ليست القضية قضية النقاب والخمار (أو الحجاب كما شاع وصفه) في فرنسا، كما أثيرت مجددا وبلغ بها الأمر أن يتعرض لها الرئيس الفرنسي نيقولا ساركوزي في كلمة له تصنف بأنها على أعلى المستويات في مفردات الحياة السياسية الفرنسية.
ومع تأكيد أهمية الفروض الإسلامية المتعلقة بلباس المرأة في الإسلام فليس مجهولا أنها ليست من أركانه، كما أن التعبير عن انتشار الصحوة الإسلامية أوسع نطاقا وأعمق مغزى وأبعد مفعولا من قابلية حصره في لباس المرأة

رغم أنه بات في مقدمة مظاهر التعبير عن الصحوة عالميا، فالمشكلة المفتعلة سياسيا عبر التسييس الغربي للخمار أو النقاب، ومع تصعيد التوترات المرتبطة بها فترة بعد فترة، ليست مشكلة المسلمة مع لباسها، وليس كونه فريضة أو رمزا دينيا، وليست مشكلة علاقته بما أسموه الإسلام السياسي، ولا هي مشكلة الصحوة مع الأخوات المسلمات في الغرب أو في البلدان الإسلامية، إنما هي مشكلة فرنسا مع نفسها وعلمانيتها وساساتها ومخاوفها الذاتية الحقيقية والموهومة بصدد انتشار الإسلام فيها وفي الغرب عموما. 

 

حضيض الإكراه في الأصولية العلمانية


قد يتبنى المسلم من المنطلق الإسلامي -ككاتب هذه السطور- الاجتهاد الفقهي القائل بفرضية الخمار (غطاء الرأس) وعدم فرضية النقاب (البرقع أو غطاء الوجه) وقد يحبذ الخمار للمسلمات في مختلف المجتمعات الإسلامية والغربية، ولكن لا يمكن أن يقبل بأساليب الإكراه التي كان غلاة العلمانيين الأصوليين يتهمون بها بحق ودون حق ما يسمونه "المجتمع الذكوري" الإسلامي تجاه النساء ولباسهن، والتي بات غلاة العلمانيين الأصوليين في فرنسا وسواها يمارسونها بحق المسلمات، تارة في المدارس، وأخرى في الدوائر الرسمية، والآن في الشوارع والطرقات، كما يؤخذ من كلام ساركوزي ومن مشروع القانون الجديد الذي يراد إصداره لحظر النقاب في جميع أنحاء فرنسا، وربما لتوسيع نطاق حظر الخمار أيضا.
أي صورة من صور الإكراه أشد وأنكى وأدعى للاستنكار والاشمئزاز من إصدار قوانين تريد الدولة أن تنزع بها حق الاختيار الحر للباس عن فريق من المواطنات فيها؟!..
أين معنى "كرامة المرأة" في أن يقول لها رئيس الدولة: لا يحق لك التعبير عن كرامتك وحريتك وأخلاقك ودينك إلا وفق ما تراه السلطة في بلدك؟!..
أي درجة من درجات التمييز الديني والعنصري أشد وأبشع من التمييز بين نساء ونساء في بلد واحد، ففريق يحق له أن يرتدي ما يشاء من اللباس أو لا يرتدي شيئا وفريق لا يحق له أن يرتدي ما يختار لنفسه بل عليه أن يلتزم بأمر الدولة له بشأن لباسه؟!..
أين معنى "احترام الدين الإسلامي كسواه في فرنسا" حسب تعبير ساركوزي، وهو ينتزع لنفسه وسلطة دولته الحق في تحديد ما تقرره أو لا تقرره النصوص الشرعية الإسلامية وما على المسلمة أن تفهمه وتطبقه أو لا تفهمه ولا تطبقه منها؟..
ليس صحيحا القول إن من المستغرب أن تصنع فرنسا ذلك وهي السباقة في طرح شعارات الحريات والحقوق الإنسانية والسباقة في طرح مزاعم كفالة العلمانية لها أكثر من أي مبدأ آخر، بل الصحيح هو القول إنها وصلت قبل سواها من الدول العلمانية الغربية إلى هذا الحضيض في التناقض بين ما تقول بها علمانيتها الأصولية عن نفسها وبين ما تمارسه على أرض الواقع، لأنها سبقت سواها في تلك المزاعم، فوصلت قبل سواها إلى هذه النتيجة. 

مزاعم حرية المعتقد وواقع تقييد الدين


إن مواقف الساسة الفرنسيين العلمانيين وممارساتهم تجاه المسلمات في فرنسا، تؤكد أن العلمانية الأصولية لا تكفل الحريات لمختلف الديانات كما تزعم لنفسها، بل تحارب الديانات من حيث الأساس، فإما أن يتبنى الشخص المتدين تلك العلمانية الأصولية بخيرها إن كان فيها خير وشرها الذي تبديه علنا، أو يتعرض لبطشها "القانوني"!..
قوانين الحظر في فرنسا لا تعني فقط إكراه المسلمة على الامتناع عن ممارسة ما تعتقد أنه فرض ديني تلتزم به، بل تعني من وراء ذلك أقصى درجات ممارسة ضغوط الطعن في حرية المعتقد أولا وانتهاك الحقوق الإنسانية عموما:
- إما أن تصبح الفتاة المسلمة الفرنسية علمانية أصولية بلباسها فتنزع خمارها.. أو تحرم من حق طلب العلم في المدارس
- إما أن تصبح المرأة المسلمة الفرنسية علمانية أصولية بلباسها فتنزع خمارها.. أو تحرم من حق العمل في الدوائر الرسمية
ويراد أن يضاف إلى ذلك الآن:
- إما أن تصبح المرأة المسلمة الفرنسية علمانية أصولية بلباسها فتنزع نقابها.. أو تحرم من المشي في الشوارع والظهور في الأماكن العامة والتردد على المتاجر وزيارة المتاحف والمعارض والمراكز الثقافية.
تلك صورة بشعة من صور حرمان المرأة من حقوقها وحرياتها وامتهان كرامتها والحجر عليها كما كانت في الغرب في قرونه الوسطى، التي يُفترض أن تكون الثورة الفرنسية قد أنهت مظالمها.
وإن كل علماني يتبنى ما تتبناه أو تريد أن تتبناه السلطات الفرنسية، ويدافع عنه، ويروغ حول مغزاه، يساهم في توجيه ضربة مباشرة لكل ما يزعم لعلمانيته على صعيد حقوق الإنسان وحرياته، وفي مقدمتها حرية المعتقد الديني.
حرية المعتقد الديني لا تتحول إلى حقيقة وممارسة على أرض الواقع، عندما يكون المطلوب من صاحب المعتقد الديني أن يسجن نفسه وراء جدران بيته أو مسجده أو كنيسته ليمارس دينه، وأن يحرم مما يحق لغيره من حقوق العلم والعمل والمعرفة والثقافة والسياسة والاقتصاد وغيرها، إلا إذا تخلى عن دينه!.. 

الإكراه منتهى الإفلاس


لئن صح وجود أسر مسلمة في الغرب أو في البلدان الإسلامية تمارس أسلوب الإكراه تجاه الفتاة المسلمة والمرأة المسلمة على صعيد اللباس وسواه، فلا يمكن أن يكون علاج هذا "الداء" بنقله إلى مستوى الدولة بصورة معاكسة، فالإكراه لا يكافح بالإكراه، والانحراف لا يكافح بالانحراف، والتشدد لا يكافح بالتشدد.
إن الدول الغربية التي تكافح التدخين على سبيل المثال، سلكت كل سبيل من سبل التوعية من أجل بيان أضراره، وتوعية الشبيبة بها، وتعديل القوانين ذات العلاقة بالترويج والدعاية له، ولم تلجأ إلى تقنين حظر التدخين في الأماكن العامة إلا بعد تلك السلسلة الطويلة من حملات التوعية، ثم كان ذلك الحظر الجزئي استنادا إلى إصابة غير المدخنين بأضرار التدخين من جانب المدخنين، وفق مبدأ حدود حريتك الشخصية وحقوقك تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين وحقوقهم، ولم يصل الأمر إلى حظر صناعته وبيعه ولا ممارسته في الشوارع والبيوت.
فأين في ارتداء الخمار أو النقاب الأضرار التي تلحق بحرية الآخرين وحقوقهم، وأين السلوك السياسي في فرنسا وسواها حملات التوعية بالتعاون مع المسلمين في فرنسا وسواها، إذا افترضنا جدلا أن للخمار أو النقاب ضررا يلحق بالمسلمة نفسها وبكرامتها؟..
إن ما تصنعه فرنسا يستهدف الإسلام فيها والمسلمين من مواطنيها، ولا يعبر فقط عن ازدواجية المعايير العلمانية الأصولية، بل يعبر أيضا عن إفلاس منظومتها على صعيد الحقوق والحريات على وجه التخصيص، وإفلاس رؤاها بصدد الإنسان وكرامته وفطرته ومعتقداته.
لقد بلغت مسيرة العلمانية الأصولية -لاسيما عبر انحرافاتها الاجتماعية والخلقية منذ سبعينات القرن الميلادي العشرين- مداها، وبدأت تنكفئ على نفسها، وتوجه الضربات الذاتية المباشرة لشعاراتها ومقولاتها، ولا يكاد العلمانيون الأصوليون يستوعبون أو يصدقون أن في الغرب جيلا جديدا، يتطلع إلى منظومة من القيم والأخلاق غير التي يروّجون لها بدعوى الحرية الفردية المطلقة وهم يسجنونها في قوالب رؤاهم الذاتية ويقيدونها حيثما يحلو لهم، ولا يريدون أن يستوعبوا أو يصدقوا أن منظومة القيم والأخلاق الإسلامية تجد من يميل إليها في أوساط الشباب والفتيات ممن نشؤوا في محاضن ثقافاتهم وتوجيهاتهم، رغم ضخامة الإمكانات التي يسيطرون عليها وينفقونها، ورغم المخططات التي يضعونها وينفذونها، وليس لجوؤهم إلى الإكراه عبر البطش "القانوني" إلا إعلانا مباشرا عن العجز عن تحقيق ما يرون عبر سبل الإقناع وعبر سيل التضليل على السواء.

نبيل شبيب

موقع مداد القلم

JoomShaper