خالص جلبي
كان الأستاذ عبد الحليم أبو شقة يزورني في ألمانيا وهو متأبطُ عشرات الكتب من التفاسير وكتب الحديث التسعة، وبرفقته زوجته الصالحة مَلَكة، التي كانت بحق ملِكة! ثم نستأجر له غرفة دافئة في ثلج ألمانيا ـ وهو المصري الذي لم ير الثلج في حياته إلا في السينما ـ  ثم يعكف على استخراج الأحاديث الصحيحة من بطون المتون، ويقول لا أريد من المسلمين أن يفعلوا أكثر من تأمل الحديث فقط؟

تأمل معي قصة أم سلمة وهي في المسجد تزاحم الرجال وتتعلم سورة قاف مباشرة من منبر النبي ص!

تأمل الرجل الذي يسأل عن الجماع فيكسل؟ فيلتفت النبي إليه وعائشة عنده ثم يقول أفعل أنا وتيك ونغتسل؟

تأمل معي حديث العروس وهي تتقدم بالضيافة للرجال؟ ثم يعقب أليس عجيبا غياب كل هذه الثقافة؟
تأمل معي حديث تلك المرأة التي خرجت إلى صلاة الصبح ثم يعتدي عليها رجل فلا ينهى النساء عن حضور صلاة الصبح، بل يقول بشروا المشائين في الظلمات بالنور التام يوم القيامة!

تأمل معي الحديث لاتمنعوا إماء الله مساجد الله؟ وعائشة تتامل لعب الحبشة في فناء المسجد، أو وهو تتخوف من القرآن أن تقرأه أو تلمسه في الحيض؟ فيقول لها حيضتك ليست في يدك؟

تأمل تدخل أم سلمة الحكيم في صلح الحديبية ونصحها للنبي ص أن يحلق ويقصر؟ فيتبعه الصحابة يكاد ينحر بعضهم بعضا غضبا وغيظا ويظهر صحة رؤيا هذه المرأة الحكيمة بالسلام أكثر من الخصام.

تأمل النبي ص تأتي له المرأة وهي تعرض نفسها للزواج عليه؛ فيُصعِّد إليها النظر ثم يصفها الحديث بأن في وجهها شيء من النمش ثم يعرض؛ فيتقدم صحابي فيطلب زواجها فيعقد لهما؟

يقول أبو شقة انظر إلى هذه المرأة في المسجد كاشفة الوجه، وتلك المرأة الوضيئة التي كان ابن العباس الفضل ينظر لها؛ فيمسك النبي وجهه فيديره، ويقول له لاتتبع النظرة النظرة؟ إنه أمر يستحق أن تكتب فيه موسوعة كاملة؟

وهو مافعله بكتابه تحرير المرأة في عصر الرسالة عليه رحمة الله فقد كان الرجل مثالا في العلم والأخلاق والفهم والنضج.

تأمل معي يرحمك الله قصة أم الدرداء والنبي ص يعتب عليها لماذا لاتتزين وتضع شيء من الميك أب ـ عفوا من التعبير ـ (الزينة) وتعتني بملابسها وشكلها؟ مالي أراك متبذلة؟ فتقول أبو الدرداء ليس له حاجة في النساء فقد طلق الدنيا؟.. أو بما معناه؟ فيطلب منه الحضور ثم يعظه بحديث بقي من الأحاديث الخالدات في المعنى الفعلي للزهد، والتوازن بين الجسم والروح والعقل، إن لزوجك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، وإن لزروك عليك حقا؛ فأعط كل ذي حق حقه؟

تأمل معي الصحابية التي قدمت من هجرة الحبشة فيدخل عمر رضي الله عنه عليها فيحدث كلام بينهما فتغضب وحين يسمع النبي ص بالحوار يثني عليها وأنها سبقت بالإيمان والهجرة.

تأمل قصة أم حرام التي كان يذهب لها النبي ص فينام عندها ثم يستيقظ وهو يضحك ويقول رأيت قوما من أمتي يركبون ثبج هذا البحر الأخضر مثل الملوك على الأّسِّرة؟ جهادا في سبيل الله، فتقول له ادعو الله لي أن أكون منهم؛ فيقول وهو كذلك أنت منهم، ثم ينام من جديد ويقوم من جديد فيكرر نفس الكلام فتقول له مرة ثانية يانبي الله أدعو الله لي أن أكون منهم ؟ فيقول نبي الرحمة ص أنت مع الأولين!

ثم نعرف أنها كانت مع غزوة قبرص زمن الأمويين فوقعت بها الدابة فماتت. 

يقول أبو شقة كل الأحاديث التي تتبعتها وهي في حدود أربعين حديثا تشير إلى أن كشف الوجه هو الأصل وهو السائد وهو عمل النساء في زمن الصحابة!

ثم يتبع أبو شقة حديثه فيقول لا بد من نفض التراث من جديد وإخراج موسوعة تخص المرأة والمرأة بشكل خاص، لأنه من هذا الباب جاء العمى والبلاء، حين أصيب المجتمع بالشلل، فهل يعقل أن يمشي الإنسان بساق واحدة. والمجتمعات الإسلامية اليوم تمشي بساق واحدة عضلية من فحول الرجال.

في ألمانيا عام 1979 م كنت شاهدا ملامح انفجار الثورة الإيرانية فلاحظت أن نصف المظاهرات ضد الشاه كانت من النساء لابسات الشادور، بل قتل منهم 600 يوم 8 أوجست المشهود؛ فلم يمنعهن لباس من ثورة وتمرد.

والقرآن يشير إلى هذا المنعرج في أكثر من آية من مساهمات المرأة؛ في سورة البروج إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات .. وفي سورة آل عمران فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى.. وفي سورة النحل من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة..

والخلاصة فنحن في عصر الجنون من طرفين؛ المسلمون مثل سمك السلمون، يهاجرون إلى أوربا ويرجعون إلى شرانقهم وقواقعهم المغلقة فيُحرجون ويحرِجون، تماما كما في رحلة سمك السلمون في كندا الذي يخرج من نهر فرايزر ويعود إليه.

والفرنسيون المرعوبون من الزحف الإسلامي بعد أن أصبحت اللغة العربية الثانية في باريس، بهجرة نصف شمال أفريقيا إليها كأنهم جراد منتشر، مهطعين إلى الداع هربا من جمهوريات وملكيات الخوف والبطالة والفلق والحبوس..

لكن في نهاية المطاف هناك الأعجب؛ فالأحاديث الأربعين التي استدل بها أبو شقة على أن الأصل هو كشف الوجه فضلا عن النقاب وسواه، أتى شيح نجدي اسمه البليهي فقال عن نفس الأحاديث إن فيها الدلالة الكافية على أن العورة الكبرى هي الوجه فوجب تغطيته..

ولكن المشكلة ليست هنا ولا هناك، ليست في قماش يغطي الرأس أو حسر عنه، بل بماذا يحشى الرأس من أفكار؛ فيفرز فعالية في السلوك أو كلل قاتل لايحيد..

ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لايقدر علي شيء، ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لايعلمون.. وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لايقدر على شي وهو كل على مولاه أينما يوجهه لايأت بخير؟ هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم؟

المعركة كما نرى هي حول الناب والنقاب وقماش يغطي الرأس، أما المخ فهو ليس مكان المعركة... 

JoomShaper