غزة (فلسطين) - خدمة قدس برس : ذكريات كثيرة، وأشواق متراكمة، وحظر عن الاتصال والزيارة، هي التي بقيت لعائلة المعتقلة وفاء البس الأسيرة الوحيدة في سجون الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة، أما الآمال في الحرية فلن تنقطع حتى تعود الأسيرة إلى حضن عائلتها التي تنتظرها على أحرّ من الجمر.
ليست حكاية من حكايات الزمن القديم، أو قصة من نسج الخيال، بل هي حقيقة واقعة في زمن طغى فيه الاحتلال، وصمتت فيه الدنيا أمام تغول السجان، شابة في عمر الزهور، اسمها وفاء، بلغت السادسة والعشرين من عمرها، تنهشها أنياب المحتل وتلقي بها في عزل الرملة، حيث حياة لا ترتقي للآدمية، وظروف لا تصدقها العقول.
لم نسلم من دموع الأم الصابرة، ولا من آهات الوالد المحتسب، ولا من زفرات الأخوة المشتاقين، استقبلتنا العائلة في غرفة متواضعة، زينتها صورة "وفاء" وعلم فلسطين، وشخصت العيون نحو الصورة قبل أن يبدأ الحديث.

تحمل وجها جريئا، وعيونا تضيء بالتحدي والعنفوان، وملامح طغت عليها علامات الحب الكبير لفلسطين والقضية، وهذا – حسب والدها سمير البس "أبو ياسر" (50 عاما) ما جعلها تواجه العزل الانفرادي منذ أكثر من سبعة أشهر، تعيش خلالها بين مخالب الأسيرات الإسرائيليات الجنائيات، وتعاني فيه ظلما مضاعفا، وتحرم من أبسط الحقوق الآدمية، حيث لا تقبل بالسكوت على الظلم، وتعد أولى المدافعات عن حقوق الأسيرات داخل السجون.

واعتقلت الأسيرة البس من سكان مخيم جباليا شمال قطاع غزة، عن معبر بيت حانون (إيرز) شمال قطاع غزة  في حزيران (يونيو) 2005 بتهمة محاولة تنفيذ عملية فدائية والانتماء لحركة "فتح"، وقد حكم عليها بالسجن لفعلي لمدة (12 عاماً)، أمضت منها خمس سنوات.

وتقبع الأسيرة البس بالعزل الانفرادي في سجن "نفي تريستا" بالرملة منذ أكثر من سبعة أشهر، وهي الأسيرة الوحيدة من قطاع غزة، من مجموع (35 أسيرة) يقبعن في سجون الاحتلال الإسرائيلي، حيث تجاوزتها صفقة "شريط شاليط" التي أبرمت بين حركة حماس والاحتلال الإسرائيلي مطلع تشرين أول (أكتوبر) 2009.

ويمنع الاحتلال والدها ووالدتها وأي من أفراد عائلتها من زيارتها بحجج واهية تتذرع بها بين الحين والآخر، إلا عن بعض الاتصالات الهاتفية المحدودة، حيث أوضحت والدتها أم ياسر (45 عاما) أن سلطات الاحتلال منعت أفراد الأسرة من الدخول لزيارتها، رغم الطلبات المتكررة لذلك عن طريق اللجنة الدولية للصليب الأحمر، كما أنها تمنع دخول الملابس والكانتينا لابنتها، مؤكدة أنها تعيش ظروفا قاسية.

وأوضحت الأم، التي كانت تحتضن صورة صغيرة لابنتها تنظر إليها بين الحين والآخر، لـ"قدس برس"، أنها تتابع أخبار ابنتها المعتقلة عن طريق أهالي الأسيرات من محافظات الضفة الغربية المحتلة، وتعرب عن تشوقها الشديد لرؤيتها ولو لثانية واحدة أو لمرة واحدة، مشيرة إلى أن "وفاء" تعاني من عدَّة أمراض في أنحاء جسدها.

ولم تستطع هذه الأم الصابرة، كما هو حال كل أمهات الأسرى الأبطال خلف القضبان، إخفاء دموعها اشتياقاً لابنتها وحزناً على فراقها الطويل، وهي تتحدث حول معاناتها داخل السجن واشتياق أسرتها لها خارجه، وتقول: "هل يُعقل أن يمضي كل هذا الوقت دون مشاهدة ابنتي المريضة".

وبحسب ذويها الذين أعياهم الصمت الدولي والضعف العربي والظلم الإسرائيلي، فإن ابنتهم تعاني من ظروف مرضية، وهم يحرصون على متابعتها عن طريق بعض المحامين واتصالات هاتفية مع ذوي زميلاتها الذين يشاهدونها.

والد وفاء قال لـ"قدس برس": "إن مرور الوقت يفاقم معاناته كأب لم يشاهد ابنته منذ نحو خمسة أعوام، ويسمع أخبارها من المحامين"، مشيراً إلى أن ما يفاقم معاناته ما تتعرض له كريمته من عزل وتعسف ومضايقات كبيرة من قبل إدارة السجن، بسبب رفضها المستمر واحتجاجها على الإجراءات المتبعة ضدها وضد باقي الأسيرات.

يُشار إلى أن الأسيرة "وفاء" قررت مشاركة الأسرى في كافة الخطوات النضالية والاحتجاجية التي أعلنوا أو سيعلنون عنها لاحقاً، وأنها تشاركهم إضرابهم عن الطعام في الأيام التي أعلنوا عنها (7-17-27) من الشهر الجاري، بالرغم من وجودها في زنازين العزل الانفرادي وظروف احتجازها الصعبة.

وأكدت إحدى المحاميات اللاتي زرن الأسيرة البس مؤخرا أنها تُصر على الاستمرار في مشاركة الأسرى في الإضراب القادم يوم 27 من الشهر الجاري، وفي أي خطوات نضالية يعلنون عنها، وبإرادة قوية ومعنويات عالية، بالرغم من المضايقات التي تتعرض لها من قبل السجانين والسجانات جراء ذلك.

والد الأسيرة، أشار إلى أنه بلغ العائلة أن جهوداً كبيرة ومتواصلة تبذل من أجل إنهاء فترة عزل ابنته وإعادتها إلى أخواتها الأسيرات في سجن "الدامون"، قبل مرور فترة الثلاثة شهور التي حددتها مؤخراً المحكمة الإسرائيلية في "بتاح تكفا" لافتا إلى أن ابنته بحاجة لمتابعات صحية مستمرة، مشيراً إلى أنها اشتكت مراراً لمحامين من ظروف اعتقالها، وفي كل مرة تضاعف إدارة السجن إجراءاتها كعقاب لها على تمردها وشكواها.

وتحرص والدة الأسيرة وفاء البس على المشاركة في الاعتصام الأسبوعي لذوي الأسرى أمام مقر اللجنة الدولية للصليب الأحمر بغزة، وتحاول الاتصال هاتفياً بالإذاعات المحلية لإسماع صوتها لابنتها داخل السجن، وقالت إنّها تترقب صفقة الإفراج عن الأسرى، معربة عن أملها في مشاهدة ابنتها بأسرع وقت، وأن تشملها أي صفقة تبادل مرتقبة مع سلطات الاحتلال.

يذكر أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تعتقل في سجونها 35 أسيرة فلسطينية، جميعهن من الضفة الغربية باستثناء الأسيرة وفاء من قطاع غزة.

وناشد والد "وفاء" كل الجهات المعنية من أجل التدخل لإصدار تصريح لزيارة كريمته، مؤكداً أن القضيَّة أصبحت إنسانيَّة بحتة، خصوصاً وأن مرور خمسة أعوام على اعتقال ابنته دون زيارة أمر لا يصدقه عقل ولا يقبله منطق ويخالف كل الأعراف الدولية.

وقال: "وضع وفاء الآن صعب داخل العزل الانفرادي، إذ تعيش مأساة حقيقية في ظل ظروف العزل العصيبة، حيث انتشار الحشرات بكثرة وحرمانها من الكنتين (المخصصات المالية) والتفتيش العاري والعقاب المتواصل".

ورغم أن والد الأسيرة بدا أكثر تماسكاً أثناء حديثه عن ابنته، إلا أن البكاء والحزن كان مسيطراً على والدتها التي لم تفارق الدموع وجهها، وتساءلت: "ليتخيل أحد ممن يدعون الديمقراطية أنني لم أر ابنتي لأكثر من خمس سنوات، كيف ستكون حالتي النفسية كأم؟".

وقالت: "فقط المكالمات الهاتفية المحدودة هي التي نتواصل فيها مع وفاء منذ اعتقالها، ونحن نعلم أنها تعاني كون شخصيتها جريئة ولا تقبل الإهانة، الأمر الذي يعرضها دائماً للمضايقات الإسرائيلية وهو ما يزيد قلقي عليها".

وتستعيد الأم المحتسبة شريط ذكرياتها مع ابنتها الأسيرة وتقول: "كانت زي العسل، تضفي على الأسرة أجواء جميلة من المرح والفرح وهي تناقش هذا وتبتسم لذاك"، لافتة إلى أن أكثر المواقف التي لم تفارقها وأثرت بشكل كبير على شخصيتها كانت مشهد الطفلين إيمان حجو ومحمد الدرة وقتلهما بدم بارد بقذائف ورصاصات الاحتلال الإسرائيلي".

وذكرت أن "وفاء" كانت سخية معطاءة، تحب الفقراء وتعطف على المساكين، وكانت تستقطع جزءاً من مصروفها الجامعي حتى تنفق على بعض المعوزين الذي كانوا يترددون على المنزل، وتفرح بذلك كثيرا.

وتمر الذكرى الـ36 ليوم الأسير الفلسطيني هذا العام ووفاء تصارع الظلم الإسرائيلي والصمت المدوي من حولها، تتساءل وتتساءل عائلتها من خلفها، متى الفرج، فيما ترتفع الأصوات جميعاً: "صامدون حتى آخر رمق، ولو كره المحتلّون".

JoomShaper