغت أوجها فيما عُرف بثورة الطلبة أو "الثورة الجنسية" من عام 1968م، ولكن يبدو أنه أصبح مطلوبًا تحويل وجهة المعركة مع إيفا هيرمان عن مضمونها الأصلي إلى ما يضع حدًّا لها؛ لينشغل الإعلام بميدان آخر بعيد عن ذلك المضمون.
هنا تكفي لتحقيق الهدف عبارة واحدة صدرت عن إيفا هيرمان، تصلح للتشهير بها بما يشبه الضربة القاضية، أو ما يراد أن يكون ضربة قاضية، فالعبارة تتعلق بالعهد النازي، وهنا تتوقف معايير الحرية في التعبير عن الرأي والرأي المخالف، ولا يُسأل من يقول شيئًا يخرق "المحظورات" عن تعليل علمي أو منهجي لما يقول، فالجريمة ثابتة قبل الحوار.
الإعدام "على الهواء"
العبارة التي صدرت عن إيفا هيرمان أثناء التعريف بكتابها الجديد، عبارة مختلفٌ فيها على الأقل، ومن العسير استيعاب أن تسبّب "فصلها الفوري" من مكان عملها، وزاد على ذلك دعوتها إلى برنامج تلفاز تحاور فيه "خصومها" لتبيّن موقفها، ثم ليطردها مقدم البرنامج بأسلوب استعراضي أثناء البث المباشر.
يوم 10-10-2007، بعد يوم واحد من طردها الاستعراضي على شاشة التلفاز.. نشر موقع صحيفة "دي فلت" مقالة بعنوان "الإعدام على الهواء"، وبقلم "آنتيه هيلديبراندت"، جاء فيه أن ما صنعه يوهانس كيرنر، الزميل السابق لهيرمان، كان في الأصل من أجل إعطائها فرصة لتدافع عن نفسها، ولكن طرده لها يثير التعاطف معها ويضعها في موقع الضحية من جديد.
وتضيف كاتبة المقال أنه كان ظاهرًا من البداية أن الغاية الحقيقية لصاحب البرنامج لم تكن من أجل إفساح المجال لضيفته كي توضح موقفها وحقيقة ما تفكر به بشأن العهد النازي، وحتى اختياره للضيوف الثلاثة الآخرين في برنامجه، بدا مقصودًا للقيام بحملة مضادة لإيفا هيرمان.
وتتحدث كاتبة المقالة عن مئات الرسائل التي وصلت إلى الصحيفة -وهي صحيفة واحدة فقط- من مشاهدين أبدوا انزعاجهم من صنيع مقدم البرنامج وتساؤلهم عن مدى الحق الذي يملكه لطرد من يدعوهم إلى برنامجه، وهو يعمل في قناة تلفازية تتبع للحق العام، أي تعمل بأموال دافعي الضرائب والرسوم في الدرجة الأولى، وليس من الإعلانات كالمحطات الخاصة.
لعبة الكلام.. والحرية
إيفا هيرمان أوردت في موقعها الشخصي نص العبارة التي تناقلتها وسائل الإعلام لتؤكد أنها "مجتزأة"، مقارنةً بأصل العبارة كما هي محفوظة لديها، وأرفقت ذلك بشرحٍ ينفي الاتهام الموجّه إليها والذي سرى في الإعلام سريان النار في الهشيم، وكأنه كان يُنتظر بفارغ الصبر أن يزلّ لسانها، أو أن تقول ما يصلح لنشره كزلّة لسان.
ترجمة النص الأصلي لكلمات إيفا هيرمان وفق ما نشرته في موقعها هي:
"يجب أن نخفّف الأعباء عن الأسر لا أن نحمّلها المزيد، وأن نحقّق العدالة بين أسرٍ ليس لديها أطفال وتلك التي لديها عدة أطفال، ويجب علينا بصورة خاصة إعادة القيمة الذاتية لصورة "الأمّ" في ألمانيا والتي تمّ تضييعها للأسف في حقبة النازية وفي حركة 1968 من بعد، حركة 1968 قضت عمليًّا على ما كان لدينا من القيم، ومن قبل كانت حقبة بالغة الوحشية، كان فيها سياسي معتوه إلى أقصى حد، خطير إلى أقصى حد، قاد الشعب إلى الهلاك، جميعنا يعلم ذلك، ولكن كان يوجد لدينا ما هو جيد، تلك هي القيم، أطفال وأمهات وأسر، ترابطٌ قُضِي عليه من بعد، لم يَعُد مسموحًا أن يبقى شيء إطلاقًا".
أما وسائل الإعلام فتناقلت العبارة مع حذف مقدمتها، بما في ذلك الكلمات الحاسمة في تحديد المعنى، أي قولها: "ويجب علينا بصورة خاصة إعادة القيمة لصورة الأمّ في ألمانيا والتي تم تضييعها للأسف في حقبة النازية وفي حركة 1968 من بعد"... وواضح أنها بذلك تحمّل العهد النازي جزءًا من المسئولية عن تضييع تلك القيم، وعندما يُقرأ النص كاملاً، يصبح الحديث في الجزء الثاني من النص، أي ما اجتزأه الإعلام منفصلاً عما قبله، حديثًا عن "القيم" من حيث أصل وجودها في المجتمع، دون نسبتها إلى العهد النازي، أي دون ما يقول به الاتهام الموجه إلى إيفا هيرمان، أنها "امتدحت العهد النازي"!..
أين الحقيقة؟..
هل هذا مهم أصلاً؟..
لا شك أن المشكلة ليست مشكلة حرية التعبير، فما قالت به إيفا هيرمان، بغض النظر عن حقيقته، لا يعتبر جريمة تستدعي العقوبة، أما فصلها عن عملها فيستند إلى أمر آخر هو أن ما قالت به أو نُسب إليها منفصلاً عن سياقه يمثّل وجهة نظر تخالف المبادئ التي يتبناها الجهاز الذي تعمل لديه، وهذا مما يمكن أن يحكم به القضاء لاحقًا وفق "قانون العمل".
ولكن سيان أين تنتهي القضية، ستبقى وصمة "الإشادة بالعهد النازي" عالقة بإيفا هيرمان، وهذا مطلوب على ما يبدو، وفي هذا الإطار يمكن أن تتحرّك آلة الإعلام ما شاء لها التحرك، سيان من يقف معها ومن يقف ضدها، ففي الحالتين يصبح أصل القضية نسيًا منسيًّا، فلم تَعُد إيفا هيرمان الكاتبة التي تمرّدت على "الحركة النسوية" ودعت إلى تحرير المرأة من قبضتها، بل المرأة المتهمة بحق أو دون حق بالدفاع عن "العهد النازي"، وبتعبير آخر: المرأة الموضوعة في قفص الاتهام، وعليه ستسلّط الأضواء، وليس على مؤلفة "مبدأ حواء" و"مبدأ سفينة نوح" وغيرهما من الكتب.
هذا ما يعطي نموذجًا لجانب من الجوانب السلبية لواقع الحرية في الغرب، ليس فيما يتعلّق بشعارات "تحرير المرأة" فحسب، بل ما يتعلّق بحرية التعبير وحرية الفكر وحرية الإعلام أيضًا.
إسلام أون لاين