د.أسماء بن قادة
كنت مازلت طالبة في فرع الرياضيات في جامعة العلوم والتكنولوجيا في الجزائر وكنت أشارك في أحد ملتقيات الفكر الإسلامي في مدينة بجاية عاصمة الحماديين وكان موضوع الملتقى يدور حول الغزو الثقافي والمجتمع الإسلامي المعاصر، ثم كانت مداخلة في أحد أيام الملتقى، فصعدت ألقيها على المنصة، ولما نزلت، تقدم نحوي أحد الزملاء وهو يزاحم وسائل الإعلام، فلم وجد متسعا للحديث معي: اقترب وقال سائلا لماذا يا أخت أسماء؟ فسارعت إلى السؤال، خيرا؟ فقال: إنها فتنة! فقلت ماذا تعني، قال صعودك إلى المنصة فتنة لكل هؤلاء؟ فذهلت وأخذت أنظر إلى نفسي أتفحصها في محاولة لإدراك ما يعني، فالمداخلة قد حظيت بكثير من الإعجاب والاهتمام وتمت تغطيتها في كل وسائل الإعلام، والحضور نخبة من أبرز المفكرين في العالم، من أمثال موريس بوكاي وروجيه غارودي وزجريد هونكه والشيخ الغزالي والبوطي ومحمد أركون والندوي ...الخ...
وحتى القائد ياسر عرفات رحمه الله كان موجودا في تلك الجلسة وأجواء الملتقى علمية وفكرية تغلب عليها الطروحات الفلسفية المجردة وتتخللها مناقشات وتجاذبات فكرية وأحيانا سياسية ساخنة، وأنا في كامل احتشامي، فضلا عن أن الفضاء العام وفي كل مجالاته في الجزائر لايعرف الفصل بين الذكور والإناث، فدراستنا من الروضة إلى الجامعة لاتعرف الفصل وكذلك أماكن العمل وكل مجالات النشاط الانساني، بل لا يعرف في الجزائر أماكن مخصصة للعائلات وللنساء، فما الذي جعل الرجل يعتبر إلقائي للمداخلة فتنة؟! وبدأت رحلة الاستقصاء عندي تنتج أسئلة كثيرة في كل الاتجاهات، على اعتبار أن هذا المصطلح لم يكن متداولا بيننا كطلبة ولا في أوساطنا الفكرية والعلمية ولا حتى في أنشطتنا العامة، فعن أي فتنة يتحدث زميلي؟

توالت الأيام وتكثفت معها نشاطاتي في التلفزيون والإذاعة ومشاركاتي في الفعاليات الفكرية والثقافية، وبدأت هذه الكلمة تنتشر وتتردد على مسامعي في النشاطات العامة ولكني كنت مازلت عاجزة عن إدراك ومعايشة معناها في الواقع من منطلق العجز عن إسقاطها على ذات الواقع، إلى غاية أن بدأت تبرز بعض المظاهر الغريبة عن المعهود في مواقع النشاط والعمل الإسلامي، مثل تخصيص أماكن للنساء في الصفوف الأخيرة من قاعة النشاط ويفسر ذلك بالفتنة، ويفصل بين الرجال والنساء في المحاضرات العامة حيث توضع النساء في غرف ملحقة للمتابعة من خلال الفيديو ويقال فتنة، ثم شيئا فشيئا امتدت الحواجز الفاصلة بين الرجال والنساء إلى كل مكان اتقاء للفتنة وإغلاقا لبابها، لينتهي الأمر إلى تأليف أو استيراد الكتيبات الصغيرة والملصقات الموجهة إلى النساء من ذوات التعليم المحدود تطالبهن باتقاء الشبهات بالابتعاد عن مواقع الاختلاط حتى وإن كانت تعليمية أو عملية اتقاء للفتنة، فأدركت أن الكلمة التي بدت لي مصطلحا غائبا عن الواقع وعن التداول، أصبحت جزءا من الواقع بتحولها إلى ظاهرة واسعة، امتدت بانتشار ما يسمى بالصحوة الإسلامية كما أنها تلازمت في ظهورها مع مفهوم الاختلاط، وإن كانت الفتنة مفهوما أصيلا في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة بينما الاختلاط مفهوم دخيل على المعاجم الإسلامية وإلى هنا وضعت حدا لعملية التأمل فقد حان الآوان لدراسة المفهوم والبحث في خلفياته المعرفية وأبعاده لإدراك ما يجري من حولي، بعد أن شعرت بأن هناك مشكلة خطيرة تحيط بالمفهوم بعد ما انعكس في مظاهر متسعة تقوم فيها العلاقة بين الانسان والانسان في الفضاء العام على التهميش والإقصاء لتدفع بالمرأة نحو خط التماس وتتموقع هي في منطقة الجزاء، فضلا عن خطورة الوقوع في مغالطة تظهر الإسلام على غير حقيقته، بالإضافة إلى ذلك التناقض الصارخ الذي يجعل الطالب الذي يجلس بجوار زميلته على مدار السنة في مقعد الدراسة ثم يدفعها بها يوما في السنة إلى غرفة منسية في مكان هامشي يتوارى فيه الجسد بما يحمله من مخاطر الإغواء والإغراء والغواية، كل ذلك يقع في أجواء من التقوى والإيمان ومظاهر من الطاعة والالتزام، وكيف يمكن لامرأة تعيش عمقها الإنساني وكينونتها الذاتية بكافة أبعادها التي تدركها بشكل كلاني متكامل، أن تستوعب معاملتها كجسد ينبغي الوقاية منه ومواراته وإبعاده عن قلب الحدث، علما بأن غالبية من فتيات جيلي التزمن الحشمة أو الحجاب من منطلق حر ومستقل، بل في سياق من الصراعات الايديولوجية الفرنكفونية والفرنكو- شيوعية والعروبية والأمازيغية والإسلاموية ...الخ...

ولكن أن نقبل بأي مغالطة قد تشوه خياراتنا وعلى رأسها رسالتنا، فتلك إشكالية ترتبط بوجودنا، لايمكن لغير العلم أن يفكها فالعلم وحده القادر على فك هذه القضايا، لذلك عدنا إلى الحفريات المعرفية، لبذل مزيد من المجهود الفكري باتجاه البحث عن الحقيقة، إذ ليس هناك أخطر من الجهل المقدس على حد تعبير أوليفيه غوا Olivier Roy في كتابه الأخير الجهل المقدس l'ignorance sacrée الذي سيكون موضوعا لإحدى المقالات.

ما معنى الفتنة إذن؟ وما علاقتها بالاختلاط؟ وكيف تم توظيف قاعدة سد الذريعة في هذا المجال، ومن هو المؤهل لتحديد المصلحة شخص فرد أم جماعة أم حركة أم هيئة تابعة لدولة، وهل هو تخصص واحد أم مجموعة من التخصصات التي تبحث في هذه مثل المواضيع ، هل تضم الهيئات رجالا فقط أم رجالا علماء ونساء عالمات لاسيما أن الموضوع يرتبط بالمرأة الذي ظل الرجل على مدار أربعة عشر قرنا يتحدث عنها أو بالأحرى عن نفسه؟ ....الخ

وعودة إلى رحلتي مع المفهوم، لا ملجأ لنا ابتداء من العودة إلى رئيس المدارس المعجمية العلامة ابن منظور صاحب لسان العرب، الذي يتحدد فيه مفهوم الفتنة فيما يتعلق بالفرد، بالاختبار والامتحان والابتلاء، وقد ذكر المصطلح ثلاثين مرة في القرآن الكريم، من ثم يمكن القول ابتداء أن الفتنة منهجيا ليست هي المرأة، وليست هي التي تفتن الرجل ولكن الرجل هو الذي قد يفتتن بها، بمعنى أن المرأة هنا ليست فاعلا، ولأن الفتنة اختبار ولأن الخطاب القرآني نزل في بيئة رسخت فيها انساق ونماذج ثقافية عن الجسد المؤنث زخر بها ديوان العرب الذي تمادى في وصف أجساد تتثنى وتتأود وترفل وتتمايل مما زخر وتشبع به المخيال العربي، فجاء الخطاب القرآني ليرد لذلك الجسد طبيعته الانسانية من خلال محاربته للصفات الثقافية المكتسبة التي عمل على تفكيكها للحيلولة دون اختزال كيان المرأة في بعد تجزيئي أوحد ومشوه متمثلا في هوية الجسد الثقافي، حيث تحدد النصوص القرآنية آليات تسحب من خلالها أي محاولات تهدد الحضور الطبيعي للمرأة في المجتمع ، وكل ما من شأنه أن يخل بتوازن أصحاب أكثر القلوب مرضا من الذكور، فيتخذوا منه مبررا للعمل على إزاحة النساء من مساحة الفعل والفاعلية.

إن تلك الآليات القرآنية تضعف ذلك التمركز حول الجسد وترده إلى معناه الانساني وتمنحه مفهوما مركبا تدخل به النساء معترك الحياة عندما يحدد الشارع في كتابه المبين مجموعة من الآداب العامة التي يسحب من خلالها أية مداخل قد تؤدي إلى القراءة الغرائزية المباشرة للجسد مثل حدود الزينة وما يظهر منها وغض البصر للطرفين وحرمة الخلوة وعدم الخضوع بالقول، وقول المعروف وآداب الطريق.

فالمداخل الاضطرابية المخلة للتوازن بالنسبة للرجل يقابلها آليات منظمة أوضابطة تتمثل في الآداب الإسلامية المذكورة في القرآن وهي التي تحقق التوازن للطرفين وتسهل النجاح في امتحان الفتنة بالنسبة للرجل، ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن تهميش المرأة وفصلها عن حراك الفضاء العام غش في امتحان الفتنة وإلغاء للامتحان.

ولكن ما مرد تلازم الفتنة والاختلاط الذي أصبح سببا لها، وكيف دخل هذا المفهوم أصلا إلى ثقافتنا إلى أن أصبح جزءا من إشكالياتنا الفكرية، إن مفهوم الاختلاط Mixité قد ظهر في الغرب، ما بين القرن السابع عشر والثامن عشر عندما بدأت تتأسس المدارس فطرح موضوع الاختلاط، بينما لم تعرف مجتمعاتنا العربية ومنذ تأسيس دولة المدينة حواجز وفواصل بين الرجال والنساء، ومن ثم فإن وضعها يؤكد هروبا من الامتحان ورفضا للاختبار وظلما للمرأة وتجاوزا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما من حيث الواقع فإن الفتنة تنحسر أو تمتد، تصعب أو تسهل يزداد تأثيرها أو يقل وفقا لمفهومين أساسيين تستند إليهما، وهما مفهوما الجسد والأنوثة، أما بالنسبة للجسد فإنه يحمل في حياتنا المثقلة، دلالات اجتماعية وثقافية تكسبه بعدا حسيا مباشرا وماهية آداتية تجعل منه مادة استثمار سواء في اللغة الفقهية أو في الثقافة المكتسبة، ولذلك نجد تعريف عقد الزواج عند أغلب الفقهاء يقوم على حق الاستمتاع، الأمر الذي ينتهي باختزال العلاقة الزوجية إلى علاقة تعاقدية رغم كل ما ذكر في القرآن من معان انسانية مركبة تشمل المودة والرحمة والتشاور والتلابي والإفضاء ومن كونه ميثاقا غليظا ...الخ.. كما يربطه البعض بالغواية والإثارة، بتأثير من الإسرائيليات، فمفهوم الجسد إذن يستند إلى منظومة ثقافية أفقدت الجسد وحدته الكلانية، ومن ثم أصبح حضوره في الفضاء العام حضورا يبعث على القلق والخوف ولذلك لابد من سحبه إلى الهامش إلى غاية دفعه للابتعاد والتواري.

والجسد الفتنة هو ذلك الجسد الذي تستحضره المخيلة لتعيش فيه باستمرار استيهاماتها الشهوانية، وهنا يصبح المفهوم مغالطة كبرى، وبهذا التصور والتمثل تصبح حتى الفتنة بمفهوم الاختبار صعبة، فالجسد الفتنة هو ذلك الجسد الذي تم تجريده من مركباته المعنوية وطابعه الوجودي وكينونته، والمفتون هنا هو ذلك العاجز عن تجاوز الحسي والغرائزي والمادي إلى ما هو مركب وكلاني وانساني، فجسد المرأة إذن في ثقافتنا السائدة هو جسد ثقافي مكتسب وليس جسدا واقعيا بما هو عليه في حقيقته، على الرغم من أن الجسد يتوجع ألما إذا حزنت الروح، ويرقص فرحا إذا سعدت النفس، ويبكي حزنا إذا ألمت بالانسان أي لائمة، فالجسم يتفاعل عن الروح، ويتفاعل عن العقل، ويتفاعل عن كل المعاني الانسانية الداخلية وكما قال الإمام ابن القيم رحمه الله إنه مسكن الروح، وهوالناطق باسمها قبل أن يكون ناطقا باسم الشهوة، وكذلك الأنوثة التي يلتبس بها مفهوم الفتنة فيجعل منها سببا لانعدام التوازن عند الرجل، لا لشيء، إلا لانعكاسها في ذاته كصفة أو صورة أو شهوة وليس كجوهر وكينونة تتجاوز الحواس والغرائز بالتمازج معها والارتقاء بها.

إن فلسفة الجسد والأنوثة وتعبيراتهما لايمكن إدراكها من خلال ثقافة مكتسبة ولكن من خلال تأملات عاقلة لما يجري في أنفسنا وتعبر عنه دواخلنا ونعيشه في حقيقتنا الانسانية (وفي أنفسكم أفلا تعقلون) فإذا عقلنا تحكمنا في الآليات الضابطة وأصبحنا رجالا ونساء مهرة في التعامل معها.
وقد يسأل سائل لماذا توقفت ثقافتنا كعرب عند هذا الحد فسببت لنا القصور حتى عن إدراك ما يجري داخل ذواتنا؟ والجواب يكمن في أن الاجتهاد قد توقف وقراءات النص القرآني لم تتجدد ومن المفترض أن تدخل قراءتنا للقرآن الكريم في صيرورة ممتدة لاحدود لها من حيث التجدد فهو صالح دائما والديمومة الممتدة زمنيا لهذه الصلاحية ينبغي أن يرافقها اجتهادات دائمة التجدد والبحث والابداع من حيث القراءة والتفسير والمنهج والأدوات، كلما تغير الواقع تتجدد أدوات قراءته فضلا عن الاستفادة من التراكم العلمي والمعرفي للتراث، ذلك هو ما أسميه بناء ثقافة الاستيعاب، الاستيعاب المتجدد للنص القرآني والاستيعاب المتجدد ايضا لأبعاد الرسالة باتجاه مزيد من العمق والإدراك.

فكلما تغير مفهوم الجسد لدينا، بتصويب وفهم صحيح لمرجعيتنا القرآنية والسنية وباجتهاداتنا العلمية وتكامل معارفنا وتخصصاتنا في ممارستنا البحثية واجتهاداتنا كنساء ورجال عرفنا عن أنفسنا أكثر فتنحصر وتنحسر الفتنة ويسهل الاختبار علينا معا لنمضي معا في طريق الاستخلاف وبناء العمران، فنرقى بذلك ونتأهل لحمل الرسالة والعمل على نشرها في بقاع الأرض.

فالمجتمع المنشغل بالإنجازات تتعمق لديه المعاني المركبة للذات الانسانية في فضاءاته العامة والخاصة، فها هو نزار الذي عرف بشاعر المرأة وهو القائل "أنا مؤسس أول جمهورية شعرية أكثرية مواطنيها من النساء"، ومع كل ما ضمته دفاتره حول الجسد المؤنث من أنساق وصفها بعض كبار النقاد بأنساق الاستفحال، ولكنه عندما يصل إلى البطلة الجزائرية جميلة بوحيرد نجد المعنى الكبير الذي تمثله البطلة الرمز، يخترق هذا النسق حيث يصطدم عمق المعن بنسق الاستفحال فيضطره لاعتماد لغة أخرى تكبل جموح نزار، وتكبح شيطانه المارد فتتغير لهجة الشاعر الكبير لينتقل من الوصف الحسي المادي من خصور وقدود ومرمو ورخام، إلى العمق الانساني الخلاق عندما يقول (ويد تنضم على القرآن، وامرأة في ضوء الصبح، تسترجع مثل البوح، آيات محزنة الإرنان من سورة مريم والفتح، الاسم : جميلة بوحيرد، امرأة من قسنطينة لم تعرف شفتاها الزينة، لم تدخل حجرتها الأحلام لم تلعب أبدا كالأطفال، لم تحلم بعقد أو شال.لم تعرف كنساء فرنسا أقبية بيغال ...) ثم يكبر ويكبر المعنى ويمتد مفهوم الأنوثة وتتعدى ابعاده لما يردف ...(الاسم جميلة بوحيرد، امرأة دوخت الشمسا، جرحت ابعاد الأبعاد... ثائرة من جبل الأطلس، يذكرها النرجس، يذكرها زهر الكباد، ما أصغر جان دارك فرنسا في جانب جان دارك بلادي)!

جريدة الراية

JoomShaper