يوسف ضمرة
أزعم أنني واحد من المتابعين للحركة الأدبيّة، محلياً وعربياً، وعالمياً قدر استطاعتي. وقد لفتت انتباهي قضايا يمكن أن نلقي الضوء عليها بين حين وآخر. ولعلي لا أبالغ في القول إنني أفكّر منذ سنوات في الكتابة عن رشوة القارئ في العمل الأدبي، وقد شجّعني أخيراً ما كتبه الروائي الكويتي طالب الرفاعي في صحيفة «الحياة»، عن قدرة عنوان الرواية على ترويجها، مستشهدهاً برواية «بنات الرياض» لكاتبة سعودية!

تذكّرت على الفور «عابر سرير» و»سروال الفتنة» و»امرأة من طابقين» وسواها من عناوين الروايات والمجموعات القصصية والشعرية. ولفت انتباهي انّ معظم مؤلفي هذه العناوين هم من الكاتبات العربيات، ما يعني أن ثمّة ظاهرة لا بد من أن يكون لها أسبابها ودوافعها عند مقاربتها في شكل علمي.

تناضل المرأة العربيّة من أجل المساواة، وهذا أمر لا غبار عليه، وبخاصة حين يكون مقروناً بوعي اجتماعي وسياسي شامل، أي حين يكون متوازياً مع النضال ضدّ الاستبداد والقهر والظلم، سعياً إلى إعلاء القيم الإنسانية السامية كلها، ومن بينها حق المرأة في المساواة. شهدت العقود الثلاثة الأخيرة نهضة أدبيةّ عربيّة نسويّة، تمثّلت في إنتاج أعمال أدبية متميّزة، الأمر الذي شجّع أخريات على اقتحام الحرم الأدبي، نظراً إلى ما يحقّقه ذلك من توكيد الذات الفرديّة للمرأة العربيّة، وهذا يعني خطوة على طريق المساواة المنشودة.

لكنّ هذه الاندفاعة المتأخّرة للمرأة العربيّة نحو الأدب، وهذه الهجمة المفاجئة التي أخذنا نلمسها أخيراً، لم تأت ضمن سياق اجتماعي وثقافي متوازن، بمقدار ما كانت مجرّد التحاق بالركب الذي حقّق الإنجاز، وحاز شهرة يستحقها بالضرورة.

ثمّة طابور طويل من الكاتبات العربيات الآن، ما زال يمتدّ ويتعرّج، ويكاد يشهد ازدحاماً سوريالياً، وكل واحدة من هؤلاء المتطفلات تظنّ أنّ الوقت حان كي يقف العالم العربي، وربما الكون، على ساق واحدة احتراماً لإبداعها الذي عزّ نظيره.

وفي هذا السياق، تلجأ كاتبات عربيّات إلى رشوة القارئ، بدءاً بعنوان إصدارها، وليس انتهاء بمضمونها. وهنّ في ذلك يشبهن كتَّاباً عرباً يقدمون رشوة من نوع آخر للقارئ الغربي، تتمثّل في استنساخ الصورة الغربية عن المجتمع العربي، بتسلّطه على المرأة، وعبوديّته، وقهره، باعتبار هذه المفردات جزءاً من القيم الدينية، وإرثاً عربياً أصيلاً لا يمكن التنازل عن ذرّة منه، كما يفعل الطاهر بن جلون مثلاً، الذي نجح في تسويق إنتاجه من هذه البوابة تحديداً، لا من بوابة الفن والإبداع والتميّز الجمالي كما قد يظنّ هو نفسه! ولا يفوتنا التوكيد هنا على أننا ضدّ أيّ إرث إستاتيكي، وضدّ أي بنية تقوم على ترسيخ مفاهيم جامدة غير قابلة للحوار والمقاربة والتطوّر. لكننا ضدّ أن يقوم أحد ما برسم ملامح عامة للمجتمع العربي، يبدو فيها المواطن بشعاً وكريهاً ومنغلقاً ومريضاً، سعياً إلى إرضاء المؤسّسة الغربية النخبويّة.

وعودة إلى بعض الكاتبات العربيّات، فإنّهن يقدمّن للقارئ العربي صورة أخرى، الهدف منها إثارة غرائزه، فيلجأن إلى الحقل الجنسي تحديداً، وهو ما يشكّل ضرب عصفورين بحجر واحد. فالجنس سلعة يمكن تسويقها بسهولة بالغة، كما أنه سلعة أكثر أهمّية حين يكون مسوّقها امرأة وليس رجلاً!

على هذا الاساس لا نستغرب إفراط كاتبات كثيرات في تناول الموضوع الجنسي بحسّية بالغة، ولا نستغرب أيضاً أن يكون هذا الإفراط مجرّداً من وعي شمولي، يربط بين الموضوع والشروط التاريخية والاجتماعية والسيكولوجية!

ويجب علينا ألا ننسى أنّ ثمّة كتّاباً ذكوريين جداً، يجدون في هذه الظاهرة فرصتهم السانحة، فيلجأون إلى تسويق مثل هذه الكتابات، باعتبارها تتسلّح بالجرأة والشجاعة والقدرة على مواجهة المجتمع العربي التقليدي، والخروج على القبيلة والإرث وتحطيم المألوف، وتمزيق شرنقة الخوف، وما شابه ذلك من توصيفات ومصطلحات، لا تعبّر عمّا هو جمالي وفنّي، ولا تغوص عميقاً لكشف أبعاد الرؤية الحقيقية التي تقف وراء مثل هذه الكاتبات.

إنّ كتابة كهذه لا تسهم إلا في تشويه الأدب العربي، من دون أن ننسى أن هنالك كاتبات عربيّات قدّمن إبداعات من دون رشوة من أي نوع، نظراً إلى ما يتمتّعن به من وعي اجتماعي، وإلى ما يتسلّحن به من طاقة جماليّة ليست في حاجة إلى جواز سفر مزوّر نحو القارئ العربي، وهو ما ندعو الكاتبة العربيّة إلى التنبّه له، لئلاّ تقع في دوّامة التحايل على القارئ.

وأخيراً لا بد من التذكير بأنّ هذه الظاهرة لم تعد وقفاً على الكاتبة العربيّة، إذ أخذنا نلمس مثل هذه الرشوة من كتَّاب آخرين، ارتأوا لأنفسهم هذا الطريق باعتباره الأقصر، والأقل عناء!

المبدع هو مَن يتمكّن من إعانتنا على رؤية الحياة من زاوية جديدة، وهو مَن يشركنا كبشر وكأفراد في التفكير والبحث عن المعرفة بجماليّة عالية، وهو مَن يتمكّن من طرح أحلامنا وهواجسنا، والنظر إليها بجدّية واحترام كبيرين، باعتبارها خط الدفاع الأول والوحيد عن الحرّية والهويّة، مع صرف النظر عن جنس هذا المبدع، وعن الموضوع الذي يتناوله، وبعيداً عن النزعة الحسية المجرّدة، التي هي في نهاية المطاف مجرّد فقاعة سرعان ما تنفقئ وتتلاشى وتتبدّد في الريح!

المصدر: "منتدى الامبراطور"،

JoomShaper