تكتنف قضية المرأة اليوم شعارات برّاقة , وأصوات مزيفة , تقودها دعوات هدامة , منساقة لنداءات الشيطان وأعوانه....أفكار متضاربة متناقضة , تتناطح كل يوم, عبر شاشات التلفاز والإذاعات , وفي النوادي والمجتمعات.., لكنها رغم تناقضها تجتمع حول محور واحد , ألا وهو هدم الإسلام والقضاء عليه , عن قصدٍ أو غير قصد...فمن قائل يقول : إن المرأة لم تخلق إلا لتطيع زوجها , وتربّي أولادها , وتخدم بيتها , وأن ليس لها من بيتها خروج إلا مرتين , إحداهما من بيت أهلها إلى بيت زوجها, والثانية من بيت زوجها إلى مثواها الأخير, مستقلّة نعشاً يحملها, وهي تقول :يا قارئاً كتابي ترحّم على شبابيبالأمس كنت بينكم واليوم تحت الترابوهذه الفئة أناس متحجرون , وقد أعمى الجمود والانغلاق أعينهم عن رؤية الحق والحقيقة , فراحوا ينسبون إلى الإسلام ما هو منه براء , من تحجيم لدور المرأة , ومنع لتعليمها , وتغاضٍ عن رأيها , بحجة أنهن ناقصات عقل ودين , وهم يظنون أن لهم على ما يدّعون أدلة وبراهين , ويتذرعون بقول الله تعالى :( وقَرن في بيوتكن ولا تبرَّجن تبرج الجاهلية الأولى) - سورة الأحزاب الآية 33 -وبالحديث الشريف الذي رواه سيدنا علي كرم الله وجهه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي شيء خير للمرأة ؟ فسكتوا, فجئت فقلت لفاطمة : أي شيء خير للنساء ؟ قالت : ألّا يراهن الرجال. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنما فاطمة بضعة مني [أخرجه البزار في مسنده : 2 / 160]وفي مقابل هذه الجموع المنغلقة على جمودها , والتي رضيت بفهمها الأعوج لتلك الأحكام , وتطبيقها الأرعن لتلك المفاهيم , ظهرت في الاتجاه المعاكس مجموعة أخرى , راحت تنادي بالتحرر من هذه القيود حتى الانفلات , بحجة أن كل ما هو قديم تخلّف وانحطاط , وكل ما هو وليد القرن العشرين تحضر وارتقاء.فأصبح الحجاب عندهم عائقاً يمنع المرأة من ممارسة دورها في المجتمع , وأصبح الالتفاف إلى أمور البيت والزوج والأولاد وأداً للمرأة وهي على قيد الحياة , أما التزام الأدب والاحترام في التعامل مع الأزواج , فأصبح عندهم ذلاً وعبودية ,
ولم تكن المرأة المسلمة لتقف عند حدود تعلم العلوم الإسلامية فقط , وهي ترى في قرآنها الكريم , وسنة المصطفى عليه السلام إشارات واضحة , تدل على وجوب تعلم الإنسان كل ما فيه صلاحه في دينه ودنياه , ومن ثم تعليمه لغيره , فخاضت غمار العلوم جميعها من متعلمة إلى معلمة , فكان من النساء الكاتبة والشاعرة والطبيبة والقاضية والأستاذة والمدرّسة.أما دورها في الإصلاح الاجتماعي , فدور لا يستهان به على الصعيد العام والخاص , فكانت توجه وتقدم النصائح , تدعو إلى سبيل ربها بالحكمة والموعظة الحسنة امتثالاً لأمر الله عز وجل : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض , يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) - سورة التوبة الآية 71 -حتى بلغ الأمر بإحدى النساء أن أتت النبي صلى الله عليه وسلم مسلمة , ثم رجعت إلى قومها منذرة مبلغة ؟ لتأتيه في العام القابل , ومعها عشيرتها من رجال ونساء , يعلنون إسلامهم أمام النبي صلى الله عليه وسلم.وهذه أم شريك القرشية , امرأة من أهل مكة , أسلمت في بدء الدعوة الإسلامية , والمسلمون يومئذ قلة مستضعفة , فجعلت تدخل على نساء قريش , تدعوهن إلى الإسلام وترغبهن فيه , حتى ظهر أمرها لأهل مكة , فزجروها قائلين : لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا.. – أخرجه ابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة ( 8 / 239 ) -أما امرأة ابن مسعود التي كانت امرأة صناعاً , فإنها قد جسدت دور المرأة في العمل , وذلك حين أتت النبي صلى الله عليه وسلم , فقالت : يا رسول الله إني امرأة ذات صنعة , أبيع منها , وليس لي ولا لزوجي ولا لولدي شيء , فشغلوني فلا أتصدق , فهل لي في ذلك أجر ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لك في ذلك أجر ما أنفقت عليهم , فأنفقي عليهم " – أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ( 4 / 178 ) -وكذلك زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم , فإنها كانت تعمل بيدها وتتصدق وأمام مرأى النبي عليه السلام , بل وبتشجيع منه , لتبرهن لمن بعدها من النساء , أن مشاركتهن في أعمال مهنية وحرفية , بما لا يتعارض مع مسؤولياتهن الأسرية , وبما لا يتنافى مع قواعد دينهن الحنيف , أمر جائز في الإسلام. – أخرج ابن حبّان في صحيحه ( 3314 ) قوله صلى الله عليه وسلم : " أسرعكن بي لحوقاً أطولكن يداً " فكان أطولهن يداً زينب لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدّق
أما الدور الأهم بين الأدوار , والذي يبرز لنا المكانة المرموقة التي أعطاها الإسلام للمرأة , فهو خوضها في أشد الأمور حساسية , وأكثرها تعقيداً وهي السياسة , فكان لها دورها الهام في الإصلاح السياسي , في حراسة قيم المجتمع وتنميتها , وتقويم الاتجاه العام....وقد أرسى النبي عليه الصلاة والسلام دعائم هذا الحق السياسي للمرأة , مؤكداً دورها الإيجابي , حين اعتبر المبايعة من طرف النساء أمراً ضرورياً , حيث أسهمن في بيعة العقبة الثانية , بالعهد السياسي على أنفسهن وأموالهن , ونصرة رسوله.كما تحدثنا السنة الشريفة عن أم سلمة زوجة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم , وهي تشير عليه في صلح الحديبية , فكان لها الفضل الأكبر في إنقاذ المسلمين من كارثة كانت ستحل بهم لا محالة , لولا مشورتها الحكيمة , وعقلها الراجح الرزين , وذلك عندما تباطأ المسلمون في الانصياع لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحلّل من العمرة عام الحديبية , حزناً على عدم أدائها , فدخل النبي صلى الله عليه وسلم خيمته مغضباً , وهو يقول : " يا أم سلمة هلك المسلمون , أمرتهم فلم يمتثلوا !! فما كان من أم سلمة إلا أن هدّأت من روعه وهي تقول مواسية : يا رسول الله , إن الناس قد دخلهم أمر عظيم , مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح , ورجوعهم بغير الفتح , فاخرج إليهم ولا تكلم أحداً , حتى تنحر بُدُنَك , وتدعو حالقك , فيحلق لك , ففعل النبي عليه السلام ذلك , فلما رأى المسلمون ذلك قاموا فنحروا , وجعل بعضهم يحلق لبعض – أخرجه البخاري في الشروط، باب : الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط ( 2734 ) -وتظهر على الساحة أيضاً نسيبة بنت كعب المازنية , وخولة بنت الأزور , وأم سليم , وغيرهن كثر , وهن يشاركن في الجهاد في سبيل الله , خدمة للقوم , وتضميداً للجرحى , وحثاً للمجاهدين وإعلاء لهممهم , بل إن منهن من كانت تستل سيفها , لتشارك في القتال , إذا ما دعت الحاجة , فتكون قدوة لمن بعدها من النساء – أخرج قصة نسيبة ابن هشام في السيرة النبوية ( 4 / 30 )، وقصة أم سليم بنت ملحان ( 5 / 114 ) -هذه هي المرأة في الإسلام , امرأة فعالة منتجة على جميع الصعد , وفي جميع المجالات , وهي لا تقل شأناً عن الرجال , ولقد سمعنا جميعاً بنساء أمثال السيدة خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت عضواً هاماً , ومؤيداً قوياً للنبي عليه السلام في دعوته إلى الإسلام , حتى استحقت أن نطلق عليها لقب وزيرة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.وهذه أم حرام المجاهدة التي خاضت البحار... , والخنساء الصابرة على البلاء , كلهن قد فُقْنَ – شجاعة وعقلاً وإقداماً – الكثير الكثير من الرجال.
فلو كان النساء كمن فقدْنا لفُضّلت النساء على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخرٌ للهلال
أما ما يدعيه هؤلاء المتشدقون المتفيهقون , من أن الله عز وجل قد خاطب النساء بقوله : ( وقرن في بيوتكن ولا تبرّجن تبرج الجاهلية الأولى ) - سورة الأحزاب الآية 33 -فحرموا على المرأة الخروج من بيتها وملاقاة الرجال فإنه تفسير مجتزأ للقرآن , ومثل هؤلاء كمثل الشيطان لما سئل عما يحفظ من القرآن فأجاب : ( فويل للمصلين) ولو أن هؤلاء رجعوا إلى سياق النص الكريم لعلموا أن هذا النص ما أنزل إلا خاصاً في زوجات النبي عليه السلام أمهات المؤمنين , حيث حرم عليهن الخروج من منازلهن إلا لحاجة , كما أوجب على المسلمين إذا أرادوا منهن حاجة – سؤالاً أو استفساراً – أن يخاطبوهنّ من وراء حجاب ( وإذا سألتموهنّ متاعاً فاسألوهنّ من وراء حجاب , ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهنّ )أما استدلالهم بحديث الزهراء لما سأل أبوها المصطفى عليه السلام عن خير حال المرأة , فأجابت بأن لا ترى رجلاً ولا يراها رجلٌ , فهو حديث ضعيف الإسناد , لا يصلح الاحتجاج به , كما ذكر أرباب علم الحديث..إضافة إلى أنه يعارض عشرات الأحاديث الصحيحة التي ذكرناها آنفاً , والتي تظهر لنا كيف كانت المرأة المسلمة على عهد النبي عليه السلام , تلقى الرجال , فتراهم ويرونها , دون أن يكون في هذا أي ارتكاب للحرام , ما دام كل من الطرفين يمتثل قوله تعالى : ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ) وقوله جل وعلا : ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ) - سورة النور:30،31 -وما دام كل هذا يتم باللباس الشرعي والاحتشام الكامل , والبعد عن مواطن الريبة والفجور..وكم حدثتنا السيرة النبوية أيضاً , والأحاديث الصحيحة عن الزهراء , سيدة نساء الجنة , وعن كثرة خروجها من بيتها , وملاقاتها للرجال في مجلس أبيها الرسول عليه السلام , مما يجعلنا نغض الطرف عن هذه الرواية المنسوبة إلى الزهراء عن خير أحوال النساء , الضعيفة السند والمضمون..لا يسعني في خاتمة المطاف إلا أن أتوجه إلى كل امرأة مؤمنة بالله , مرتدية لباس الإسلام , راغبة إليها وإلى أخواتها المسلمات في الرجوع إلى أحكام الإسلام , ففيها العزة والرفعة والكرامة , ولتكن صحابيات رسول الله صلى الله عليه وسلم , خير قدوة لهن , ولا يصدهن صدى تلك الصرخات المولية كغثاء السيل من أعداء الإسلام , عن القيام بدورهن خير قيام , ولا يكن ممن قال فيهالشاعر: >
طلع الدينُ مستغيثاً إلى الله و قال العباد قد ظلموني
يَتسَمَّوْن بي وحقك لا أعرف منهم أحداً ولا يعرفوني
الدكتورة لينة الحمصي مسلمات اون لاين