من سمات المسلمة التقية: أنها إذا ابتليت بشيء في نفسها أو مالها أو ولدها أو زوجها، تصبر وتحتسب الأجر عند الله، ولا تسخط أو تدعو بدعوى الجاهلية، ولا يرى منها الله تعالى إلا ما يحب، الإيمان بالقضاء والقدر عندها عقيدة راسخة في قلبها، صبورة في النوازل، وقورة في الزلازل.

ترجو ما عند الله لأنه خير وأبقى، تعلم أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن رحمة الله غالبة لانتقامه وغضبه، وأن لله تعالى حكمة فيما ابتلاها به، فلم يقدره عليها عبثًا ولا سدى، ولذلك فهي تحمد الله تعالى ولا تسخط، حتى تظهر بمظهر العبودية أمام سيدها ومولاها.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:

"إذا جرى على العبد مقدور يكرهه فله فيه ستة مشاهد:

أحدها: مشهد التوحيد، وأن الله هو الذي قدره وشاءه وخلقه، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

الثاني: مشهد العدل، وأنه ماض فيه حكمه، عدلٌ فيه قضاءه.

الثالث: مشهد الرحمة، وأن رحمته في هذا المقدور غالبة لغضبه وانتقامه.

الرابع: مشهد الحكمة، وأن حكمته سبحانه اقتضت ذلك، لم يقدره سدى، ولا قضاه عبثًا.

الخامس: مشهد الحمد، وأنه له سبحانه الحمد التام على ذلك من جميع وجوهه.

السادس: مشهد العبودية، وأنه عبدٌ محضٌ من كل وجه، تجري عليه أحكام سيده وأقضيته، بحكم كونه ملْكه وعبده، فيصرفه تحت أحكامه القدرية، كما يصرفه تحت أحكامه الدينية، فهو محل لجريان هذه الأحكام عليه"، وهكذا هو حال المسلمات مع ما يصيبهن من أنواع الضر والمصائب.

 

أنواع الصبر:

المسلمة لا تستغني عن الصبر في جميع أحوالها، ذلك أن جميع ما تلقى في هذا الحياة الدنيا يحتاج إلى نوع من أنواع الصبر وهي كما يلي:

الصبر في السراء

فبعض النساء قد تبتلى بالمال والترف والرفاه، وجميع ملذات الدنيا، وهي تحتاج إلى الصبر في جميع هذه الأمور، فلا تركن إليها، ولا تنهمك في التلذذ بها، وتراعى حق الله تعالى في مالها بالإنفاق، وما لم تضبط نفسها عن الانهماك في الملاذ، أخرجها ذلك إلى البطر والطغيان والإسراف، حتى قال بعض العارفين: المؤمن يصبر على البلاء، ولا يصبر على العافية إلا صدِّيق. وقال عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر.

الصبر على العبادة

وهي تحتاج إلى الصبر على العبادة؛ لأن النفس بطبعها تنفر عن العبودية، ثم من العبادات ما يكره بسبب الكسل كالصلاة، ومنها ما يكره بسبب البخل كالزكاة، والصبر على العبادة يحتاج المزيد إلى الصبر في ثلاثة أحوال:

1- حال قبل العبادة، وهى تصحيح النية، والإخلاص والصبر على شوائب الرياء.

2- وحال في العبادة نفسها، وهى أن لا تغفل عن الله تعالى في أثناء العبادة، ولا تتكاسل عن تحقيق الآداب والسنن.

3- بعد الفراغ من العمل: وهي الصبر عن إفشائه، والتظاهر به لأجل الرياء والسمعة، وعن كل ما يبطل عملها، فمن لم تصبر بعد الصدقة عن المن والأذى أبطلها.

الصبر عن المعصية

المسلمة تحتاج إلى توطين نفسها على الصبر عن المعصية، وهناك من المعاصي تختص بها النساء، نحو التبرج والسفور، عدم طاعة الزوج، وهناك من المعاصي يشترك فيها الرجال والنساء، لكنها بين النساء أشهر نحو الغيبة والنميمة، وكفران العشير وتغيير خلق الله.

الصبر على المصائب

آخر أنواع الصبر وهو المشهور بين الناس هو الصبر على المصائب، فالمرأة قد تبتلى بفقدان زوج أو ولد أو قريب أو بزوال نعمة، وسائر أنواع البلاء، فالصبر على ذلك من أعلى المقامات، لأن سنده اليقين.

ويدخل ضمن هذا النوع، أو قريب منه الصبر على أذى الزوج والأهل والجيران، والصبر على أذى الناس من أعلى المراتب، قال الله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186]. وقال {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97]، وقال: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126].

 

 

أمور تعين على الصبر:

ما من شك أن الصبر ضرورة دنيوية وفريضة شرعية، ومع ذلك فهو مرُّ المذاق، صعب على النفس، لذا فما أحوج التذكير بجملة من الأمور التي تعين على الصبر، دفعًا لوساوس الشيطان، وحتى لا يستولي على قلب المؤمنة، فمن ذلك:

أولاً: معرفة طبيعة الحياة الدنيا:

فعندما تتذكر المسلمة دائمًا أن الدنيا ليست بجنة نعيم، ولا بدار مُقامه، وإنما هي دار ابتلاء وتكليف، فإن ذلك يساعدها على الصبر الجميل، وعدم الاستغراب بكوارثها وأحزانها.

ثانيًا: اليقين بحسن الجزاء عند الله:

فكلما استحضرت المسلمة ذلك الأجر العظيم الذي ينتظرها عند الله تعالى، إذا ما هي صبرت ورضيت بقضاء الله وقدره، فإنها لا شك ستصبر وترضى بما قدره الله عليها، بل ربما تشكره على ذلك.

قال تعالى: (ِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10]، وقال أيضًا: (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 96].

ثالثًا: اليقين بالفرج:

فإن ذلك يبدد ظلمة القلق، وشبح اليأس، ويضيئ نفس المؤمن بنور الصبر الذي لا يخبو، قال تعالى: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) [الطلاق: 7]، وقال أيضًا: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح: 5، 6].

رابعًا: الاستعانة بالله:

فمن كان الله معه كان معه كل شيء، ومن فاته الله، فاته كل شيء. قال تعالى:(اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا)[الأعراف: 128].

خامسًا: التأسي بأهل الصبر والعزائم:

فالتأمل في سير الصابرات، وما لاقينه من ألوان الشدائد، وما ذقنه من صنوف البلاء، يعين على الصبر، ويطفئ نار المصيبة ببرد التأسي. قال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) [الأحقاف: 35].

سادسًا: استصغار المصيبة:

فمهما كانت مصيبتك، فهناك من أصيبت بما هو أشدُّ منك. قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي، فإنها أعظم المصائب"(رواه الدارمي وصححه الألباني).

 

نساء صابرات

- أم سليم (رضي الله عنها):

عَنْ أَنَسٍ ـ رضي الله عنه ـ ، قَالَ: "مَاتَ ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ"، فَقَالَتْ لِأَهْلِهَا: لَا تُحَدِّثُوا أَبَا طَلْحَةَ بِابْنِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أُحَدِّثُهُ، قَالَ: فَجَاءَ فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ عَشَاءً، فَأَكَلَ وَشَرِبَ، فَقَالَ: ثُمَّ تَصَنَّعَتْ لَهُ أَحْسَنَ مَا كَانَ تَصَنَّعُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَوَقَعَ بِهَا، فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهُ قَدْ شَبِعَ وَأَصَابَ مِنْهَا، قَالَتْ يَا أَبَا طَلْحَةَ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ قَوْمًا أَعَارُوا عَارِيَتَهُمْ أَهْلَ بَيْتٍ، فَطَلَبُوا عَارِيَتَهُمْ أَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ؟ قَالَ: لَا، قَالَتْ: فَاحْتَسِبْ ابْنَكَ، قَالَ: فَغَضِبَ، وَقَالَ: تَرَكْتِنِي حَتَّى تَلَطَّخْتُ، ثُمَّ أَخْبَرْتِنِي بِابْنِي، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَارَكَ اللَّهُ لَكُمَا فِي غَابِرِ لَيْلَتِكُمَا، قَالَ: فَحَمَلَتْ، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ وَهِيَ مَعَهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِذَا أَتَى الْمَدِينَةَ مِنْ سَفَرٍ لَا يَطْرُقُهَا طُرُوقًا، فَدَنَوْا مِنْ الْمَدِينَةِ، فَضَرَبَهَا الْمَخَاضُ، فَاحْتُبِسَ عَلَيْهَا أَبُو طَلْحَةَ، وَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ : يَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ: إِنَّكَ لَتَعْلَمُ يَا رَبِّ إِنَّهُ يُعْجِبُنِي أَنْ أَخْرُجَ مَعَ رَسُولِكَ، إِذَا خَرَجَ وَأَدْخُلَ مَعَهُ إِذَا دَخَلَ، وَقَدِ احْتَبَسْتُ بِمَا تَرَى، قَالَ: تَقُولُ أُمُّ سُلَيْمٍ يَا أَبَا طَلْحَةَ: مَا أَجِدُ الَّذِي كُنْتُ أَجِدُ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا، قَالَ: وَضَرَبَهَا الْمَخَاضُ حِينَ قَدِمَا فَوَلَدَتْ غُلَامًا، فَقَالَتْ لِي أُمِّي: يَا أَنَسُ لَا يُرْضِعُهُ أَحَدٌ حَتَّى تَغْدُوَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ احْتَمَلْتُهُ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَصَادَفْتُهُ وَمَعَهُ مِيسَمٌ ، فَلَمَّا رَآنِي، قَالَ: لَعَلَّ أُمَّ سُلَيْمٍ وَلَدَتْ، قُلْتُ : نَعَمْ فَوَضَعَ الْمِيسَمَ، قَالَ: وَجِئْتُ بِهِ، فَوَضَعْتُهُ فِي حَجْرِهِ، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَجْوَةٍ مِنْ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ، فَلَاكَهَا فِي فِيهِ حَتَّى ذَابَتْ، ثُمَّ قَذَفَهَا فِي فِي الصَّبِيِّ، فَجَعَلَ الصَّبِيُّ يَتَلَمَّظُهَا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "انْظُرُوا إِلَى حُبِّ الْأَنْصَارِ التَّمْرَ"، قَالَ: فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ. (رواه مسلم).

- أم سعد بن معاذ (رضي الله عنهما):

عندما قتل ابنها عمرو بن معاذ (رضي الله عنه) جاءت تعدو، وسعد أخذ بلجام فرسه، فقال: يا رسول الله! أمي، فقال: "مرحباً بها" ووقف لها. فلما دنت عزاها بابنها عمر بن معاذ، فقالت: أما إذا رأيتك سالماً، فقد اشتوت المصيبة (أي قلتَّ) ثم دعا لأهل من قتل بأحد وقال: يا أم سعد! أبشرى وبشرى أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعاً، وقد شفعوا في أهلهم جميعاً قالت: رضينا يا رسول الله! ومن يبكى عليهم بعد هذا؟ ثم قالت: يا رسول الله! أدع لمن خلفوا منهم، فقال: "اللهم اذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم وأحسن الخلف على من خلفوا" (الرحيق المختوم 257، السيرة الحلبية 2/47.) ، وما أن تمر سنتان من موت عمرو، إلا ويلحق به أخيه البطل الشهيد سعد بن معاذ (رضي الله عنه) الذي اهتز له عرش الرحمن فرحا بقدوم روحه، علي أثر جرح قد أصابه في غزوة الخندق، بعد أن حكمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني قريظة - وهو ابن سبع وثلاثون سنة - فصاحت أمه فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"ألا يرقأ دمعك ويذهب حزنك، فإن ابنك أول من ضحك الله إليه، واهتز له العرش". (رواه الحاكم ووافقه الذهبي وقال الهيثمي 9/309 رجاله رجال الصحيح).

فجاءت أم سعد تنظر إليه في اللحد، فردها الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعوها"، فأقبلت حتي نظرت إليه وهو في اللحد قبل أن يبني عليه اللبن والتراب، فقالت: أحتسبك عند الله، وعزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي قبره. (الطبقات الكبرى لابن سعد).

- أعرابية:

قال الأصمعي: أصيبت أعرابية بابنها وهي حاجة، فلما دفنته، قامت علي قبره وقالت: والله! يا بني، لقد غذوتك رضيعا، وفقدتك سريعا، وكأنه لم يكن بين الحالين مدة ألتذ بعيشك فيها، فأصبحت بعض النضارة والغضارة ورونق الحياة، والتنسم في طيب روائحها، تحت أطباق الثرى، جسدا هامدا، ورفاة سحيقا، وصعيداً جرزاً.

أي بني: لقد سحبت الدنيا عليك أذيال الفناء، وأسكنتك دار البلى، ورمتني بعدك بنكبة الردى.

أي بني: لقد أسفر لي عن وجه الدنيا، صباح داج ظلامه. ثم قالت: أي رب: منك العدل. وهبته لي قرة عين، فلم تمتعني به كثيرا، بل سلبتنيه وشيكا ثم أمرتني بالصبر ووعدتني عليه الأجر، فصدقت وعدك، ورضيت قناعك، فرحم الله علي من ترحم علي من استودعته الروح، ووسدته الثرى - اللهم: ارحم غربته، وآنس وحشته، واستر عورته، يوم تنكشف الهنات والسوءات.

ولما أرادت الرجوع إلي أهلها، قالت: أي بني! إنني قد تزودت لسفري، فليت شعري، ما زادك لبعد طريقك، يوم معادك؟

اللهم إني أسألك له الرضا، برضائي عنه، اللهم إني أستودعك من استودعتني إياه في أحشائي جنينا واثكل الوالدات، ما أمضى حرارة قلوبهن، وأقلق مضاجعهن، وأقصر نهارهن، وأقل أنسهن، وأشد وحشتهن، وأبعدهن من السرور، وأقربهن من الأحزان. ثم حمدت الله - عز وجل - واسترجعت وانصرفت وأبكت كل الحاضرين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

ـ كتاب : "مختصر منهاج القاصدين"، أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي، مكتبة دار البيان، دمشق.

ـ كتاب: "صلاح البيوت في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ"، محمد علي محمد إمام، مطبعة السلام، مصر.

كتاب: "هذه زوجتي، عصام بن محمد الشريف، نسخة الكترونية.

JoomShaper