سلام نجم الدين الشرابي
عندما كنت طفلة كنت أعتقد أن الشرير له قرنان في رأسه، قبيح الشكل رث الثياب، وأن الإنسان الطيب جميل الشكل حسن المظهر، وعلى رأسه دائرة من النور.
ومع التطور التعليمي والفكري الذي مررت به كالآخرين، عرفت أن الشرير يمكن أن يكون جميل الشكل، حسن المظهر وأنه لا وجود للقرنين ولا لدائرة النور.
وعرفت أيضاً أنه لا يوجد إنسان فيه خير مطلق ولا شر مطلق، وأن بذرتيهما موجدتان فيه، وإنما هي عوامل عدة يمكن أن تساعد في تنمية إحداهما على حساب الأخرى.
ولو انطلقنا من هذه القاعدة واعترفنا أن الخطأ صفة لازمت الإنسان منذ أبينا آدم عليه السلام، وأن الإنسان ليس منزّهاً عن الأخطاء، وجميعنا بشر نخطئ ونصيب، فليس منا من هو معصوم عن الخطأ، نجد أننا في تعاملاتنا مع الناس نعاني قصوراً فكرياً، وأننا لا زلنا نبحث عن قرني الشر ودائرة النور. مما يستلزم أن نقف مع أنفسنا من جديد وندرك أن الوقوع في الخطأ وارد، وبالتالي يجب علينا أن نتعامل مع المخطئ بشي من الواقعية والإنصاف، وننظر إلى أن العيب ليس في الوقوع بالخطأ وإنما العيب في الاستمرار فيه.
قد نقر بهذه الكلمات عندما نقرؤها، ولكن عند التطبيق فالأمر مختلف.
هناك فئة في المجتمع تعاني من المجتمع وإقصائه لها، وهم السجناء المفرج عنهم، خاصة النساء والفتيات منهم، واللواتي تبدأ معاناتهن مع خروجهن من السجن. فلا يفرحن بالحرية، وهن يعلمن أنهن يخرجن من سجن صغير إلى سجن أكبر، العقوبة فيه لا تنقضي! وسجّانه لا يرحم ولا يغفر ولا ينسى! فتيات تلقين الصفعة الموجعة برفض أولياء أمورهن استلامهن.
في دراسة تطبيقية أجرتها الباحثة الاجتماعية الدكتورة بدرية العتيبي على 153 سعودية محكوم عليها بالسجن في المؤسسات الإصلاحية النسائية، ودور رعاية الفتيات في المجتمع السعودي، لقياس مستوى تقبل الأهل للفتيات بعد الإدانة والسجن، أظهرت النتائج استمرار رفض تقبل الأسرة للمرأة المحكوم عليها في المؤسسات الإصلاحية، وعدم تسامحهم معها، وعدم اتصالهم هاتفيا بها.
وخلصت الدراسة إلى أن 36 % من السجينات السعوديات يعدن إلى الجريمة بعد الإفراج عنهن لافتقاد التقبل الأسري لهن.
ولا يختلف اثنان أن المذنب لا بد أن يعاقب، ففي ذلك حماية للمجتمع من الجريمة، وحفظاً لحقوق الناس من الضياع، ويتم تحقيق الغاية من ذلك في فترة الحبس، أما أن تستمر العقوبة إلى ما بعد انقضائها بحيث تصبح تهمة لا براءة منها، فهذا فيه من الظلم الذي ينعكس سلباً على المجتمع ككل، إذ إن الوصم الاجتماعي الذي يتعرض له السجناء المفرج عنهم من أهم العوامل التي تدفعهم لمعاودة السلوك الإجرامي؛ لأنه يؤدي إلى النبذ الاجتماعي، كما يقول الدكتور مضواح آل مضواح ـ مدير الإصلاح والتأهيل بسجون منطقة عسيرـ مؤكداً أنه لا يوجد من يتقبل الموصوم ويثني عليه ويشعره بقيمة ذاته، سوى رفاق السوء وعصابات الإجرام، فالمجتمع هو المرآة التي يرى الفرد صورته من خلالها، ومن المفترض أن تكون هذه الصورة طبيعية، لكنها تظهر مشوهة في حالة الوصم بالانحراف.
الحلول المقدمة من قبل الجهات الرسمية على أهميتها لا يمكن أن تحل المشكلة، إذ إن تخصيص مؤسسات لرعاية الفتيات لإيواء من ترفض أسرتها استلامها، وصدور قرار بإلزام ولي الأمر باستلام ابنته أو زوجته بعد أخذ ميثاق منه أنه لن يؤذيها وسيحسن إليها، بالإضافة إلى برامج عدة لتأهيل السجناء وتعليمهم وتثقيفهم وتوجيههم حتى يعودوا إلى رشدهم، ويساهموا في تقدم المجتمع وازدهاره، وإعدادهم لكسب قوت يومهم؛ لا ينفع ما لم يشعر المجتمع بمختلف أطيافه بمسؤوليته تجاههم وتقبلهم، فإعدادهم للعمل يتطلب قبول المجتمع لهم؛ لتوظيفهم في قطاعاته المختلفة، وتأهيلهم نفسياً واجتماعياً يتطلب قبول مخالطتهم وتزويجهم.
عودة إلى الكتاب الكريم والسنة المطهرة الذين نقتدي بهما في كل مناحي حياتنا؛ يجعلنا نعيد النظر في قصور نظرتنا تجاه هذه الفئة، فإذا كان الله تعالى جلّ في علاه يقبل التوبة من عباده: "وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ" ، فكيف بنا نحن العباد ألا نقبل توبة إخواننا؟!
وفي السيرة النبوية دروس وعبر في التعامل مع الخطائين يقول رسول صلى الله عليه وسلم: "إن خير الخطائين التوابون" وجميعنا يعرف قصة المرأة المخزومية التي سرقت وكيف أقام الرسول المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام عليها الحد، إلا أنه تقبل توبتها بعد إقامة الحد عليها، وفي ذلك قالت عائشة واصفة المخزومية: فحسنت توبتها بعد وتزوجت، وكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يجب أن يعي المجتمع أن المذنب يمكن إصلاحه وتغيير سلوكه وتعديل انحرافاته، وأن للمفرج عنهم حقوقا علينا، مما يتطلب من المجتمع تحمل المسؤولية كل بحسب موقعه واستطاعته، إذ إن عدد المفرج عنهم كبير، ولا يمكن لجهة واحدة أن تنهض بهم دون تقبل المجتمع لهم، وإن كنا نطالب برفع الظلم عن الرجال منهم، فإننا نشدد النداء من أجل النساء، فإذا كان الرجل مع قوته وقدرته على الكسب مهما كان العمل صعباً يعاني من عدم تقبل المجتمع له، فكيف بالفتاة الضعيفة، ماذا يمكن أن يحل بها حين يرفضها أهلها ومجتمعها، وليكن في حادثة المخزومية وتعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبرة لنا وأسوة حسنة في تعاملنا مع النساء المفرج عنهن.
ولندع عنا الصورة النمطية التي تجعلنا نبحث عن قرني الشر ودائرة النور في رؤوس من نقابلهم.
لها أون لاين