هل يمكن لحجاب طالبة في جامعة تركية أن يسبّب سقوط علمانية العلمانيين الأصوليين من ورثة أتاتورك؟..
هل يمكن لحجاب فتاة تونسية أن يسقط سيطرة الفرد الحاكم بأمره على شعب محروم من مقومات حقوقه الأساسية وليس من "الحجاب" فحسب؟..
هل يمكن لحجاب تلميذة مسلمة في مدرسة فرنسية أن تزعزع وجود العلمانية في فرنسا وترسيخها عبر مائة عام مضت؟..


هل يمكن لحجاب مقدّمة برامج في تلفاز مصري أن يشكّل خطرا على "فزّاعة" الأمن القومي في مصر؟..
ما السرّ وراء تلك الحرب العنيفة المتواصلة ضدّ الحجاب

 

، وقد بلغت ذروتها في تركيا هذه الأيام، حتى باتت البقية الباقية من الأصوليين العلمانيين على استعداد لتقويض مختلف منجزات تركيا، الدولة والمجتمع، من أجل "حرمان الطالبات المحجبات من طلب العلم!".. وبالتالي من مختلف ما يعنيه العلم في حياتهن المستقبلية!..
لماذا؟.. ما سرّ هذا الحجاب الذي يدفع إلى مثل ذلك العداء؟..

ذرائع تتهافت أمام وعي المرأة

لقد شهد التيار الإسلامي وشهدت جماعاته وشهدت الصحوة الإسلامية عموما ألوانا من الحرب الضروس عبر عشرات السنين الماضية، وصلت إلى استخدام وسائل الإعدام والسجن والتعذيب والنفي والحظر والحصار وكل ما يمكن أن يتفتق عنه فكر الاستبداد إن صحّ وصفه فكرا. لكنّ مسيرة الحرب على الإسلام في بلاده وخارج بلاده، تحت عنوان الحرب على "الإسلام السياسي" أو أي عنوان آخر، لم تشهد من التركيز المتواصل على استهداف جانب معين من جوانبه، مثل حجاب المرأة المسلمة، سواء أسماه خصوم الإسلام حكما إسلاميا شرعيا، أو أسموه رمزا سياسيا، أو أسموه تعبيرا عن الرجعية واستعباد المرأة، سيّان، فخصومتهم تُسقط عنهم شرط النزاهة للمشاركة في تعريف أمر إسلامي صميمي.
ولم تترك الحرب ضد الحجاب حجة ولا ذريعة ولا أسلوبا من أساليب التضليل والإغراء والترهيب، جيلا بعد جيل من عهد سلامة موسى إلى عهد جاك شيراك!..
قالوا إن تحرير المرأة من حجابها يحرّرها اجتماعيا ويساويها بالرجل. ولقد تحررت المرأة الغربية من كلّ ساترٍ لجسدها وكلّ قيد على عفتها، فعلام ارتفعت نسبة وجودها في سوق الدعارة وتجارة "الرقيق الأبيض" إلى أكثر من تسعين في المائة ولم تصل إلى معشار هذه النسبة في المواقع التوجيهية السياسية والاقتصادية والمالية والقضائية وغيرها في مختلف المجتمعات الغربية دون استثناء؟.. (آخر التقارير الرسمية للاتحاد الأوروبي في هذه الأيام يثبّت أيضا استمرار التفاوت في الأجور، وهو الآن حوالي 22 في المائة لصالح الرجل في بلد كألمانيا!).
قالوا إن حجاب المسلمة إكراه لها فهي تضعه تحت سيطرة الرجل عليها في أسرتها وفي مجتمعها. وعلى افتراض صحّة ما يقولون، فهل البديل التحرّري هو استصدار قوانين لترغم الدولة بجبروتها النساء على نزع الحجاب؟.. ثم ما الذي بقي من مصداقية لذلك الزعم بعد أن أصبح ارتفاع نسبة انتشار الحجاب يواكب بصورة مطّردة مرافقة لارتفاع وعي المرأة نفسها، بارتفاع مستوى تعليمها، وتحرر إرادتها، ومن ذلك تطلعها إلى تخصص جامعي وعمل وظيفي وإنتاج وعطاء في المجتمع، تأتي القوانين العلمانية الأصولية للحيلولة دونها ودونه؟..
قالوا إن الحجاب رمز سياسي تستغله الحركات والجماعات الإسلامية للتغرير بالنساء لا سيما الشابات من الجيل المعاصر!.. وهذا من أغرب ما انتشر من ذرائع حافلة بإدانة أصحابها لأنفسهم، فهي تعني اضمحلال احترامهم لعقل المرأة وشخصيتها وقدرتها على التمييز، وهي تعني زيف ادّعاء التعددية وحرية التعبير، فوصول تصوّر آخر غير التصوّر العلماني الأصولي، إلى وسيلة تعبير كالمجلة، يقلبها من "تنويرية" إلى "تغريرية"، وهي تعني أيضا إقرارا بالعجز المطلق، فالمتهمون بالتغرير لا يملكون شيئا يذكر من وسائل التوجيه يوازي ما سيطر عليه العلمانيون الأصوليون -ولا يزالون إلى حد كبير- من وسائل الفكر والثقافة والإعلام، حتى أفقروها من الفكر والثقافة والإعلام، وجعلوها أو حاولوا أن يجعلوها أدوات لنشر الإباحة الجنسية بامتياز؟..
إنّما ينبغي الإقرار، بأنّ من أخطر ما روّجوا له من ذرائع لحربهم، زعما يقول إن الحجاب بمفهومه الشرعي هو مجرّد "وسيلة لحجب مفاتن المرأة عن النظرة الشهوانية للرجل".
هذه صيغة مبتذلة ردّدها مبتدعو نظرية "المجتمع الذكوري"، وتلقفها -للأسف- بعض المدافعين عن المرأة ومكانتها من منطلق إسلامي، فأساؤوا من حيث أرادوا الإحسان، حتى وصل بعضهم في المغالاة والتنطع -ولا يؤبه به- إلى القول بحجب المرأة نفسها عن المجتمع ودورها فيه، وليس حجب "مفاتن جسدها" فحسب!..
ليس الحجاب قطعة من قماش تغطي مفاتن المرأة، وإن كان هذا أيضا بعض المطلوب، فليست مفاتنها سلعة للعرض/ ولكن للحجاب مكانة أهم وأشمل وأبعد تأثيرا.

آخر ما في الجعبة الحربية

لقد أدرك خصوم الإسلام أكثر من بعض أهله موقع الحجاب في المنظومة الإسلامية للقيم والأخلاق والتربية، السارية على الرجال والنساء معا، والأساسية في بناء مجتمع إنساني قويم، فكان تركيزهم على المرأة وحجابها، هو البداية الأولى لحربهم على الإسلام نفسه، ولا تزال هذه الحرب مستمرة إلى اليوم، وازدادت ضراوة بازدياد إقبال الفتيات المسلمات في أنحاء العالم على الحجاب.
إن ما يجري في تركيا، أوّل بلد إسلامي فرض العلمانية وتوابعها على أهله، وما يجري في تونس وبلدان عربية وإسلامية أخرى، وفي بعض البلدان الغربية، شاهد على إفلاس مختلف الوسائل المتبعة في الحرب ضد الحجاب. ولهذا أصبح استخدام الاستبداد المكشوف لأدواته شاملا للحجاب إلى جانب فرض رؤى منحرفة، سياسية واقتصادية وفكرية واجتماعية وثقافية.
وكما أخفقت الوسائل المستخدمة عبر عشرات السنين الماضية نتيجة ارتفاع الوعي، ستخفق الوسائل الحالية للاستبداد إخفاقا ذريعا أيضا نتيجة ارتفاع وعي المرأة بالذات، وسيزداد انتشار الحجاب، ويزداد الالتزام بمقوماته الشرعية، ويزداد مفعوله في حياة المرأة المسلمة ودورها الأساسي في بناء المجتمع.
الحجاب جزء من المظهر الخارجي للباس، ولكن الأهم من ذلك هو موقعه المركزي من المنظومة الإسلامية للقيم والأخلاق والتربية، وهذا الموقع كامن في أن غيابه يغيّب الحاجز النفساني في ضبط التعامل اليومي المباشر بين الجنسين.
المجتمعات التي نادت بتحرّر المرأة في الغرب بمعنى تحرير جسدها في الدرجة الأولى، واعتبار ذلك أساسا للمساواة بين الجنسين، سعت للتعويض عن ذلك الحاجز النفساني، للحفاظ على حدّ أدنى من ضبط العلاقات الجنسية، واستخدمت مختلف سبل التوجيه والتربية والتقنين، وأخفقت. وهذا بعض أسباب سقوط مغزى الشعار المرفوع منذ زمن طويل، أنّ الكبت الجنسي يؤدّي إلى الاعتداء الجنسي، وأن تحرير العلاقات بين الجنسين يجعلها قائمة على الإرادة "الحرة" لديهما على قدم المساواة، فالحصيلة بالأرقام تؤكّد انتشار مختلف أشكال الاعتداءات والجرائم الجنسية بأضعاف ما كانت عليه قبل عقود معدودة، وتؤكّد أن النسبة الأعظم من ضحاياها هي نسبة "النساء المتحررات" على ذلك النحو المعوج، من مختلف الأعمار، وفي مختلف المواقع الاجتماعية التي شغلتها المرأة.

استهداف الحجاب استهداف للنهوض

ليس الحجاب مجرّد قطعة قماش توضع على الرأس، بل ليس "مجرّد" أمر من أوامر الشارع الحكيم خصّ به المرأة المسلمة من بين العديد من الأحكام الشرعية الأخرى. إنّه يمثل قطعة محورية مركزية من قطع فسيفساء متكاملة في تشكيل منظومة الأخلاق والقيم، وهذه بدورها جزء جوهري من منظومة التربية وصناعة الإنسان، الركيزة الأولى التي تميّز ما يطرحه الإسلام للحياة البشرية بمختلف جوانبها عمّا يطرحه سواه.
لقد شرّع الإسلام استقلال القضاء قبل 1400 عام، ولكن -بغض النظر عن التطبيق- تقول التصوّرات الوضعية الحديثة أيضا باستقلال القضاء، وشرّع سيادة القانون دون تمييز بين أهل البلد الواحد، وهي تقول بذلك أيضا، وشرّع الشورى، والعدالة، والمساواة، وجعل الحقوق أساسا للعلاقات البشرية.. وجميع ذلك مما تقول به بدرجات متفاوتة التصوّرات المنبثقة عن عصر التنوير الأوروبي.
أمّا ذلك "الدمج العضوي" البعيد المدى بمفعوله وتأثيره، ما بين منظومة القيم والأخلاق، وكل تشريع تنظيمي، سياسي وتقنيني واقتصادي واجتماعي، فهذا ما أوجده الشارع الحكيم في منظومة الحياة والحكم في الإسلام، ولم يصل إلى مثله أو قريب منه أيّ تصوّر بشري قديم أو حديث، وهنا يأتي الحجاب ليمثل جزءا أساسيا في عملية الدمج هذه.
الحجاب -عندما يسري الأخذ به وفق ما أراد الشارع له- جزء من صناعة شخصية الفتاة المسلمة، والمرأة المسلمة، وصناعة سلوكها، وأساس فعال لترسيخ التعامل بينها وبين الرجل في المجتمع الواحد المشترك، ليسري مفعول قواعد الكفاءة، العلمية والتخصصية والمهنية والإنتاجية والإبداعية، دون تأثير عوامل أخرى. وليس استبعاد عامل الفتنة الجنسية هنا إلا كسواه، ممّا تستبعده المنظومة الإسلامية للأخلاق والقيم والتربية، مثل عامل الفساد المالي والمحسوبية. ومن هنا كان الحجاب، مع سواه من الضوابط الشرعية، عنصرا بالغ الأهمية من عناصر صناعة الإنسان الفرد وصناعة العلاقات البشرية في المجتمع، وهما من مسيرة النهوض بمثابة القدمين لا يستغنى عن أي منهما.
ليس المقصود هنا -فقط- أن الفتاة المحجبة وفق ما ثبت الشارع الحكيم من أحكام وشروط للحجاب، أحرص على علاقات اجتماعية قويمة مع الجنس الآخر، فهذا جانب واحد وإن كانت له أهميته الذاتية. بل وليس المقصود هنا أنّ الأم المحجبة تربي أطفالها على الإسلام، فهذا أيضا جانب لا يستهان بأهميته ولكن لا ينفرد بنفسه في مفعول الحجاب في حياة المجتمع.
المرأة الطبيبة، والداعية، والعاملة، والطالبة، والعالمة المتخصصة، والتقنية المبدعة، والكاتبة الأديبة، والسياسية الموجّهة، والنائبة الممثلة لإرادة الشعب، والمحامية والقاضية.. المرأة في كل ميدان من ميادين الحياة قادرة مع توافر منظومة القيم والأخلاق والتربية، أن تساهم في صناعة الإنسان صناعة قويمة، وتوجيه العلاقات البشرية توجيها سليما، ودور الحجاب في ذلك هو أنّه أحد المقومات الأساسية -وليس الوحيد من بينها- لتكون للمرأة المسلمة حيثما تحرّكت، شخصيتها الفاعلة، انطلاقا من التصوّر الذي يحدّده الإسلام، ولتؤدّي دورها المناط بها على أحسن وجه.
هذه المرأة "المسلمة" المساهمة في النهوض هي التي يراد حظر وجودها وتحجيم دورها والقضاء عليه لو أمكن، لحساب بقاء صيغ التبعية الأجنبية القائمة، ولهذا كان غياب الحجاب أو تغييبه، وما يزال، يضعف مقوّمات النهوض الذاتي الحقيقي، وكان وجوده يعزّزها، ولهذا أيضا كان التركيز عليه جزءا من الحرب على الإسلام دربا للنهوض والتقدم، وليس جزءا من الحرب على المرأة المسلمة فقط.

 

نبيل شبيب

موقع مداد القلم

JoomShaper